"أنا جائع يا رب" العنوان الذى اختاره الشاعر الكبير كريم عبد السلام لديوانه الجديد المقرر صدوره خلال الأسابيع المقبلة، مع انطلاق فعاليات معرض القاهرة الدولى للكتاب 2023
ديوان " أنا جائع يا رب" هو الديوان السابع عشر فى مسيرة الشاعر الكبير كريم عبد السلام ، الذى يعتبر أحد الأصوات البارزة فى قصيدة النثر المصرية والعربية الجديدة ، ويأتى بعد مسيرة حافلة ومتنوعة بالأعمال الشعرية شديدة الخصوصية والتى تمثل مسارا مختلفا يبدأ بالجماعة الإنسانية وهمومها ومعاناتها وتطلعاتها وينتهى بفتح المجال أمام الوعى الجمالى بقصيدة النثر العربية ، منها : "الأب وقصائد المطر"1993 ـ " بين رجفة وأخرى" 1996 ـ "باتجاه ليلنا الأصلى" 1997 ـ "فتاة وصبى فى المدافن" 1999 ـ "مريم المرحة" 2004 ـ "نائم فى الجوراسيك بارك" 2006 ـ " قصائد حب إلى ذئبة" 2010 ـ "كتاب الخبز" 2011 ـ "قنابل مسيلة للدموع" 2011 ـ "أكان لازما يا سوزى أن تعتلى صهوة أبى الهول" 2014 ـ "مراثى الملاكة من حلب" 2015ـ "وكان رأسي طافياً على النيل " 2017- " الوفاة السابعة لصانع الأحلام" 2018- " ألف ليل وليل "2019 -" شاى مع الموت" 2020- "محاولة لإنقاذ جيفارا" 2021
يتضمن ديوان " أنا جائع يا رب" عشرين قصيدة ، وتقع فى نحو 96 صفحة من القطع المتوسط ، وتبدأ بالقصيدة الافتتاحية " أيها البعوض المحترم" وتنتهى بقصيدة ختامية بعنوان " مدينة الحدائق المعلقة" ، وما بين القصيدة الافتتاحية والقصيدة الختامية سبع عشرة قصيدة قصيرة بالإضافة إلى نص طويل ، يمكن اعتباره العمود الفقرى للديوان أو المتن الرئيسى الذى يقوم عليه الديوان ويحمل عنوان الديوان فى الوقت نفسه " أنا جائع يارب"، وهو مونولوج طويل أو مناجاة على غرار خطابات ومواقف المتصوفة مع الذات العلية بما تحمله من بث وشكوى ودعاء وتساؤلات ومحبة وصلاة وابتهال وإسرار ولجوء وعبور على كل الوسطاء بين العبد وربه.
والديوان بقصائده العشرين ، وضمنها بالطبع القصيدة الرئيسية، مفاجئ فى التقاطاته وقصائده والتفاتاته ، وبعيد عن التيارات والسياقات المألوفة فى القصيدة العربية ، فهو تنويعات على حال الجوع ، بما يشير إلى هزيمة روحية وعجز عن الرؤية ونقص فى ما تقوم عليه النفس حتى تقدر على مكابدة الحياة ومشاقها وتجاربها ، يقول الشاعر فى قصيدة " أنا جائع يا رب" : " ها أنا أواصل التجوال / عسى أن تلقى بشيئ من الطعام على رأسى/ ولكنك لا تنظر إلى/ أنا لا أقصد أن أرفع صوتى /ولكن ضجيج السيارات عال من حولى / يتشاحنون ويقهقهون ويهافون / زحام وأنا متعب/ زحام والغربان تنهش رأسى/زحام ولا أجد علامة/ وأنا أمشى وأنظر إليك"
عن أى جوع يتحدث كريم عبد السلام فى قصائد هذا الديوان ؟ وخصوصا فى النص الطويل المعنون بعنوان الديوان ؟ أهو الجوع الفيزيقى الأولى ، الجوع إلى الطعام أو الخبز كما يرد كثيرا فى مفردات الديوان ، ويتكرر كمفردة نحو خمسين مرة فى مقطع بصرى دلالى فى نهاية القصيدة المتن الرئيسى؟ أم أن هناك مستويات من الجوع الفيزيقى والروحى يحيل إليها الشاعر ويتطلع إلى تجاوزها بالمونولوج الطويل الذى يبدو بلا بداية ولا نهاية ويتضمن البث والشكوى والدعاء والتساؤلات والصلاة والابتهال والإسرار واللجوء والعبور على كل الوسطاء
من ناحية ثانية ، يحيل الديوان والقصيدة الرئيسية فيه إلى أجواء المراثى فى العهد القديم ، وخاصة مراثى إرميا ، بما تشير إليه من هزيمة روحية واستغاثات وشكوى وأنات مستضعفين يطلبون المدد وهم مذهولون من واقع هزيمتهم غير المصدقة ، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، يقول كريم عبد السلام فى القصيدة الرئيسية: " لا زالت السيارات تمرق حولى/ والعالم ضيق ضيق/ رأسى يصطدم بالنجوم/ ويدى تسقط فى بركان/وقلبى الذى كان يتسع للجميع/ أصبح ورقة ذابلة فى الخريف/ العالم حوائط ولا طريق/نفق ولا مخرج/ والناس لازالوا يسيرون ويتبادلون التحيات/فتيات جميلات عبرن أمامى مثل نسمة العصر /والسماء ملبدة/ والإذاعات تبث الأغانى /والبائعون ينادون على بضاعتهم/ لماذا لم تحولنى حجرا يا رب؟ / لماذا "
يذكر أن الشاعر كريم عبد السلام صدر له عام 2011 ديوان بعنوان " كتاب الخبز" وفيه يستعرض المكابدة اليومية للبسطاء فى سبيل الحصول على رغيف العيش ، وما يمثله الخبز فى الذاكرة الشعبية للمصريين ، وكيف أنه معادل للحياة ورابط أساسى فى العلاقات الإنسانية وقيمة يتم الاستناد إليها فى الحكم على الأشخاص ، ومن هنا يعتبر ديوان " أنا جائع يا رب" قطعة بازل فى جدارية الشاعر كريم عبد السلام المعنية بقضايا المهمومين والمحرومين والمهمشين والضعفاء ورصد أحوالهم ومعاناتهم ولحظاتهم القصوى فى الفرح والحزن والأمل والألم.
وفى السطور التالية ننشر القصيدة الرئيسية فى ديوان " أنا جائع يا رب" والتى تحمل أيضا عنوان الديوان
أنا جائعٌ يا رب
------------------
شوارعُ تفضى إلى شوارع،
فتارين
ومحالٌ مضاءة
وأطعمةٌ شهية
بشرٌ يعرفون إلى أين يتجهون
آخرون يتسكعون و يضحكون
بشرٌ يشعرون بالطمأنينة
وأنا أنظر كل برهة إليكَ،
هل ترانى؟
أنا مثلُ العصافير البلدية،
التى تطير لمسافات بسيطة أو تحجل على الأرض
لكنّكَ تُرشد عيون العصافير
إلى حبات القمح المخبأة وسط الحصى،
و تنسانى
ترشدها إلى طعامها وسط آلاف الأقدام التى تدبّ
والكلاب التى تتلمظ والقطط المترقبة،
ثم ترتفع بها إلى السماء
بينما تتركنى أمشى إلى ما لا نهاية
دون أن تشفق علىّ
دون أن تدلّنى
دون أن تطعمنى.
................
أنا لا أريد أن ترتفع بىَ إلى السماء
أريد أن ترشدنى إلى حبّاتِ قمحى
ها أنا أجرب شوارع جديدةً حتى تعبتْ قدماى
وأنا أنظر إلى السماء كل برهة
وأنت علاّم الغيوب
تعرف أننى لا أنظر إلى السماء بل أنظر إليكَ
أرشدنى
كما ترشد الكلاب والقطط إلى المزابل الغنية بالبقايا
أعطنى حاسة شم الكلاب
امنحنى دهاء القطط التى تبدو واثقة
امنحنى قدرتها على القنص
مُرنى وأنا أتحول من الشوارع المضاءةِ بالنساء الجميلات،
لأنتقل إلى الصحراء
وأعيشَ مثل الثعالب
ألا ترزق الثعالبَ ؟
ألا تدلّها على جحور الفئران وأعشاشِ اليمام
اجعلنى مثل الثعالب
دُلّنى مثل الكلاب
أدخِلْ الطمأنينة إلى قلبىَ مثل القطط
ألم تخصصْ لىَ رزقاً اليوم
قل لى لأربط حجرا على معدتى
ولكن ماذا عن الأمس وأول أمس
ماذا عن الأسبوع الماضى
هل تترك العصافير أسبوعاً دون قمح؟
ألستَ الضامن للأرزاق
ألا ترعى الدودة تحت الحجر
لماذا تتجاهلنى
.................
ها أنا أواصل التجوال
عسى أن تلقىَ بشئ من الطعام على رأسى
ولكنك لا تنظر إلىَّ
أنا لا أقصد أن أرفع صوتى
ولكنّ ضجيجَ السيارات عالٍ من حولى
يتشاحنون ويقهقهون ويهتفون
زحامٌ وأنا متعب
زحامٌ والغربان تنهش رأسى
زحامٌ ولا أجد علامة
وأنا أمشى وأنظر إليكَ
.......................
منذ سنوات وأنا أحلم حلماً واحداً
نعم ما زلتُ أحلم
لا أدرى لماذا أحلم
أو كيف أحلم وأنا لا أنام
بل أسقط فى لحظات من الغيبوبة
وبعدها أنهض مفزوعاً
أحلم كلَّ يوم أننى أدخل بيتى بعد يوم عمل شاق
فأجد زوجتى تعدّ العشاء
وأطفالىَ مبتهجين بعودتى
ويتحلقون حولى..
قل "بسم الله" أولاً يا ولد
يا ابنتى كُلى بيمينك
وأستمع إلى ثرثرات زوجتى وشجاراتها مع الجارات
لا أبدى ضيقاً ولا تبرماً
لا أشرد وأنا أشرب الشاي
أو أفكر فى النوم ساعات
قبل العمل الشاق الذى ينتظرنى غداً
لكنّ زوجتى تركت البيتَ
وأطفالىَ ينتظرون
وأنا دون عمل
وأفكر لماذا يلازمنى كل يوم
هذا الحلم الموجع
تصوّر يا رب
مهما اجتهدت أن أبقى عينىّ مفتوحتين
يهاجمنى الحلم ويأتي معه بالنوم
ليسقطنى بالضربة القاضية
ثم يتركنى أتخبط فى اليقظة المفزعة