كان الملك فيصل الثانى، ملك العراق، قليل الكلام فى اللقاء الذى جمعه بالوفد المصرى الذى يزور العراق يوم 16 يوليو، مثل هذا اليوم 1954، برئاسة صلاح سالم، ويضم محمود رياض، وفتحى الديب، يتذكر «رياض»، وزير خارجية مصر من 1964 حتى 1972، ثم أمين عام جامعة الدول العربية من 1972 حتى 1979، أنه أمام صمت الملك، ترك دفة الحديث لولى العهد، الأمير عبدالإله، الذى كانت شخصيته طاغية على شخصية الملك، فهو عمه وأكبر منه سنا، يضيف «رياض» فى الجزء الثانى من مذكراته «الأمن القومى العربى بين الإنجاز والفشل»: «خلال حديثه معنا لاحظت تكراره لكلمة «شعبنا» طوال الحديث، وتبين لى أنه لا يتحدث عن شعب العراق، وإنما يتحدث عن أهل الحجاز، وكأنه لا يريد أن يعترف بأن الشريف حسين، وأنجاله، لم يعودوا يحكمون الحجاز، ما تسبب فى توتر العلاقات لفترة طويلة بين الأسرتين الحاكمتين فى السعودية والعراق».
كانت زيارة الوفد المصرى، ضمن جولة عربية يقوم بها بعد حسم الصراع لصالح «عبدالناصر» مع محمد نجيب فى مارس 1954.يؤكد «رياض» أن «عبدالناصر» قرر سفر الوفد المصرى، وكان هذا أول اتصال مباشر بين «مصر الثورة» والقادة العرب للتعرف عن قرب على مواقفهم وتصوراتهم لمستقبل المنطقة والعلاقات العربية، ثم محاولة تحقيق التفاهم حول العمل العربى الموحد لمواجهة الأخطار الخارجية، وتحديد الموقف العربى بالنسبة لسياسة الأحلاف، يذكر فتحى الديب، فى كتابه «عبدالناصر وتحرير المشرق العربى»، أن مهمتهم كانت محاولة إقناع المسؤولين العراقيين بخطورة موافقتهم على قيام «حلف بغداد» الذى يربط بين تركيا وبريطانيا والعراق.
كان نورى السعيد، هو رئيس وزراء العراق وقتئذ، ويذكر «رياض» أن لقاءهم به وبالملك فيصل والأمير عبد الإله، كان فى مصيف «سرسنك» شمال العراق، وأن الأمير عبدالإله، ترك الحديث للسعيد ليقود المناقشة من الجانب العراقى فى الموضوعات السياسية، ويقدم «رياض» تعريفا تاريخيا للسعيد يقول فيه، إنه ينتمى لجيل شاهد قوة الإمبراطورية البريطانية وانتصاراتها فى الحرب العالمية الأولى، وكان هو نفسه من الذين شاركوا فى الثورة العربية، بقيادة الشريف حسين، حاكم الحجاز لمعاونة بريطانيا ضد الأتراك، وشهد كيف اجتمع موظف من وزارة الخارجية البريطانية وآخر من فرنسا فى نهاية الحرب، ليرسموا حدود الدول العربية التى اعتزموا اقتسامها عندما يتم لهم النصر وينتهى الوجود التركى فيها، ووقعوا اتفاقية «سايكس بيكو»، وبقيت هذه الحدود الدولية للدول العربية حتى الآن.
يضيف «رياض»: «عاش السعيد الأحداث عندما دخل الملك فيصل ابن الشريف حسين، دمشق، ونصب ملكا فى مارس 1920، وأنشأ أول حكومة برئاسة هاشم الأتاسى، وعندما انسحبت القوات البريطانية من سوريا بالاتفاق مع فرنسا، ودخلت القوات الفرنسية دمشق فى يوليو 1920، أرغمت الملك فيصل على ترك سوريا، فتوجه إلى العراق حيث تم تنصيبه ملكا بموافقة بريطانيا، وشهد «السعيد» نقض «بريطانيا العظمى» لتعهداتها للشريف حسين، بإقامة دولة عربية موحدة تضم فلسطين، ورفضت تنصيب ابنه الأمير عبدالله ملكا على فلسطين، وأعطته بدلا من ذلك إمارة شرق الأردن، وشهد بريطانيا وهى تقضى على الإمبراطورية التركية وتضع الحدود للدول العربية، ورآها تعين من تريد من الملوك والأمراء العرب، وتقصى من تريد.
يرى «رياض» أن هذه الأحداث «أثرت على تفكير نورى السعيد، وجعلته مفتونا بقوة الإمبراطورية البريطانية التى لا تغيب عنها الشمس، ويستبعد تماما بأن يكون بمقدور العرب مقاومة السياسة البريطانية، ويؤمن إيمانا راسخا بضرورة الاعتماد على بريطانيا فهى «لن تفقد وجودها فى منطقة القناة كما فقدت مستعمراتها فى آسيا وأفريقيا، وتصبح مجرد دولة أوروبية صناعية تجاهد للاحتفاظ بمستوى معيشة قريب من المستوى السائد فى الدول الأوروبية الأخرى».
يتذكر «رياض»، أن «السعيد» تقدم إلى الوفد المصرى بمعادلة حسابية لتأكيد وجهة نظره، قال فيها: «قوة كل دولة عربية تعادل الصفر، وأن مجموع أى عدد من الأصفار هو صفر، وبالتالى فإن قوة الدول العربية مجتمعة حصيلتها هو الصفر، وأن التعاون مع بريطانيا والدخول فى أحلاف مع الدول الإسلامية مثل تركيا وإيران وباكستان سوف يؤدى إلى حصولنا على السلاح، وأن هذه الدول سوف تنضم إلى العرب فى نزاعهم مع إسرائيل».
يعلق «رياض» بأنه خرج من الحديث الطويل للسعيد، باقتناع أكيد بأن الموضوع أكبر بكثير من اختلاف فى الاجتهاد السياسى، وإنما تصادم بين عقليتين، فتفكيره يقوده إلى استحالة القدرة على مقاومة السياسة البريطانية، ولا بديل عن التحالف معها، وجمال عبدالناصر يرى ضرورة مقاومة وإنهاء السيطرة البريطانية فى المنطقة، وأن إنجاز هذه المهمة ضرورة أسياسية للتحرر والتقدم العربى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة