قصور فادح فى التغطية:
ترددت كثيرا قبل أن أقررالكتابة عن الراحل الكبير مفيد فوزى، لأننى هجست بأن كثيرا من الكتّاب والصحفيين والمعنيين والمتابعين والنقاد والإعلاميين والمثقفين من الذين عاصروه فى بداياته، أو فى مراحل مختلفة من عقد الستينات وماقبله وما أتى بعده، أن يتناولوا جهده وسيرته الصحفية الطويلة الشاقة والمتعددة الجوانب بالشرح والسرد المفرط، فمسيرة الرجل تربو عن أكثر من خمسة وستين عاما قضاها كاتبا ومحاورا صحفيا شديد الدهاء بشكل شامل، من صياغة الخبر، إلى كتابة التحقيقات، إلى إجراء الحوارات المثيرة، وكتابة البورتريهات، إلى الرحلات، إلى النقد الأدبى والفنى والسينمائى والمسرحى وخلافه، كان انقلابا كاملا وناعما فى الوقت نفسه فى الصحافة المصرية وربما كان البعض من الذين دأبوا لمتابعة تلك الجهود، رأوا أن بعضا من حواراته ولقاءاته مع شتى المصادر التى كان يلتقيها من كافة المستويات والطبقات والفئات والأعمار والمهن والماصب، كانت تتحول إلى مواجهات شرسة مستفزة، فالاستفزاز عند مفيد فوزى وآخرين كان مدرسة لاستنطاق أقصى ما عند المصدر من أخبار ومعلومات وأسرار وحكايات وانفعالات، وهذه طريقة برع فيها بالفعل كثيرا منذ تلك البدايات الأولى، عندما كان عمره لا يتجاوز اثنين وعشرين عاما، ولا أعتقد أن بابا من أبوابا الصحافة فى كل وجوهها، لم يطرقه مفيد فوزى، وبالتالى لم يبدع فيه، فهو من النوع الذى إذا فعلا شيئا، فلا مفر من إنجازه باتقان، فقلت لنفسى فلأطرق أنا أبواب الشبكة العنكبوتية لكى أبحث وأتعرف على بعض مانشرته المواقع والصحف عن هذا الرجل النشيط والموهوب والجاد والمثقف منذ بدأ العمل فى الصحفى عام 1956، وتابعت وقرأت كثيرا من التغطيات، فوجدت كثيرا ذلك غير حسن، وغير مفيد لنا ولا لمفيد نفسه عليه رحمة الله، فكل المتابعات كانت مشغولة بما كان عائما على وجه ذلك البحر الهادر والعميق، وكذلك انشغلت بسفاسف الأمور من مدهشات رخيصة ومفتعلة وفجة وبعض الفيديوهات التى تنقل انفعال فؤاد المهندس عليه، أو رد سناء جميل الصادم فى حواره معها، كما اختار ناشرو تلك الفيديوهات العناوين السخيفة والمسفّة والملفقة، فضلا عن هذه الفرقة الضالة التى راحت تلعب على وتر الدين، واستعادة حديثه عن الشيخ محمد متولى الشعراوى لتقليب الناس عليه بعد رحيله، وهى طريقة غير شريفة، وبالطبع قرأت وسمعت وشاهدت فى القنوات التلفزيونية كثيرا من المراثى وأشكال النعى الموجعة، لكن كل تلك المراثى لم تتجاوز ذلك الحديث عن أشكال المديح المريح الذى لا يكبّد الراثى أدنى مشقة بحث حقيقية ومقنعة فى عمق ذلك البحر الصاخب بأمواجه التى هدرت وترامت على كل شواطئ الفن والأدب والثقافة والقضايا الاجتماعية، والتى أعطت دررا ولآلئ ثمينة عبر كل تلك العقود التى مارس فيها الرجل كل أشكال ووجوه المهنة، ومنحتها قيمة فريدة، وكان يمارس كل ذلك بحب وتفان واستفزاز فى وقت واحد.
