الدكتور محمد أبو الفضل بدران يكتب: الطاهر مكى العائد إلى الجنوب

الخميس، 06 أبريل 2017 02:06 م
الدكتور محمد أبو الفضل بدران يكتب: الطاهر مكى العائد إلى الجنوب الراحل الكبير الطاهر مكى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

 

1.

لماذا أوصى أن يُدفن فى قريته؟ كيف يحرّك الإنسان فى عقله صديقا من دائرة الأحياء إلى دائرة الموتى؟ وأى مشقة يتكبدها المرء وهو يبحث فى أسماء معارفه بالهاتف فلا يبصر إلا رقم عزيز راحل، فينظر مليّا فى حروف اسمه وتنهال الذكريات عسى أن يرجعه مرة أخرى من خلال مواقف وذكريات لا تنسى؟

كيف لأستاذ الأساتذة  الطاهر مكى، كما وصفه الصديق الدكتور علاء رأفت، أن يمضى دونما وداع، ما دار فى خلدى أنى سأرثيه! فكيف لحروف اللغة التى علمنى إياها أن تكون عصيّة على الرثاء؟

2.

"...

كَادَ مِن شُهرةِ اسمِهِ لا يُسَمّى"   البردوني

ها هو البردونى متحدثا عن المتنبى، البردونى الذى ما عرفناه لولا أستاذنا الدكتور الطاهر مكى، فلماذا لا أستعير شطر بيته هذا لنبدأ الحديث عن الطاهر مكى الذى "كادَ مِن شُهرةِ اسمِهِ لا يُسَمّى"،  عندما كنت طالبا فى الفرقة الأولى بالجامعة تمنيت أن أراه بعد أن قرأت كتابه الرائد عن امرئ القيس فى مرحلة الثانوية، وشدّنى هذا الكتاب إلى عالم أمير الشعراء لا منازع، ورحت أقرأ ما كتبه عن دارة جلجل، ولأول مرة أحس حلاوة المعلقات، لقد أهدانى بكتابه هذا عشق الشعر الجاهلى، كيف يتجشم عناء السفر من القاهرة إلى قنا بالقطار، كان القطار يصل إلى المحطة فى الخامسة مساء، ها هو قادم كالرمح فى مشيته المميزة، دخل القاعة فى إباء وتواضع الكبرياء، وقال لنا:

معذرة يا أبنائى فقد تأخر القطار، يا إلهى: الطاهر مكى يعتذر لصبية قادمين من الثانوية، وكان هذا الاعتذار درسا فى تواضع العلماء، ربما لا يدرى الأستاذ كم يؤثر فى طلابه!

وبدأ الطاهر مكى يتحدث عن مصادر الأدب وراح يقدم لنا أبا الفرج الأصفهانى وكتابه الأغانى، وكأنه كان صاحبه وملازمه، يضحك على المواقف التى تعرض لها المجنون قيس، ثم يردف مبتسما: لم تكن ليلى جميلة  ولا حاجة!! ولكنه العشق، يفند الروايات ويحاكم الرواة والأسانيد، تخرج من المحاضرة وقد قرأت الكتاب دون أن تلمسه.

2.

ندعوه لأمسية شعرية وقد أسسنا نادى الأدب والفكر بالكلية، يأتى مكى ويستمع إلينا جميعا شعراء ومتشاعرين ثم ينقدنا فى رفق وتشجيع، هنا كسر عروضى، وهناك صورة غريبة لو... ينتصف الليل، نمشى معه فى شوارع قنا التى يحفظها فقد درس بها فتى، يشرح لنا هنا سكنتُ وهنا تعرفت على المدينة إذ كان قادما من المطاعنة وهى قرية بإسنا، فنداعبه فى احترام "يا مرحبا بقنا وإسنا" فيقول لنا ليس حفنى ناصف وحده المنفى إلى الصعيد، يا ولدى ما يزال الصعيد منفى!! يتحدث عن الصعيد بوله، وكأنه عمدة الصعيد، يحل مشكلاتهم ويجلس معهم فى القرية، ويلاحقونه فى القاهرة، يضحك وهو يحكى لى، يجيئون إلى بالقاهرة، واستأذنت منهم فى الصباح كى أطبع امتحانا سيُوَزع بالكلية فى التاسعة صباح اليوم، عندما عاد لم يجدهم بالشقة فى العجوزة حيث كان يقطن، ويعرف من أخيه المستشار عبد الستار رحمه الله تعالى أنهم غادروا غاضبين "الطاهر سابنا فى الشقة ومشى للشغل"!.

3.

فى مدخل الحمراء كان لقاؤنا

                     ما أطيب اللقيا بلا ميعاد

نجلس مندهشين فى القاعة بقنا؛ ونحن نتجول فى قاعات قصر الحمراء بالأندلس الذى يصفه لنا حجرا حجرا، بيتا بيتا، هذه الأبيات الشعرية، والمقولات "لا غالب إلا الله" فوق جدران الحمراء، يحوّل قصيدة نزار قبانى إلى لوحة عشق وأسى للأندلس، نتخيل هذا الحوار الذى يقرّبه لنا ويصفه لنا وكأنه الراوى العليم الذى صاحَب نزار قبانى فى الحمراء وفى جنة العريف، عندما زرتُ غرناطة ودخلت الحمراء كان دليلى هناك الطاهر مكى، ورحتُ أردد قصيدة نزار بصوت مكى فى قاعة الكلية:

فى مدخل الحمراء كان لقاؤنا ,,,,,, ما أطـيب اللقـيا بلا ميعاد

عينان سوداوان فى حجريهما ,,,,,, تتوالـد الأبعاد مـن أبعـاد

هل أنت إسبانية؟ ساءلـتها ,,,,,, قالت: وفى غـرناطة ميلادى

غرناطة؟ وصحت قرون سبعة ,,,,,, فى تينـك العينين.. بعد رقاد

وأمـية راياتـها مرفوعـة ,,,,,, وجيـادها موصـولة بجيـاد

ما أغرب التاريخ كيف أعادنى ,,,,,, لحفيـدة سـمراء من أحفادي

وجه دمشـقى رأيت خـلاله ,,,,,, أجفان بلقيس وجيـد سعـاد

ورأيت منـزلنا القديم وحجرة ,,,,,, كانـت بها أمى تمد وسـادي

سارت معي.. والشعر يلهث,,, خلفها كسنابـل تركـت بغيـر حصاد

يتألـق القـرط الطـويل بجيدها ,,,,,, مثـل الشموع بليلـة الميـلاد..

ومـشيت مثل الطفل خلف دليلتى ,,,,,, وورائى التاريـخ كـوم رمـاد

 قالت: هنا "الحمراء" زهو جدودنا ,,,,,, فاقـرأ على جـدرانها أمجـادي

أمجادها؟ ومسحت جرحاً نـازفاً ,,,,,, ومسحت جرحاً ثانيـاً بفـؤادي

يا ليت وارثتى الجمـيلة أدركـت،،،،، أن الـذين عـنتـهم أجـدادي

عانـقت فيهـا عنـدما ودعتها ,,,,,, رجلاً يسمـى "طـارق بن زياد"

 

4.

فى عشقنا اعتمدنا على ابن حزم وطوق الحمامة بتحقيق الطاهر مكى وكنا نتجول فى قرطبة ونحن فى قنا ونقول عن المحبوبة نقلا من شعر ابن حزم :

أغارُ عليكِ من إدراكِ طرفي             وأشفقُ أنْ يُذيبك لَمسُ كفِّى  ...

ثم يقول لنا: تذكّروا أن قائل هذه الأبيات الفقيه ابن حزم، كان يقول ذلك فى الثمانينيات فماذا يقول اليوم؟؟

5.

يدعونا الأمير الفضل بن العباس الدندراوى للحوار والغداء على ضفاف النيل ببيته "ساحة النور" بدندرة، يتحول الطاهر مكى فى حواره من زعيم فى حزب التجمع إلى صوفى حتى النخاع، كنتُ معيدا آنذاك، رأيته يناقش فى الأحوال والمقامات، ورأيت على وجهه سيم الرضا، تحدث الأمير الفضل عن أحوال المسلمين فى العالم، وعما ينبغى أن يكونوا عليه، كان الأكل شهيا لكن الحوار أشهى وألذ.

فى أثناء عودتنا ترجّل مكى فوق كوبرى دندرة الذى يربط بين قنا الشرق ودندرة والترامسة الغرب، مشينا فى معيته وكأننا المريدون فى إثر شيخهم، أو الحلاج وأتباعه على نهر الفرات مرددا:

و اللهِ ما شرقتْ شمسٌ و لا غربتْ             إلاَّ  وذكركَ  مقرونًا  بأنفاسي

 وما خلوتُ إلى قومٍ أحدِّثهم                   إلاَّ وأنتَ حديثى بين جُلاَّسى

و ما هممتُ لشربِ الكأْس مِنْ ظمأ           إلاَّ رأيتُ خيالاً منكَ فى كاسي

 

6.

استشرته قبل سفرى إلى ألمانيا، نصحنى بالسفر وأن تكون أحلامك باللغة الألمانية، لكن لا تنس موضوع كتابك عن "الخَضِر"، كان يتابع أبحاثى وأشعارى ويقوّمها فى أبوة حانية أحيانا وقاسية فى أحايين أخرى، وهو يتمثل بالبيت الشهير:

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما     فليقس أحيانا على من يرحمُ

7.

حدثنى عن الأدب الإسلامى المقارن، أستطيع أن أقول إنه دلّنا على كنز لم ننتبه إليه، هل كنا مندوهين بنداهة الغرب فى الأدب المقارن، وكأن مركزية الغرب فى كل شىء حتى فى الأدب المقارن، كيف لم نتجه إلى الأدب الإفريقى والأوردى والتركى والفارسى وغير ذلك مما يجاورنا ونعيش فى معيته دون أن نلتفت إليه، أرى أن ذلك كان فتحا جديدا فى الدراسات المقارنة؛ وكم فرح بكتابى "الخضر فى الآداب العالمية" الذى قال لى: "هذا هو الكتاب الذى تمنيت أن أكتبه" فرحى بمقولته فرح لا يوصف، كيف لأستاذ فى قامته يشجع تلميذه بهذا الكلام، وكأنه نسى أن هذا الكتاب وليد محاورات معه ونبت كتابه عن الأدب الإسلامى المقارن.

8.

يقرر أن يرشح نفسه لانتخابات مجلس الشعب عن محافظة قنا ضد أمين حزب مصر الحاكم آنذاك، أقيمُ له أمسية فى حبه بقريتى العويضات بقفط، يتجمع أهلى والقرى المجاورة فى مشهد لم تره القرية من قبل، الجميع يتدافع للسلام عليه، الأطفال يفترشون الأرض تحت جميزة المَلَقَه كما نسمى ميدان القرية، يربط مكى بين مَلَقَة العويضات و"ملقا" الأندلس وينشد الشعراء قصائد فى مدحه يحثونه كى يمضى فى الترشح حتى يخلصنا؛ يقول له الشاعر العامى ربيع فريد:

"

يا نور المنادرْ

يا طاهر يا طاهرْ

يا نائب بلادنا

كفاية وجودكْ

وعلمك وجودك

يا نور المنادر"

ويقف الطاهر مكى وقد هاله هذا الجمع وهذا الحب ليقول "لقد كان أحمد شوقى يقصدنى عندما قال: قد يهون العمرُ إلا ساعةَ     وتهون الأرضُ إلا موضعا

ويصفق له الحضور فيعلق على صِبية تسلقوا شجرة الجميز العريقة أمام مندرتنا وهم يصفقون له فيطلب منهم أن يمسكوا بأطراف الشجرة حتى لا يسقطوا وأنه مقدر حضورهم وفرحهم به راجيا فى مودة أن يتركوا أمر التصفيق للأرضيين، وتضج الملقه بالتصفيق والبهجة.

يأخذ من الأصوات ما يحقق له الفوز ولكن النتيجة نجاح الآخر!!!!

9.

عندما كنا طلابا فى السبعينيات كتب الطاهر مكى فى الصحف والمجلات مطالبا بإنشاء جامعة فى قنا، قابل المسئولين فى حماس، وكان معه الدكتور إسماعيل معتوق رحمه الله، ولم يكن أحد يعتقد فى جدوى ما يكتب لكن تحولت الكليات الثلاث إلى فرع لجامعة أسيوط، ولم تفتر همته بل دافع حتى تحقق له فى 1995 إنشاء جامعة جنوب الوادى فى قنا، كلنا فى الجامعة مدينون لهذا الرجل.

10.

تعدّ  طالبتى منى عبد العظيم رسالة ماجستير عن الطاهر مكى مبدعا وناقدا، يكتب لها سيرته الذاتية فى صفحات قليلة، فأقول لها: ليته ما سكت، إنه لا يود أن يتكلم عن نفسه، لديه مخزون من المعلومات والأسرار، متى يبوح به، ومتى يكتب سيرته الذاتية؟ ستكون مرجعا لحقب لم نعشها وخبايا لمّا تكتشف بعد، متى تبدأ؟

11.

كم كان فرحا وهو يقرأ مقالاتى عنه فى الحياة ودراسات ثقافية وفى "العرب" اللندنية، وغيرها يهاتفنى شاكرا، وهو لا يعرف أنى اتخذته قدوة لى منذ أن قرأته، عندما أتصفح ما كتب أوقن أن هذا الرجل قد جاء فى زمن ليأخذ أمثالنا إلى العلم، وعندما أرى نصف مليون من الشباب تخرّج من جامعة جنوب الوادى مذ كانت فرعا لجامعة أسيوط أوقن أن هذه هى الصدقة الجارية والعلم الصالح الذى ينتفع به، وأن أبى عندما قال له "لا تنسنا من دعائك" كان فى قلبه أن "العلماء ورثة الأنبياء".

12.

أستاذى الدكتور الطاهر مكى وداعا كم يفزع القلب بآماله إلى تكذيب حقيقة موتك عندما يجزع فى وفاة عالم كبير وأستاذ عزيز على القلب والعقل لكنها مشيئة الله تعالى فلك الخلد ولنا أجر الصبر، كان الطاهر مكى الأستاذ الذى جمع بين التدريس والتأليف والترجمة والتنظير والتحقيق.. كان موسوعة فى علمه وخلقه فقد تخرج من كلية دار العلوم مع مرتبة الشرف فى 1952 وحصل على دكتوراه الدولة بامتياز من جامعة مدريد 1961 وعمل أستاذا بجامعات أمريكا اللاتينية وتونس والمغرب والجزائر والإمارات العربية المتحدة وغيرها ويعد رائدا من رواد الأدب الأندلسى، آمل أن نجدد مكتبته العامرة بإسنا وأن يكون له قصر ثقافة يحمل اسمه وأن نحافظ على مكتبته بالقاهرة وأن تنشئ جامعة القاهرة حقل دراسات باسمه فى الأدب والنقد ومن الجدير بالذكر أن جامعة جنوب الوادى قد رشحته هذا العام لنيل جائزة النيل.

 أستاذى الطاهر مكى: إلى لقاء







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة