إن كان المبتكر هو من يبتكر اختراعًا يخدم البشرية ويقدّم زاوية جديدة للتعامل مع الحياة؛ فإن “جورج إيستمان”؛ رائد التصوير الفوتوغرافي، ومؤسس شركة “كوداك” العالمية، من أبرز المبتكرين، رغم كل التحديات التي مرت بحياته، وبالتزامن مع أصعب الفترات والمراحل التي شهدها العالم بأسره، فكيف كانت تجربته في الحياة؟
طفولة حزينة
ولد جورج إيستمان في 12 يوليو عام 1854 في ووترفيل بولاية نيويورك الأمريكية، لشقيقتين أكبر منه. تلقّى تعليمًا ذاتيًا، بمدرسة خاصة في روتشستر وهو في الثامنة من العمر؛ حيث ترعرع في مزرعة والديه، ثم مرض والده؛ فاضطرت الأسرة إلى التخلي عن المزرعة والانتقال إلى روتشستر عام 1860.
كان والده “جورج واشنطن إيستمان” هو من أسس كلية إيستمان التجارية في الأربعينيات من القرن الـ19، وكان ذا تأثير كبير على نجله وأسرته بالكامل التي لم تصمد كثيرًا بعد تدهور صحته ورحيله بعد عامين من انتقالهم.
جاءت التداعيات المصاحبة لرحيل الوالد سلبية على الأسرة بأكملها؛ إذ اضطرت الأم لنقل “جورج” من مدرسته، ليلتحق بأخرى داخلية؛ من أجل تحمٌل تكاليف تعليمه.
حب العائلة
عانت إحدى شقيقتيه من مرض شلل الأطفال، وكانت جليسة الكرسي المتحرك، ورحلت عندما بلغ أخوها عامه الـ 16. لم تعط الحياة “جورج” كثيرًا من الخيارات؛ إذ دفعته ظروف العائلة الصعبة إلى ترك دراسته، والعمل في مكتب تأمين، إلا أن شغفه بالعلم وتطوير الذات كان دافعًا قويًا ليستأنف تعليمه فيما بعد.
مع مرور كثير من الصعوبات على الأسرة، زاد تمسكهم ببعضهم البعض، لاسيما في الأوقات العصيبة؛ فكان “جورج” قريبًا من والدته “ماريا” طوال عمره.
بداية رحلة العمل
في عام 1877، قرر إيستمان العمل في مجال العقارات؛ فتوجه إلى جزر الكاريبي؛ حيث كانت تشهد ثورة في شراء الأراضي، مصطحبًا كاميرا خاصة لتوثيق رحلته، بناءً على نصيحة من أحد زملائه.
كانت الكاميرا ثقيلة ومكلفة؛ إلا أنه تمسك بشراء المعدات. كانت دقة الملاحظة التي يتسم بها جورج، مساهمة في نجاح ابتكاره فيما بعد، فعلى الرغم من فشله في جني الأرباح من رحلته؛ إلا أنها تحولت إلى رحلة جديدة ومسار مختلف لتحسين جودة الكاميرات، لتكون أقل تعقيدًا، وأقل تكلفة، وأكثر سهولة في الاستخدام.
اقتحام عالم التصوير
بعد اطلاعه على منشور في صحيفة بريطانية، تشجع جورج لتطوير لوح التصوير؛ الذي كان مكونًا من الزجاج؛ فصنع لوحًا من مادة “الجيلاتين”؛ ما جعله أخف وزنًا، وأقل خطورة.
وعقب فترة قصيرة، ترك عمله، وبدأ العمل كمصور، في الوقت الذي كان فيه التصوير مهنة شاقة جدًا، خاصة مع الحجم الضخم للكاميرا، وعيوبها الكثيرة المتمثلة في عدم الدقة في التقاط الصور.
تأثر إيستمان ببعض المصورين العالميين أمثال: “جورج مونرو”، و”جورج سيلدن”؛ اللذين علماه الكثير عن فن وعلم التصوير.
براءة اختراع
وجد إيستمان في التصوير شغفه، فحرص على تطويره؛ إذ اخترع- مع صديقه “ويليام هول ووكر”- حاملًا للفيلم خفيف الوزن، يمكن وضعه داخل الكاميرا؛ ليحصل الثنائي على براءة اختراعه عام 1886.
حقق اختراعهما نجاحًا مبهرًا؛ إذ ساهم في إحداث نقلة نوعية في عالم التصوير، وخاصة في الطبيعة، فبات المجال أسهل من ذي قبل.
كان اختراع الحامل بادرة النجاح لجورج إيستمان؛ إذ اخترع بعدها كاميرا سهلة الاستعمال، بتكلفة 25 دولارًا فقط، تحتوي على فيلم يمكنه التقاط 100 صورة.
تطلب الأمر في البداية من الزبون أن يلتقط صوره، ثم يرسل الفيلم إلى الشركة التي يتعامل معها “إيستمان”؛ لتحميض الصور، وتسليمها مقابل 10 دولارات؛ إلا أن الطموح لعب دورًا في حياة جورج؛ الذي سعى إلى تأسيس شركته الخاصة.
شركة “إيستمان كوداك”
تحت شعار “اضغط على الزر، وعلينا بالباقي”، أسس جورج شركة “إيستمان كوداك” عام 1892 بمنطقة روشستر، ثم توالت اختراعاته بمرور السنين؛ الأمر الذي ساهم في توسع الشركة لتمتلك مصنعًا في إنجلترا أيضًا؛ حيث عمل جورج رئيسًا لمجلس الإدارة ورئيسًا للشركة.
في عام 1889، استأجر الكيميائي هنري ريتشينباخ لتطوير نوع من الأفلام المرنة، يمكن إدراجها بسهولة أكبر في الكاميرات. قام توماس إديسون بتكييف الفيلم لاستخدامه في كاميرا التصوير السينمائي التي كان يطورها؛ ما زاد من نجاح الشركة.
إنجازات متتالية
عقب 5 سنوات، أطلقت الشركة كاميرا “كوداك” للجيب عام 1897، ثم أطلقت الكاميرا القابلة للطي بعدها بعام فقط، وتطورت بسرعة هائلة حتى أطلقت كاميرا “براوني” المخصصة للأطفال بسعر دولار واحد، ومن هنأ بدأ العالم في ترديد كلمة “كوداك” عوضًا عن استخدام كلمة “كاميرا”.
مع بداية القرن العشرين، كان لدى الشركة أكثر من 3 آلاف موظف، ثم أنتجت شريط فيلم غير قابل للالتواء؛ حلًا للمشاكل التي كان يواجهها المستخدمون مسبقًا؛ حيث سجلت براءة اختراع جديدة باسم “كوداك” عام 1903.
لعبت الشركة دورًا مهمًا خلال الحرب العالمية الأولى؛ إذ ساعدت الولايات المتحدة الأمريكية في بناء صناعتها الكيميائية، وأوقفت الاعتماد على التزويد الألماني، كما طوّرت كاميرا خاصة لالتقاط الصور من الطائرات الحربية، والنظارات غير القابلة للكسر لأقنعة الغاز التي يستعملها الجنود.
وبحلول عام 1920، بلغ عدد موظفي الشركة 15 ألف، بينما استمرت “كوداك” في النمو باسم “جورج إيستمان” الذي أفنى حياته في العمل بشكل دؤوب؛ سعيًا وراء شغفه.
مسؤولية اجتماعية
ورغم احتكاره سوق التصوير، كان جورج محبًا للخير؛ إذ امتد إنفاقه أبعد من مجال عمله، وأنقذ معهد الميكانيكا المتعثر في روشستر _ الذي أصبح معهد روتشستر للتكنولوجيا _ ودعم معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، مؤمنًا بأهمية التعليم.
كان جورج من أوائل الصناعيين بالولايات المتحدة الأمريكية، الذين تبنوا تطبيق مفهوم تقاسم أرباح الموظفين، كما حرص على تقديم هدية من ماله الخاص لكل المستخدمين.
وصية أخيرة
استمرت نجاحات شركة إيستمان حتى 14 مارس 1932؛ ذلك التاريخ الذي تغيّر فيه كل شيء؛ إذ دعا جورج كل شركائه وأصدقائه إلى اجتماع، ليكتب وصيته أمامهم.
أوصى إيستمان بتخصيص جزء كبير من ثروته لمدينته روشستر، وجزءًا آخر للعناية بأسنان الأطفال في المدينة، ومبلغ 200 ألف دولار لإحدى قريباته.
عقب كتابة وصيته ومغادرة كل الحضور، مات رائد التصوير الفوتوغرافي في العالم، بعد النجاح الكبير الذي شهده طوال مسيرته.
الدروس المستفادة:
قيمة الحياة: يعلم رائد الأعمال قيمة حياته جيدًا، فلا يتخلى عنها لأي سبب، ويعتبر شغفه هو الدافع الأساسي للمضي قدمًا لتطوير ذاته، وتحقيق إنجازاته.
الاستفادة من الهوايات: تفتح الهوايات آفاقًا جديدة لرواد الأعمال والمبتكرين؛ حتى يحققوا طموحاتهم وأهدافهم.
التغلب على الأخطاء: يحرص رائد الأعمال الناجح على التغلب على أخطائه السابقة، والتعلم من التجارب التي تمر بحياته.
المسؤولية الاجتماعية: يجب أن يحرص رائد الأعمال على أن يكون مسؤولًا اجتماعيًا، يحب الخير لغيره وينفق على الفقراء والمحتاجين.