اختصاره فى بضعة عناوين مثيرة:
وللأسف لم تكن كل المصادر التى نقلت عنها كل الكتابات اللاهثة، سوى حوارات ولقاءات ومتابعات وأخبار وبرامج سريعة جدا، ماعدا كتابات بعض الذين عاصروه منهم الشاعر والفنان محمد بغدادى على سبيل المثال لا الحصر، والذى كتب بصدق ودقة من شاف وتقاطع واقترب عن تجربته معه فى بيته الأول مجلة صباح الخير، وربما تكون هناك كتابات أخرى لم أستدل عليها حتى الآن، ومن بين المصادر التى اعتمدت عليها المواقع، بعض اللقاءات مع مفيد فوزى نفسه، ومن تلك اللقاءات، لقاء طويل معه فى مؤسسة روز اليوسف عام 2016، وقى هذا اللقاء التلقائى والعفوى، كانت هناك بعض المعلومات التى أرسلها أستاذ مفيد فوزى نفسه، جانبتها الدقة، لأن الرجل كان يتحدث من الذاكرة فقط، وبالطبع كانت الأسئلة تنطوى على مفاجآت لم يتوقعها، ولذلك كانت الإجابات مرتجلة فى سياقات حميمية تكون مفروضة على تلك اللقاءات الدافئة، وبالطبع فى مثل هذه اللقاءات لا يستطيع المرء أن يقول عن نفسه كل شيء، دائما هناك الكثير من المسكوت عنه، لكن الأستاذ مفيد فى هذا اللقاء اتهم الكاتب والأديب الراحل محمد صدقى بأنه كان خبيثا، لأنه كان يستلم منه بعض ما يكتبه من تحقيقات، ولا يسلمها لرئيس التحرير أحمد بهاء الدين فى ذلك الوقت، ولا أعتقد أن ذلك كان صحيحا تماما، ولكن هذا كان اعتقاد مفيد فوزى، ولكن ما ذكره فوزى بأن أول موضوع نشر له بتوقيعه كان بعد أن تم تعيينه فى 1 يناير 1957، وهذا ما تنفيه الحقيقة كما سنذكر لاحقا، وكذلك لا أعرف كيف تم تعيينه فى عام 1957، وكل المعلومات التى نشرت عن حياته تقول بأنه تخرج فى عام 1959، عموما هذه المعلومات التى أتت على لسانه فى لقاءات حميمية، وجاءت بعد أن تجاوزت رحلة الرجل ستة عقود، لا بد أن يكون هناك بعض السهو، ولا بد أن تسقط بعض التفاصيل الدقيقة من الذاكرة، وبالتالى من الضرورى مراجعة تلك المعلومات بدقة حتى لو جاءت على لسان مفيد فوزى نفسه، لأن الرجل الذى مثّل وجها أصيلا وعلامة كبيرة فى تطوير الصحافة المصرية فى كل وجوهها، يستحق كل التقدير ومجهودات بحثية ذات أثر واضح، وهذا تكريم للصحافة المصرية التى أفنى كل حياته من أجلها، وتكريما لقرائه قبل أن يكون تكريما له.
ولد كبيرا فى بلاط صباح الخير:
ولنبدأ منذ بدأ تلك الرحلة الشاقة والممتعة، ونقطة البداية تتركز فى الرجوع إلى أرشيف مجلة صباح الخير التى صدر عددها الأول فى 12 يناير 1956، وكان فريق العمل الذى يقوده إحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين والفنان الكبير حسن فؤاد، ومن خلفهم السيدة العظيمة فاطمة اليوسف، المؤسسة والداعمة لكل المشاريع التى أنشأتها المؤسسة قبل أن ترحل فى عام 1958، أراد هؤلاء القادة فى إنشاء صحافة ذات مذاق خاص، ذلك المذاق الذى يختلف عن كل ما هو موجود، لكى تصبح مجلة "صباح الخير" هى الوجه الفنى والاجتماعى والثقافى لتلك المجلة التى انشغلت بالسياسة ومعاركها وتوترها وقلقها ومشاغباتها، وهى مجلة "روز اليوسف" التى تأسست عام 1925، وكان اختيار النجم الصاعد الكبير أحمد بهاء الدين ليصبح القائد والعقل والمنذ لأحلام جيل كامل، كان مقررا للمجلة المغامرة أن تصدر فى 5 يناير 1956، ولأسباب فنية صدرت فى 12 يناير، والتف حولها شباب الصحافة الموهوب بحماس منقطع النظير، وكتبت فاطمة اليوسف فى فاتحة العدد الأول تقول: "عندما أعلنت عن صدور مجلة (صباح الخير)، بدأت الناس تسألنى: لماذا اخترت هذا الاسم بالذات؟..، وكان هذا السؤال قد وجه إلىّ مرة من قبل، منذ ثلاثين سنة، عندما قررت أن أطلق على مجلتى الأولى اسم (روز اليوسف)"، وبعد أن استعرضت فاطمة اليوسف بعضا من ردودها، أنهت ذلك التقديم بقولها: "..وصباح الخير، تحية، فيها إشراق الصبح، وفيها أمنية الخير، وهى تحية لقاء اعتدت أن أوجهها كل صباح إلى أولادى، وإلى أصدقائى، وإلى العاملين معى، فأحببت أن أوجهها إلى قرائى أجمعين".
مقدمة مستبشرة ومتفائلة ومبهجة على عادة فاطمة اليوسف، وفى العدد الأول كتب رهط من ذلك الشباب الجامح، الشباب الذى حطم التعريفات التقليدية الجاهزة لكل ما هو راسخ ومتكلس وقديم، وكان أول من حطّم تلك التابوهات الفنان والكاريكمايست والشاعر صلاح جاهين، فأبدع سلسلة من الرسومات الكاريكاتورية تحت عنوان لافت، وهو "نادى العراة"، وذهب أحمد بهاء الدين لكى يجنّد بعض شباب من طلبة الجامعة لكى يعملوا فى المجلة.
لا أجزم القول بأن مفيد فوزى شارك فى العدد الأول، لكننى أجزم بأنه شارك فى الانضمام إلى فريق عمل المجلة، ولم يبدأ متلعثما، ولكنه بدأ كبيرا بالفعل، فما قدمه فى المجلة منذ العدد السابع 23 فبراير 1956 كان مدهشا، وجديدا، ومفاجئا، وكان من حق مفيد فوزى أن يلقى أحمد بهاء الدين بعض الضوء على تلك الكتابة، مشيرا إلى الموضوع دون أن يذكر كاتبه، فهذه كانت عادة بهاء كثيرا، لأن المجلة كانت تعمل بروح الفريق، أكثر مما تعمل بروح الفرد، ومن مقدمته فى ذلك العدد سأل وقال: "..ماهى_أولا_ صور الحياة المصرية، التى لم تأخذ حظها من الاهتمام؟، لقد تعوّد الناس أن يقرأوا أخبار أولاد الذوات، والنجوم اللامعة، والأندية الكبيرة، ولكن هذه ليست مصر الحقيقية، إنها جزء من الصورة فقط، هناك أجزاء أخرى تكمله، وقررنا أن نوسع الدائرة، أن نقدم صورة للحياة المصرية الشعبية الصميمة..".
حكاية حسن الحلو وعائلته:
وبالفعل كانت المجلة قد قدمت صورا وبورتريها وتحقيقات عن الكباريهات والكورة الشراب وموضوعات شتى، وفى ذلك العدد بدأت رحلة مفيد فوزى الحقيقية، وذهب إلى سيرك الحلو فى حى السيدة زينب، ومن أول ضربة فاس، أخرج المياه العذبة من تلك الأرض الخصبة، وتجلّت موهبة الصحفى الشاب بقوة ووضوح ناصع، تلك الموهبة التى لا لبس ولا أى شبهة فى أصالتها وحقيقتها، يبدأ مفيد موضوعه قائلا: "حى السيدة زينب يتحدث عن حكاية البنت التى كاد أن يأكلها السبع... ومن بعيد تلتقط أذناك كلمات مبعثرة عن هذه الحكاية.. واحد يقول: دى البنت كانت بتهزر مع السبع، وسيدة تلبس برقع وملاية لف تتساءل: هو فيه حد ياناس يهزر مع سبع؟، ثم يتكلم أفندى قصير بلهجة حاسمة كأنه عليم ببواطن الأمور:
_ ياجماعة انتم مش فاهمين الموضوع.. دى البنت بتشتغل فى سيرك..
فيصيح الجميع فى استنكار .. سيرك؟
فيقول الرجل العليم ببواطن الأمور وهو يهز رأسه .. نعم.. فى سيرك.. دى الدنيا نفسها سيرك كبير".
هكذا يبدأ الصحفى الشاب موضوعه أو تحقيقه أو بورتريه السيرك بمقدمة تساؤلية ومثيرة، كتابة جديدة فى ذلك الوقت، ولها مذاق خاص وشيق، ودخلة تحفّز القارئ على المتابعة، تلك السمة التى طبعت كل ما كتبه مفيد فوزى فيما بعد على مدى حياته كلها حتى فى الأخبار التى كان يصوغها، ولم تكن تلك المقدمة منفصلة عن النتائج، هناك ترابط تلقائى أو مدروس، هذه المقدمة قادت خطاه لكى يضع مقدمات تالية أخرى، ليتحدث عن نشأة ذلك السيرك العريق، فيحكى لنا حكاية الحاج حسن الحلو، إذ كان جده كما يقال جميل الوجه، وكان حلوا، فصار الاسم لقبا دائما له وللعائلة كلها، والحاج الحلو له 7 أولاد، كلهم أبطال فى السيرك، من أصغرهم الذى يبلغ عمره سبع سنوات، إلى أكبرهم الذى يبلغ عمر ثلاث وعشرين سنة، وراح الصحفى يطرح الأسئلة على أسرة ذلك السيرك، فحكى له حسن الحلو حكايته باختصار ليس مخلّا، فهو نشأ فى بورسعيد، وعندما كان طفلا كان يتفرج على البهلوانات الذين يجوبون الشوارع ويصفق لهم الناس، وكان هو يصفق معهم وهو يضع قرشا فى برنيطة البهلوان، وكان سعيدا جدا بتلك الحالة المبهجة، وظلت هذه الحالة مهيمنة عليه، ونمت بشكل غير طبيعى فى مخيلته، وعندما بلغ عمره ستة عشر عاما، تعاظمت تلك الحالة معه، فلم يكن أمامه سوى أنه يمارسها، وأنشأ ذلك السيرك الذى ظل فاعلا ومبهجا حتى الآن ليسعد ملايين الناس على مدى أجيال كثيرة متعاقبة.
عائلة الحلو كانت تواجه الأخطار بشكل يومى، ويقول الحاج حسن لمفيد فوزى الشاب بـ "أنه يرى الموت كل ليلة، ولكن منظر الموت يهون أمامه وهو يستمع إلى الأكف التى تلتهب بالتصفيق"، والناس فى رأى الحلو يحبون الفرجة على كل شيء مثير ومخيف، ولذلك فهو يقدم لهم كل ليلة ابنته محاسن التى تلعب لعبة الموت.
محاسن تحكى قصة الحب الأولى لمفيد:
ومحاسن هى الفتاة التى كاد يأكلها السبع وهى تخرج كل ليلة وتلبس "طزلك"، وتمسك فى يدها شوكة كبيرة، ثم يخرج الأسد من قفصه الحديدى ويزأر، ذلك الزئير الذى يحدث الرعب والهلع فى قلوب المتفرجين، وتظهر فى عيونهم تلك الأحاسيس الغريبة، البعض يشفق على البنت من مغامرة رهيبة، وغير مأمونة العواقب كما يظنون، والبعض يتحفز لكل خطوة وهو يتأمل محاسن وعيونها الفاتنة الزرقاء، ويقفز الأسد ويصفق الناس لأن البنت استطاعت أن تروض السبع.
ويهتف النظّارة أو المتفرجون: ما يجيبها إلا نسوانها!
وكما يقول مفيد فوزى الذى يحاول أن يؤنسن الأسد، أن السبع عندما يسمع ذلك التصفيق والهتاف، يهجم على محاسن لكى يثأر لكرامته التى تم إهدارها أمام جميع المتفرجين، وفى ليلة هجم الأسد عليها، وحملقت فى عينيه بلا أى جدوى، وكادت الشوكة تسقط من يدها، فصرخ الناس صرخة أفزعتها، حتى رأت الموت بعينيها، ورأت القفص الذى حولها يضيق بها، كان الأسد يجهز لعشاء فاخر بمروضته، وصاحت النساء عندما شعرن بالخطر، وصرخ الأطفال من مقاعدهم أو وقوفهم، وهرول الناس جميعا إلى خارج السيرك، وانطفأ الكلوب وانكسر، وبدأت تستغيث: يا بابا يا بابا، وجرى بابا نحوها وأسرع عمال السيرك يحاولون الفتك بالأسد لإنقاذها من بين مخالب الأسد، فوقعت على الأرض ولم تشعر بما حدث بعد ذلك أكثر من أنها وجدت نفسها ممدة على سريرها.
ومحاسن لها قصة حب عجيبة، وتقول للصحفى الشاب: "..حدث هذا فى طنطا، وفى مولد السيد البدوى، كانت محاسن تقدم (نمرتها) مع النمر (حلاوة)، وهجم عليها النمر قبل أن تستعد له، وفجأة قفز أحد أولاد البلد فى القفص لينتشلنى، وصرخت صرخة من أعماقى لأننى متأكدة إنه ذاهب فى بطن النمر لا محالة، ولكن الله ستر، فقد وقف النمر متحفزا، وبدأت أصيح فى وجهه: اخرج .. اخرج ياراجل.. ياحمار!، ولكنه لم يتحرك، وصفعته على وجهه وقلت له: اخرج بسرعة وانفد بجلدك! حاتموت!، وبكل هدوء انفرجت شفتاه وقال بهدوء: انت مش ملك نفسك، "أنا خايف عليكى"، وأحسست بكلماته تخاطب قلبى، وكدت أفقد توازنى، وأهجم عليه وأقبّله، ولكنى أمسكت بكتفه وقلت له كأنى أناجيه:
_ طيب أنا خايفة عليك انت كمان، اخرج علشانى.
وتواصل محاسن: ولست أدرى كيف وقف النمر المتوحش صامتا طوال هذه المفاجأة العجيبة، والجمهور يصفق ويصيح، فقد ظن أن هذا المشهد كان ضمن (نمرة)، وخلال النمرة وجدت نفسى أفكر فى شجاعته المنقطعة النظير، ومنذ هذه الليلة أحببته حبا ملك علىّ نفسى، ولم أره بعد ذلك، وفى اليوم التالى رحت أمشى فى كل شوارع طنطا أبحث عنه، عن حبى الذى انتزع قلبى وأنا بين مخالب الموت، ولم أجده، ومن يدرى ربما يتذكرنى".
الموضوع أربع صفحات ملونة، وكأنها ملف خاص، ولم يكتف مفيد بإجراء حوارات مع الحاج حسن الحلو، ولا مع محاسن، ولكنه تحدث مع شخصية اسمها "بعزق أفندى"، وهو بلياتشو السيرك، ولا يزيد طوله عن متر واحد فقط، واسمه بعزق لأنه كان يصرف نقوده ببذخ شديد، كما أنه أجرى حوارا مع أحد أعضاء أسرة السيرك، وهو"الملهلب العجيب"، وهو أحد ثلاثة أبطال يلعبون على الحبال، ولم يكتف مفيد بإجراء تلك الحوارات القصيرة مع أعضاء أسرة السيرك، ولكنه دجج التحقيق بمربعات صغيرة تحمل دزينة معلومات فى غاية الأهمية، مثل:
_ فى سيرك الحلو 45 شخصا ما بين نجوم وأبطال وعمال وحيوانات، والسيرك يعتبر حيوناته أفرادا منه، فإذا مرض حيوان جلس الجميع بجواره حتى يشفى، وللسيرك طبيب بيطرى خاص، ويتكلف الحصان 25 قرشا كل يوم، والأسد 40 قرشا ثمن 4 أرطال من اللحم، وأصغر يومية 7 قروش يتقاضاها عامل النظافة فى السيرك، وهكذا يضع مفيد فوزى كمية معلومات ضرورية عن عالم السيرك حيث لا يكتفى التحقيق بالإمتاع الكبير لقارئه، ولكنه كذلك يصبح مفيدا له ولأى باحث يريد أن يكتب دراسة، لأن مفيد فوزى يضع معلومات عن السيرك فى العالم، وكيف ظهر السيرك لأول مرة على الشاشة، وهكذا دخل مفيد فوزى بلاط صاحبة الجلالة من أوسع أبوابه، وتربع على قمة خاصة به لم ينزل من عليها حتى رحيله، وبعدها راح يحقق نجاحات متميزة ومرموقة فى ذلك المجال ويكتب وينشر فى ذلك الباب المتميز، والذى كان يجذب القارئ بدرجات عليا، وهذا بدا فى الرسائل التى كان القراء يرسلونها للمجلة ويبدون إعجابهم الشديد بذلك الباب الذى أصبح عنوانه: (شهرة فى..).
أحمد بهاء يكلّف مفيد فوزى:
فى العدد السادس 16 فبراير 1956 كتب أحمد بهاء الدين رئيس التحرير عن ظاهرة انتشرت بقوة فى تلك الفترة وهى مجلات المدارس: "قال الساعى: "الآنسة زينب سنان، رئيسة تحرير مجلة السلام!!"، ودخلت الآنسة رئيسة التحرير، فتاة فى الثانية عشرة من عمرها، تحمل حقيبة أكبر منها، قالت لى أنها تلميذة فى مدرسة السلام بالجيزة، والمجلة التى ترأس تحريرها مجلة حائط تعلق فى فناء المدرسة، وتتغير مرة كل أسبوع، وقد جعلت افتتاحية العدد الأخير تحية إلى "صباح الخير"، فأرادت أن تطلعنى عليها.."، وأبدى بهاء الدين إعجابه الشديد بالمجلة، وأشار إلى أن الصحافة المدرسية لم تكن ظاهرة منفردة فى ذلك الوقت، ولكنها أصبحت ظاهرة فى أماكن عديد مثل الشركات والمصانع وخلافه، لأن الصحافة تقوم بشكل أساسى على فكرة إبداء الرأى، وعندما فكّر بهاء الدين فى تكليف أحد محررى المجلة الموهوبين لتغطية موضوع الصحافة المدرسية، كلّف الصحفى الشاب مفيد فوزى الطموح والدؤوب والمثقف، وبالفعل ذهب مفيد ليطرق أبواب المدارس، ويعود بحصيلة ممتازة من الحوارات واللقاءات التى صنعت تحقيقا فريدا من نوعه، ونشر فى العدد 11 من المجلة، والصادر فى 22 مارس 1956، وكان عنوانه: "رؤساء تحرير فى الثانية عشرةّ"، وبدأ مفيد تحقيقه قائلا: "دق جرس المدرسة يعلن انتهاء الحصة الأخيرة، وخرج تلاميذ المدرسة كلهم إلا سبعة تلاميذ تخلفوا عن الحضور!، ودخل التلاميذ السبعة حجرة الرسم، ثم أغلقوها عليهم، ودهش الفراش وهو يرى هذا المشهد لأول مرة، فقد عقدت الدهشة لسانه، فظل يراقب المشهد من ثقب الباب، وبعد ساعة كاملة، خرج الفرسان السبعة وعلى وجوههم آثار إرهاق شديد".
بعد تلك المقدمة المثيرة، يكشف مفيد فوزى عن أن ذلك كان اجتماعا لمجموعة تلاميذ فى إحدى المدارس للتحضير للعدد الأول من مجلة حائط تخص المدرسة، ويقول الصحفى الشاب: ".. هذه القصة تحدث فى كل مدرسة، فقد انتقل سحر الصحافة بسرعة عجيبة إلى القلوب الصغيرة المتطلعة إلى المستقبل، وأصبح فى كل مدرسة ثانوية صحيفة تعبر عن رأى التلاميذ، وأحدث انتشار هذه الصحف ضجة وثورة بين التلاميذ أنفسهم، وأصبح المدرسون أنفسهم يخافون، نقد تلاميذهم على صحيفة الحائط، ولأول مرة صارت هذه المجلات تنتقد ناظر المدرسة نقدا لاذعا، وبدأ التلاميذ يواجهون الضغط وتمزيق المجلة أحيانا..".
رسالة من جمال عبد الناصر:
استعرض مفيد فوزى كثيرا من الموضوعات التى كان يكتبها وينشرها التلاميذ فى صحفهم، وكان كل فريق مدرسة يعقد اجتماعين فى الأسبوع، الأول كان يخص تحديد الموضوعات، والثانى كان يخص طباعة العدد، ومطبعة كل صحيفة هى حجرة الرسم، وذلك للاستعانة بالألوان المختلفة والتى تناسب كافة المواد المنشورة، الأسود للأخبار الهامة، والأحمر للقصص، والأزرق للإمضاءات، وهكذا.
وفى مدرسة شبرا الإعدادية، يعلن رئيس التحرير فى الإذاعة المدرسية أن خبرا مهما سوف ينشر فى العدد الأسبوعى، وكثرت الهمسات والتخمينات، ولم يصل أحد لشيء، حتى ظهر العدد الجديد يوم السبت، وتحت عنوان ضخم جاء الخبر الذى أبهج الجميع: "خطاب من الرئيس جمال عبد الناصر إلى الشعلة"، وكان الطالب محمد ابراهيم يوسف، سكرتير التحرير قد أرسل خطابا إلى الرئيس جمال عبد الناصر، وجاء الرد من رئاسة الوزراء، وهو خطاب من الرئيس، وجاء فى الخطاب:
(وصلتنى رسالتكم الرقيقة التى تفيض وطنية وإيمانا، وليس أحب إلى نفسى من أن أرى هذا الإخلاص ممثلا فيكم ياشباب الغد، والله أسأل أن يوفقنا جميعا لخدمة وطننا مصر، والله أكبر والعزة لمصر).
وجدير بالذكر أن الكاتب الصحفى لم يكتف بمدرسة واحدة، بل ذهب إلى أكثر من مدرسة، وأجرى حوارات مع أكثر من رئيس تحرير، وناقشهم فى المواد التى تنشرها مجلاتهم، وهى مواد متنوعة، بين الخبر والمقال والقصة القصيرة، كانت المواد تعبّر عن وعى صاعد ومفعم بروح الحماس الذى كان يطبع تلك المرحلة، ومن بين رؤساء تحرير المدارس كان الطالب سامى درينى خشبة 16 سنة، وهو الناقد الذى أصبح كاتبا وناقدا ومترجما مرموقا فيما بعد، وكانت مقالاته ناضجة، بحكم أن والده المترجم الكبير درينى خشبة، وبلا شك أن الموضوع كان مؤكدا لموهبة وجدارة الصحفى الشاب مفيد فوزى فى ذلك الوقت.
سهرة مع أم كلثوم:
كان الصحفى الشاب قد أنجز سلسلة تحقيقات فى الباب المتميز "سهرة فى.."، بعدما قدّم سهرة السيرك، ثم سهرة السيدة زينب والمولد، وكان فى كل تحقيق يقدم أشكالا جديدة من الإبداع، أخبار ومعلومات ولقاءات قصيرة مع جمهور يتردد على تلك الظواهر الشعبية المبهجة، والتى تشكل صورة حية وحقيقية لمصر الناس والشعب والقطاعات الواسعة المترامية فى كل أحياء مصر، وكان الأسلوب الذى يقدمه ذلك الصحفى ممتعا على المستوى اللغوى، تلك اللغة التى أبدع فيها الصحفيون الشباب، هؤلاء الذين شكلّوا ظاهرة جديدة فى الحياة الثقافية والصحافية المصرية والعربية، وقد صدرت عدة مطبوعات فى العالم العربى تقتفى آثار مجلة "صباح الخير"، ولا أقول أن تلك المطبوعات كانت تقلد، بل كانت صباح الخير وشبابها ملهمة بدرجة امتياز لتجارب جديدة أخرى، ولذلك أصبحت المجلة مدرسة حقيقية يتعلم فيها كثير من الصحفيين، وكان مفيد فوزى فى قلب تلك الظاهرة|المدرسة، وأصبح نجما فى وقت قصير، للدرجة التى اطمأن له رئيس التحرير أحمد بهاء الدين، والذى كان يحرر بابا تحت عنوان "المخبر الصحفى"، فاطمأن لمفيد، وسلمه الباب، وكان على مفيد أن ألّا يفرط فى تلك الأمانة، فاستطاع أن يضيف ويجود ويبدع كلما كتب موضوعا جديدا.
وعندما اطمأن له بهاء، رسله لتغطية إحدى سهرات قلعة وأسطورة من أساطير الفن والغناء فى مصر، وهى كوكب الشرق أم كلثوم، وكان كثيرون ينتظرون حفل أم كلثوم من الشهر للشهر، ففى الأيام الأخيرة من كل شهر كان يعلن المذيع عقب نشرة الأخبار الرسمية عن سهرة أم كلثوم، والقادرون هم الذين ينشطون قبل أن تنفد التذاكر مع نشاط السوق السوداء، وقبل أن يتضاعف ثمن التذكرة إلى ثلاثة أضعافها.
ويذهب الصحفى الشاب إلى حفل أم كلثوم الزاهر، ولا يجلس بين الجالسين فقط، بل يتابع ويسأل بذلك الإلحاح الذى نعرفه عند مفيد فوزى والذى كان يزعج كثيرين من هؤلاء الذين يسألهم، ويعرض كثيرا من المفارقات التى تحدث فى أمسيات أم كلثوم، منها مفارقات المذيعين الذين يذوبون طربا، وينسون ذلك الانضباط الذى لا بد أن يمثله المذيع، فهذا الكاتب والإذاعى اللامع عباس أحمد يقول عند بدء الحفل: "أيها السادة، اطفأوا الأنوار، وأسدلوا الستائر، واخرجوا إلى الحقول حيث القمر!"، وعندما ظن الناس أن شيئا غريبا قد حدث، يتدارك المذيع قائلا: واستمعوا مع أم كلثوم إلى "هلت ليالى القمر"، وفى هذه التغطية التى قدمها مفيد فوزى، قدم معها ما يشبه كل أشكال التلقى التى تحدث فى ليالى أم كلثوم العطرة، فتلهب أفئدة وأرواح العاشقين، وتفجر خيال الحالمين، وتظل أم كلثوم تشدو طويلا، وتصمت الألسنة، ويهيم السميعة، وعشاقها ينصتون بقلوبهم، حتى يعلن المذيع انتهاء السهرة الجميلة الساحرة، التى استغرقت ساعات طويلة وممتعة وشائقة للغاية، ويتجلّى مفيد فوزى فى عرض من أجمل ما يمكن عرضه وسرده وتقديم مادة ثرية عن أم كلثوم وملحنيها وشعرائها الذين لا يفارقون حفلاتها فى أى وقت من الأوقات، ويظل نجم مفيد فوزى يعلو ويعلو، حتى يصل إلى قمة تجتاج إلى قراءات أوسع وأكثر عمقا، رأينا فقط أن نستعرض تلك البدايات الجادة والمفيدة التى بدأها ذلك الشاب المشاكس والموهوب، والذى اختلف واتفق حوله الكثيرون لكثرة عطاءاته من جيل إلى جيل، وليصبح كذلك هدفا لتطاول بعض من المشعوذين والكارهين للجمال أينما وكيفما كان، رحم الله الكاتب والصحفى والمحاور الكبير مفيد فوزى.
أول موضوع ينشره الصخفى الشاب مفيد فوزى فى مجلة صباح الخير
حوار مع المفكر سلامة موسى
رؤساء تحرير المدرسة وبينهم الطالب سامى دريتى خشبة (سامى خشبة)
سهرة مع التلامذة
صباح الخير
صورة من مجلات الطلبة فى إعدادى
مولد السيدة
يكتب عن كوكب الشرق، رسمة الفنان جمال كامل
شعبان يوسف