نواصل، اليوم، الوقوف مع كلام الإمام القرطبى فى تفسيره المعروف بـ"الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآى الفرقان"، ونقرأ ما قاله فى تفسير سورة البقرة فى الآية الـ 25 (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِى رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ).
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) فيه ثلاث مسائل:
الأولى:
لما ذكر الله عز وجل جزاء الكافرين ذكر جزاء المؤمنين أيضا. والتبشير الاخبار بما يظهر أثره على البشرة- وهى ظاهر الجلد- لتغيرها بأول خبر يرد عليك، ثم الغالب أن يستعمل فى السرور مقيدا بالخير المبشر به، وغير مقيد أيضا. ولا يستعمل فى الغم والشر إلا مقيدا منصوصا على الشر المبشر به، قال الله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الانشقاق: 24]. ويقال: بشرته وبشرته- مخفف ومشدد- بشارة بكسر الباء فأبشر واستبشر. وبشر يبشر إذا فرح. ووجه بشير إذا كان حسنا بين البشارة بفتح الباء. والبشرى: ما يعطاه المبشر. وتباشير الشيء: أوله.
الثانية:
أجمع العلماء على أن المكلف إذا قال: من بشرنى من عبيدى بكذا فهو حر، فبشره واحد من عبيده فأكثر فإن أولهم يكون حرا دون الثاني. واختلفوا إذا قال: من أخبرنى من عبيدى بكذا فهو حر فهل يكون الثانى مثل الأول، فقال أصحاب الشافعي: نعم، لأن كل واحد منهم مخبر.
وقال علماؤنا: لا، لأن المكلف إنما قصد خبرا يكون بشارة، وذلك يختص بالأول، وهذا معلوم عرفا فوجب صرف القول إليه. وفرق محمد بن الحسن بين قوله: أخبرني، أو حدثني، فقال: إذا قال الرجل أى غلام لى أخبرنى بكذا، أو أعلمنى بكذا وكذا فهو حر- ولا نية له- فأخبره غلام له بذلك بكتاب أو كلام أو رسول فإن الغلام يعتق، لأن هذا خبر. وإن أخبره بعد ذلك غلام له عتق، لأنه قال: أى غلام أخبرنى فهو حر. ولو أخبروه كلهم عتقوا، وإن كان عنى- حين حلف- بالخبر كلام مشافهة لم يعتق واحد منهم إلا أن يخبره بكلام مشافهة بذلك الخبر. قال: وإذا قال أى غلام لى حدثني، فهذا على المشافهة، لا يعتق واحد منهم.
الثالثة:
قوله تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) رد على من يقول: إن الايمان بمجرده يقتضى الطاعات، لأنه لو كان ذلك ما أعادها، فالجنة تنال بالايمان والعمل الصالح.
وقيل: الجنة تنال بالايمان، والدرجات تستحق بالأعمال الصالحات. والله أعلم.
{أَنَّ لَهُمْ) فى موضع نصب ب {بشر) والمعنى وبشر الذين آمنوا بأن لهم، أو لان لهم، فلما سقط الخافض عمل الفعل.
وقال الكسائى وجماعة من البصريين: {أن) فى موضع خفض بإضمار الباء. {جَنَّاتٍ) فى موضع نصب اسم أن، وأن وما عملت فيه فى موضع المفعول الثاني. والجنات: البساتين، وإنما سميت جنات لأنها تجن من فيها أى تستره بشجرها، ومنه: المجن والجنين والجنة. {تَجْرِي) فى موضع النعت لجنات وهو مرفوع، لأنه فعل مستقبل فحذفت الضمة من الياء لثقلها معها. {مِنْ تَحْتِهَا) أى من تحت أشجارها، ولم يجر لها ذكر، لأن الجنات دالة عليها. {الْأَنْهارُ) أى ماء الأنهار، فنسب الجرى إلى الأنهار توسعا، وإنما يجرى الماء وحده فحذف اختصارا، كما قال تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82] أى أهلها.
وقال الشاعر:
نبئت أن النار بعدك أوقدت ** واستبّ بعدك يا كليب المجلس
أراد: أهل المجلس، فحذف. والنهر: مأخوذ من أنهرت، أى وسعت، ومنه قول قيس بن الخطيم:
ملكت بها كفى فأنهرت فتقها ** يرى قائم من دونها ما وراءها
أى وسعتها، يصف طعنة. ومنه قول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه». معناه: ما وسع الذبح حتى يجرى الدم كالنهر. وجمع النهر: نهر وأنهار. ونهر نهر: كثير الماء، قال أبو ذؤيب:
أقامت به فابتنت خيمة ** على قصب وفرات نهر
وروى: أن أنهار الجنة ليست فى أخاديد، إنما تجرى على سطح الجنة منضبطة بالقدرة حيث شاء أهلها. والوقف على {الْأَنْهارُ) حسن وليس بتام، لأن قوله: {كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ) من وصف الجنات. {رِزْقاً) مصدره، وقد تقدم القول فى الرزق. ومعنى: {مِنْ قَبْلُ) يعنى فى الدنيا، وفيه وجهان:
أحدهما- أنهم قالوا هذا الذى وعدنا به فى الدنيا.
والثاني- هذا الذى رزقنا الدنيا، لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك وقيل: {مِنْ قَبْلُ) يعنى فى الجنة لأنهم يرزقون ثم يرزقون، فإذا أتوا بطعام وثمار فى أول النهار فأكلوا منها، ثم أتوا منها فى آخر النهار قالوا: هذا الذى رزقنا من قبل، يعنى أطعمنا فى أول النهار، لأن لونه يشبه ذلك، فإذا أكلوا منها وجدوا لها طعما غير طعم الأول. {وَأُتُوا) فعلوا من أتيت. وقرأه الجماعة بضم الهمزة والتاء. وقرأ هارون الأعور {وَأُتُوا) بفتح الهمزة والتاء. فالضمير فى القراءة الأولى لأهل الجنة، وفى الثانية للخدام. {بِهِ مُتَشابِهاً) حال من الضمير في: {به)، أى يشبه بعضه بعضا فى المنظر ويختلف فى الطعم. قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم.
وقال عكرمة: يشبه ثمر الدنيا ويباينه فى جل الصفات. ابن عباس: هذا على وجه التعجب، وليس فى الدنيا شيء مما فى الجنة سوى الأسماء، فكأنهم تعجبوا لما رأوه من حسن الثمرة وعظم خلقها.
وقال قتادة: خيارا لا رذل فيه، كقوله تعالى: {كِتاباً مُتَشابِهاً) [الزمر: 23] وليس كثمار الدنيا التى لا تتشابه، لأن فيها خيارا وغير خيار. {وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ) ابتداء وخبر. وأزواج: جمع زوج. والمرأة: زوج الرجل. والرجل زوج المرأة. قال الأصمعي: ولا تكاد العرب تقول زوجة.
وحكى الفراء أنه يقال: زوجة، وأنشد الفرزدق:
وإن الذى يسعى ليفسد زوجتى ** كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وقال عمار بن ياسر فى شأن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها: والله إنى لأعلم أنها زوجته فى الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم. ذكره البخاري، واختاره الكسائي. {مُطَهَّرَةٌ) نعت للأزواج. ومطهرة فى اللغة أجمع من طاهرة وأبلغ، ومعنى هذه الطهارة من الحيض والبصاق وسائر أقذار الآدميات. ذكر عبد الرازق قال أخبرنى الثورى عن ابن أبى نجيح عن مجاهد: {مُطَهَّرَةٌ) قال: لا يبلن ولا يتغوطن ولا يلدن ولا يحضن ولا يمنين ولا يبصقن. وقد أتينا على هذا كله فى وصف أهل الجنة وصفه الجنة ونعيمها من كتاب التذكرة. والحمد لله. {وَهُمْ فِيها خالِدُونَ). .. {لَهُمْ) مبتدأ. {خالِدُونَ) خبره، والظرف ملغى. ويجوز فى غير القرآن نصب خالدين على الحال. والخلود: البقاء ومنه جنة الخلد. وقد تستعمل مجازا فيما يطول، ومنه قولهم فى الدعاء: خلد الله ملكه أى طوله. قال زهير:
ألا لا أرى على الحوادث باقيا ** ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا
وأما الذى فى الآية فهو أبدى حقيقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة