توفى الشاعر الكبير محمود قرنى، اليوم الأحد، بعد معاناة كبيرة من المرض، وهو شاعر له سمت خاص وطبع مختلف، وفهم معين للقصيدة، يظهر ذلك فى كل دواوينه، وقد كتبت من قبل عن ديوانه "لعنات مشرقية" ونشرت المقالة فى اليوم السابع، وها أنا أعيدها مرة أخرى.
يقف محمود قرنى فى دائرة خاصة فى قصيدة النثر، وذلك من خلال نصوص شعرية عدة شكلت خريطة شعرية خاصة به، يمكن من خلالها أن نحدد كتابة خاصة وشكلا واضحا لقصيدته، كما يمكن لنا من خلال نصوصه أن نسائله، وأن نختبر نصه الشعرى.
فى ديوانه "لعنات مشرقية" الصادر عن دار الأدهم العام 2012، يرصد محمود قرنى خيالا محلقا يصيغه كتابيا من خلال ديوان/ قصيدة طويلة لا تفصلها سوى فواصل رقمية مسلسلة توحى باتصال واضح.. وتتميز بملحمية واضحة من حيث اللغة والخيال.. ويحاول قرنى أن يجد أواصر ثقافية لنصه مع التراث العربى، مكرسا للتواصل الثقافى العربى، معتمدا الحكاية التراثية التى يقوم الشعر بتحطيم أطرافها فتتحول إلى موضوع إنسانى عام يصلح لكل الظروف ولكل الأمكنة.
ويعتمد قرنى فى بناء نصه على النص الأشهر للتراث العربى "ألف ليلة وليلة" وعلى حكاية "أنس الوجود مع الورد فى الأكمام" وفى الحقيقة محمود قرنى لا يعيد كتابة الحكاية، لكنه يقف على إشارات معينة وأيقونات محددة يختارها هو ويعتمد عليها فمثلا النص الافتتاحى "يا وجه الأحباب/ إن أصبهان بلادى/ ولى فيها بنت عم كنت أحبها/ وكنت متولعا بها/ فغزانا قوم أقوى منا/ وأخذونى فى جملة الغنائم.." هذا النص الافتتاحى فى الديوان جاء جملة عابرة من أحد العابرين الذين التقاهم "أنس الوجود" فى قصر الأميرة، لكن الانتقائية "من التراث" التى يعتمد عليها المبدع الحديث دفعته كى يرى فيها اختصارا لتجربة مكتملة ويرى فيها تكثيفا شعريا ويرى فيها غربة وإحساسا بالفقد.. كل ذلك يراه محمود قرنى يليق بأن يكون أول الذى يطالعه القارئ.. كذلك فى شخصية "ورد الأكمام" التى عبر بها ومن خلالها التاريخ والأماكن وجعل منها "الملاكة" العاشقة التى تبحث عن الحب من خلال شخصيات الراغبين والمارقين.. والتى حوَّلها رمزا لما تريد الذات الشاعرة أن تقوله، وظل الشاعر من خلال ذلك وغيره من الأيقونات التراثية يصنع علاقة إيجابية ووشائج قوية بين قصيدة النثر العربية والتراث.. هذه العلاقة التى تطرح عددا من الأسئلة التى تتعلق بذلك النوع من الكتابة الشعرية.
ومن جانب الرؤية فإن "لعنات مشرقية" العنوان والقصيدة وجهة نظر وقراءة بين السطور عن الشرق وعن اللعنات وعن أسئلة أخرى: من أين تأتى هذه اللعنات.. وإلى أين تذهب؟ وما علامات الموعودين بها؟
وهناك فكرة الإشارات التى اعتمد عليها محمود قرنى فى كتابة الديوان، ولنا أن نعرف بداية أن الإشارت والإحالات فى القصيدة الحديثة أصبحت لا تعد هامشا، فالكتابة الحديثة مفتوحة لا يحدها سوى الشعر، أصبح الهامش متنا مكتوبا بطريقة مقصودة، حتى أن مكانه فى الصفحة والشكل الذى يصاحبه فى الطباعة يكون مقصودا أيضا، وفى "لعنات مشرقية" رغم أن الإشارت فيه تبدو تفسيرية، وذلك لأنه يضع رقما عليها كما أنه يحيلها إلى الصفحات الأخيرة، إلا أنها فى الحقيقة أكثر من ذلك، فهى جزء من بناء القصيدة، فهذا الجانب الإيضاحى يكمل الجانب الرؤيوى ويفسر معنى اللعنات، وقد يعطى تصورا متنوعا لمفهوم اللعنة مثال: قوله "تاجر البن والشيلان (2)/ يطل من بوابة شيراز/ على إيوانه الشرقى وعلى الملأ" وبالعودة للهامش فى نهاية الديوان نجده قد كتب تحت رقم (2) - تاجر البن والشيلان: المقصود هنا الشاعر الألمانى "يوهان فولفجانج فون جوته" المعروف بعلاقته العميقة بالتراث الشرقى، والجملة عنوان لإحدى قصائده". وبالتالى يربط القارئ بين تلك الإشارة المتعلقة بمن أصابه التراث الشرقى بهوى ظهر فى كتابته وبين اختياره ليكون جزءا فى الديوان.. وعلى العكس من ذلك فى هامش آخر نجده يقول: "البابا "أوربان" (16) يعلمنا قواعد ديننا/ فلنكن أمة تستمع للبابا أوربان" وكتب فى الهامش تحت رقم (16) " هو البابا أوربانوس الثانى " 1042 – 1099"، ولد باسم أوتو اللاجيرى، كان البابا من عام 1088 – إلى 29 يوليو 1099. وهو معروف بإطلاقه الحملة الصليبية الأولى 1095 -1099". والجملة الأخيرة هى مفتاح السر فى هذه الإشارة، فهى نوع مختلف من الهوى والتعلق، وهى أيضا نوع من اللعنات تلك التى أصابت ذلك البابا الذى فتح مجالا للجحيم استمر قرنين من الزمان.. وهذه الإشارة كما نرى مناقضة للإشارة الأولى التى استشهدنا بها، فهناك مسافة كبيرة بينهما، هذه المسافة عادة ما تكون بين الحب والكره والإعجاب والطمع، لكن يجمع بينها الفعل والتأثر واللعنة التى تصيب المغرمين بذلك المشرق.
وفى موضع آخر يقول: "قرب تلال نجد/ رفع الباشا (4) سيفا مرصعا / واختط بئرا / أسفرت ماء غزيرا / فدق الأوتاد وأناخ الرحال هنا" ويقول فى الهامش (4) "المقصود هنا إبراهيم باشا الذى أرسله محمد على على رأس حملة لفتح نجد والحجاز للقضاء على آخر نفوذ الوهابية التى كانت قد استوطنت العراق وجنوب الجزيرة وكانت تهدد السلطنة العثمانية نفسها، وكانت قد سبقت حملة إبراهيم باشا حملة الأمير طوسون ثم محمد على نفسه، ثم ابنه إبراهيم عام 1818".
هذا النص يجعلك تعيد القراءة فى محاولة لإدراك العلاقات الدقيقة التى تقصدها الذات الشاعرة بين النصين (المتن والهامش).. إبراهيم باشا الذى توجه للقضاء على الوهابية، والذى اعتاد التاريخ أن يشيد به.. يراه محمود قرنى مستعمرا يسعى لتحقيق سياسة عثمانية أصرت عليها أسرة محمد على بحثا عن نفوذ شخصى.
وقبل كل ذلك تظل الإحالة الكبرى التى اعتمد عليها الديوان فى "ورد الأكمام" التى استحضرها من التراث العربى والإنسانى تيمة قادرة على العبور بالتجربة وبالكتابة الحديثة إلى قلب الشعرية.