مقالات

التاريخ من باب المسخرة.. إلى باب الإنصاف

الأربعاء، 07 سبتمبر 2011 03:58 م

بقلم صلاح عيسى

مع أن التاريخ لا يخلو أحيانًا من المساخر، فإنه لا يفتقر أبدًا إلى الإنصاف، ولولا ذلك لشهد هذا العام احتفالًا بالعيد الأربعين لـ«ثورة التصحيح»، فى 15 مايو 1971، والعيد الثلاثين لثورة 5 سبتمبر 1981، وهما ثورتان مصريتان تنتميان إلى عهد الرئيس الأسبق «أنور السادات»، دخلتا التاريخ من باب المسخرة، وخرجتا منه من باب العدل والإنصاف.
.. و15 مايو 1971 هو اليوم الذى استطاع فيه الرئيس «السادات»، أن يتخلص من «مراكز القوى»، وهو الاسم الذى أطلقه على شركائه فى وراثة تركة «عبدالناصر»، الذين دعموا ترشيحه لخلافته، وفى ظنهم أنه رجل بلا طموح، وأنه سيكتفى بنصيب متواضع من التركة، هو أبهة المنصب ومظاهره، ويترك لهم كل مفاتيح السلطة الحقيقية، فاحتفظوا لأنفسهم بوزارات الدفاع، والداخلية، والمخابرات، والإعلام، والنقل، وشؤون الرئاسة، وسيطروا على المناصب الرئيسية فى تنظيمات الاتحاد الاشتراكى العربى من القمة إلى القاعدة، بأنفسهم أو بأنصارهم.
ولأن الله يضع سرّه فى أضعف خلقه، فقد استطاع «السادات» الذى لم يكن فى يده من السلطة سوى مقعد رئيس الجمهورية، أن ينتصر على هؤلاء جميعًا، وأن يقودهم من قمة هرم السلطة، إلى زنازين السجون، وأن يقدمهم إلى «محكمة ثورة» بتهمة الخروج على مبادئ ثورة 23 يوليو 1952، والعدوان على حريات المواطنين.
ومع أن سبب الأزمة كان صراعًا على السلطة، فقد اصطنع لها كل طرف سببًا آخر، ظن أنه الأكثر جاذبية للجماهير، فقالت مجموعة مراكز القوى، إن «السادات» يريد أن يتجه إلى أمريكا، وقال «السادات» إن خصومه يعارضون اتجاهه نحو تصفية المعتقلات، ووقف التنصت على التليفونات، وإطلاق الحريات، وكان ذلك أحد أسباب انتصاره عليهم، إذ كان إهدار الحريات، يضغط أيامها - وقبلها وبعدها - بقوة على أعصاب المصريين.
وهكذا دخلت ثورة التصحيح من باب الصراع على السلطة، وهو من أبواب المسخرة الشائعة فى تاريخ مصر.. وفى تاريخ غيرها من بلاد العالم.
وطوال السنوات العشر التى حكم خلالها «السادات» مصر، كان الاحتفال بثورة التصحيح يشمل سلسلة من الأعياد، تبدأ فى 14 مايو بالاحتفال بـ«عيد مجلس الشعب»، باعتباره اليوم الذى قرر فيه المجلس فصل 17 من أعضائه، من بينهم الرئيس والوكيلان، لأنهم من أنصار مراكز القوى، و«عيد إحراق الشرائط» نسبة إلى اليوم الذى أشعل فيه الرئيس فى فناء وزارة الداخلية تلاً من شرائط التسجيل، قيل إنها كانت تحتوى على حصيلة التنصت على تليفونات المواطنين، و«عيد تحطيم المعتقلات»، نسبة إلى اليوم الذى ضرب فيه بيمناه - سلمت يمناه - أول فأس لهدم عنبر المعتقلين والمسجونين السياسيين فى سجن ليمان أبوزعبل، وكان «السادات» يختار أحد هذه الأيام، لكى يلقى فيه سلسلة من الخطب، يعلن خلالها إجراءات ثورية.
وخلال هذه السنوات، وبالذات فى أسابيع الاحتفال بأعياد ثورة التصحيح، ازدحمت الصحف بعشرات الآلاف من المقالات التى تتغزل فى ديمقراطية 15 مايو، ومئات الصفحات من التحقيقات والإعلانات التى تهنئ بالثورة، وتبارك لبطل الحريات، وتندد بالعهد البائد الذى كممت فيه مراكز القوى أفواه المصريين، واكتظت نشرات الإيداع بدار الكتب المصرية.. بمئات العناوين لمؤلفات أكاديمية ودواوين شعر من نوع: «15 مايو.. ثورة التأصيل الفكرى»، و«مايو حبيبى» و«مايو يا غرامى»، وأُطلق اسم «مايو» على مدن وأحياء ومدارس ومستشفيات وبوتيكات وجسور علوية وصحف.. وفضلًا عن الأغانى، فقد ساهم «مايو» فى حل العقدة الدرامية لكثير من الأفلام السينمائية، إذ ما تكاد الأزمة تصل إلى ذروتها، حتى تقوم ثورة 15 مايو، فيخرج البطل من سجون مراكز القوى ليتزوج البطلة، ويعيشان فى التبات والنبات، وينجبان صبيانا وبنات!
وخلال هذه السنوات، تراكمت - كذلك - التناقضات بين كل القوى السياسية وقيادة ثورة 15 مايو، وانتقل بعضها من تأييدها إلى معارضتها، واتسع نطاق المعارضة، وتصاعد نشاطها خاصة بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، فلم يجد قائد ثورة التصحيح حلًا إلاّ بالقيام بثورة جديدة، هى ثورة 5 سبتمبر 1981، التى شملت إغلاق صحف المعارضة، ونقل الصحفيين وأساتذة الجامعات إلى أعمال غير صحفية وغير أكاديمية، واعتقال 1536 من المعارضين السياسيين ينتمون لكل التيارات، وإيداعهم فى عنبر المعتقلين بسجن ليمان أبوزعبل، الذى كان قد أُعيد بناؤه، بعد أن ضرب بيده الكريمة - سلمت يده - قبل عشر سنوات أول معول لهدمه، وقال إنه أراد أن يحمى الديمقراطية ممن يستغلونها للقضاء عليها، وأطلقت الصحف على يوم 5 سبتمبر 1981، اسم «ثورة الديمقراطية».
ولولا أن السادات قد اغتيل بعد ذلك بشهر واحد، لما اختفت ثورة التصحيح، وثورة 5 سبتمبر من قائمة الثورات المصرية، ولما مرّ العيد الأربعون للأولى منذ أسابيع من دون أن يحتفل به أحد، ولما مر العيد الثلاثون للثانية هذا الأسبوع من دون أن يتذكره أحد.. لأن ما يدخل التاريخ من باب المسخرة.. يخرج منه من باب الإنصاف.