انتهت مفاوضات الاحتلال الفرنسى لمصر مع العثمانيين بتوقيع معاهدة الصلح المعروفة باسم «معاهدة العريش»، يوم 24 يناير 1800، وكان الغرض منها جلاء الفرنسيين عن مصر، وانتهاء الاحتلال الذى بدأ فى عام 1798 بقيادة نابليون بونابرت، حسبما يذكر «عبدالرحمن الرافعى» فى الجزء الأول من موسوعته «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر».
كان الجنرال كليبر هو الذى يتولى قيادة الفرنسيين فى مصر وقت توقيع «معاهدة العريش» بعد عودة نابليون إلى فرنسا، ووفقًا للرافعى فإن «السير سدنى سميث» قائد الأسطول الإنجليزى البحرى من يافا إلى الإسكندرية كان وسيطًا فى المفاوضات وواضعًا شروط الصلح، لكنه لم يوقع عليها ليترك حكومته حرة فى تنفيذ ما يروق لها من نصوص المعاهدة، وعلى هذا الأساس لم تقبل الحكومة أن يبحر الفرنسيون بأسلحتهم إلى بلادهم، وأصرت على أن يسلموها، كما يسلمون أنفسهم كأسرى حرب، وألا يسمح لهم بالذهاب إلى فرنسا، ويؤكد «الرافعى» أنه فى الوقت الذى فعل فيه الإنجليز ذلك، كان الصدر الأعظم يوسف باشا، يتقدم بجنوده فى داخل البلاد تنفيذًا للمعاهدة.
يؤكد الدكتور محمد فؤاد شكرى، فى كتابه «الحملة الفرنسية وخروج الفرنسيين من مصر»، أن كليبر شرع فى تنفيذ اتفاق العريش عقب عقده مباشرة، فنقل عتاد الجيش وذخائره إلى الإسكندرية، حيث كان يجرى العمل على قدم وساق استعدادًا للرحيل، وشرع الجيش فى إخلاء الصعيد، كما نزح عن مراكز عدة فى الوجه البحرى ما لبث العثمانيون أن احتلوها فى القطبة والصالحية وبلبيس ودمياط وعزبة البرج، وأحضر يوسف ضيا الصدر الأعظم جيشه إلى بلبيس، بينما رابطت طلائعه فى الخانكة على بعد أربع ساعات من القاهرة، وكان الفرنسيون على وشك إخلاء القلعة وسائر حصون القاهرة، عندما بلغت كليبر رسالة «السير سدنى» من قبرص تنبئه بصدور الأوامر إلى الأسطول الإنجليزى فى البحر الأبيض أن يحول دون تنفيذ اتفاقية العريش.
يذكر «الرافعى»، أن كليبر شعر بحرج موقفه، واستعد لاستئناف القتال، وكان بعض الجنود العثمانيين من الجيش المرابط فى بلبيس قد دخلوا القاهرة أفرادا، وحدثت بينهم وبين الجنود الفرنسية بعض المشاجرات، فأصدر أمرًا بألا يدخل القاهرة أى جندى عثمانى، وأعاد تحصين القلاع المحيطة بالمدينة، وأرجع الذخائر والمهمات إلى المعسكر العام، واستدعى كتائب الجيش من الرحمانية ورشيد والوجه القبلى، ورابط بالقبة استعدادًا لملاقاة الجيش العثمانى القادم.
يؤكد «شكرى» أن الصدر الأعظم كان يتشوق الدخول إلى القاهرة، فزحف بجيشه على الخانكة، ثم ما لبثت طلائعه أن وصلت إلى المطرية على مسافة ساعتين من القاهرة، وكان كليبر أمامه أحد أمرين، إما البقاء فى القاهرة وانتظار الصدر الأعظم بها، وإما التقدم للالتحام فى معركة حاسمة، وفضل كليبر الخروج لمقابلة العدو، ففعلها فى الساعة الثانية من صبيحة 20 مارس، مثل هذا اليوم، عام 1800، وبدأت المعركة التى يذكرها «شكرى» بأنها «معركة هليوبوليس»، ويذكرها الرافعى بأنها «معركة عين شمس».
يذكر «الرافعى»، أن الفرنسيين انتصروا على جيش ناصف باشا ابن الصدر الأعظم واحتلوا المطرية، ولكن قوات الصدر الأعظم كانت مرابطة خلف مواقع ناصف باشا، وأقبل بمجموعة لمهاجمة الجيش الفرنسى، ووصل الجنرال رينيه بفرقته قريبًا من مسلة عين شمس، فتقدم الصدر الأعظم بجنوده، واصطفوا على المرتفعات الكائنة بين «المرج» و«سرياقوس»، وأخذ يتأهب للهجوم، لكن الجنرال «كليبر» لم يترك له فرصة لترتيب هجومه، فأمر بهجوم عام على مواقع العثمانيين الجديدة، وانتقل ميدان القتال من المطرية إلى ما بين المرج وسرياقوس، وكانت المدفعية الفرنسية تحكم الرماية فتلق قنابلها وسط معسكر العثمانيين، وتحصد صفوفهم حصدًا وتوقع بهم خسائر جسيمة، فأدرك الصدر الأعظم أن موقفه أصبح هدفًا للخطر، فأخلى مواقعه، وارتد إلى الخانكة، وبذلك تم الفوز للجنرال كليبر.
ويضيف الرافعى: «انهزم الجيش العثمانى شمالًا وتقهقر بغير نظام بعد أن فدحته الخسائر الجسيمة، على أن ناصف باشا تمكن من الانسحاب من ميدان القتال فى رهط من الجنود، واتجه إلى القاهرة ليمد القوات العثمانية التى قصدت إليها بقيادة نصوح باشا عند بدء القتال، وتعقب كليبر فلول الجيش العثمانى فى الخانكة، ولكن الصدر الأعظم لم يبق بها، واستمر فى انسحابه شمالًا إلى بلبيس واحتلها بجنوده فأدركه فيها الجنرال كليبر مساء ذلك اليوم، واستعد العثمانيون للامتناع بها، ولكنهم رأوا الدفاع عنها عبثا فأخلوها وتقهقروا إلى الصالحية».
يؤكد «شكرى» أن الفرنسيين زحفوا إلى الصالحية رجاء أن يعثروا فيها على الصدر الأعظم لكنه كان أخلى معسكره على عجل عندما شاهد انهزام جيشه، ولم يجد الفرنسيون عند وصولهم سوى خيام العثمانيين وعتادهم مبعثرًا فى كل مكان، وعندئذ قصد كليبر القاهرة، وكانت فى أثناء ذلك كله مسرحًا لثورة عاتية.