فى عام 1258م، حاصر المغول بقيادة هولاكو خان (سفاح البشرية)، عاصمة الخلافة الإسلامية العباسية ببغداد، فدمروها وأبادوا معظم سكانها، وكان سقوط بغداد آنذاك خسارة فادحة للثقافة والحضارة الإسلامية، حيث أضرم المغول النار في بيت الحكمة، وهي إحدى أعظم مكتبات العالم القديم آنذاك.
جنود هولاكو اتلفو عددا كبيرا من الكتب القيمة في مكتبات بغداد التي أفرزتها العقول النيرة، حتى إنهم ملأوا نهر دجلة بالكتب وجعلوها جسورا لخيولهم، فتحولت مياه النهر الأزرق الصافى إلى الأزرق الصافى إلى اللون الأسود من اختلاطها بالمداد، بحسب كتاب " أطلس تاريخ العصر المملوكي" للدكتور سامي بن عبدالله المغلوث.
وبنفس وحشية وهمجية المغول التى يقال أنهم أقاموا جبال من رؤوس القتلى في وسط بغداد، ونتيجة رائحة الموت الكريهة التي انتشرت في المدينة بعد هذا الدمار، اضطر هولاكو إلى تحريك معسكره بعيداً عنها، وبقيت المدينة بعدها لعددٍ من السنوات خالية من السكان، وبنفس الوحشية يفعل جيش الاحتلال القتل فى الفلسطينيين بدم بارد.
وبعد نحو 764 سنة، يعيد التاريخ نفسه، فلم تسلم المؤلَفات القيمة والنفيسة في مختلف المجالات العلمية والفلسفية والأدبية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها حتى العلماء من مغول العصر أو ما يعرف بـ الجيش الإسرائيلى، فشنوا عدوانا على قطاع غزة دخل يومه الـ60، أبادوا فيه الشجر والحجر.
وجاء اغتيال أحد العلماء الفلسطينيين البارزين فى مجال الفيزياء على يد جيش الإجرام الإسرائيلى التى وفقا للتقديرات لم تكن على سبيل الصدفة، فخلف الأبواب المغلقة فى تل أبيب وضعت مخططات دنيئة لإبادة جماعية لكافة فئات البشر فى القطاع، لاسيما الفئات الأضعف النساء والأطفال الذين شكلوا أكثر من 70% من أعداد الشهداء الذين بلغ عددهم حتى اليوم 3 نوفمبر 2023، أكثر من 15 ألف شهيد.
وزارة التعليم العالي الفلسطينية، أكدت أن غارة جوية إسرائيلية استهدفت بلدة الفلوجة التي تبعد 30 كيلومترا إلى الشمال الشرقي من مدينة غزة، أسفرت عن استشهاد هذا العالم الفلسطيني البارز الذى يدعى "سفيان تايه" وأسرته، والعالم الشهيد كان رئيسا للجامعة الإسلامية في غزة، كان أيضا باحثا بارزا في الفيزياء والرياضيات التطبيقية، وهو من مواليد مخيم جباليا في 20 أغسطس 1971.
المخطط الإسرائيلى يمتد لأبعد بكثير من تصفية العقول البشرية، بل لطمس المعالم التاريخية، عبر تدمير المؤسسات الثقافية للقطاع ومكتباته القليلة لكنها تحمل تراثا وتاريخا عظيما، ووفقا لتقرير صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، فإن تلك المؤسسات "ضحية أخرى غالبا ما يتم تجاهلها".
ومثلما هجم المغول وأسقطوا الدولة العباسية وقتلوا الكثير من العلماء، سوى مغول العصر بالمؤسسات الثقافية فى غزة الأرض خلال شهرين تقريبا وتحولت إلى أنقاض، اختلط ركامها بأوراق الكتب الممزقة، فقد تعرضت مكتبة بلدية غزة ومركز رشاد الشوا الثقافي – الذي استضاف اجتماعا بين الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون، ورئيس السلطة الفلسطينية الراحل، ياسر عرفات، قبل 25 عاما – للدمار.
وأظهرت الصور التي التقطتها البلدية، مبنى المكتبة الرئيسي مدمرا من الداخل، والكتب متناثرة على الأرض ومغطاة بالحطام والغبار، فيما بقي عدد قليل من الرفوف سليمة.
وكشف بيان صادر عن السلطات في قطاع غزة، إن الطائرات الإسرائيلية "استهدفت مبنى المكتبة العامة وحولته إلى ركام، ودمرت آلاف الكتب والوثائق التي تسجل تاريخ المدينة وتطورها، كما دمرت قاعة دورات اللغات التابعة للمكتبة، وغيرها من مرافق المكتبة"، وقالت سلطات البلدية في غزة أن تلك الضربات الإسرائيلية "محاولة لنشر حالة الجهل في المجتمع".
وتجاهل الاحتلال هذه الجريمة، فعندما سُئل عن الضربات، لم يتطرق الجيش الإسرائيلي إلى ما إذا كان قد استهدف المكتبات والمؤسسات الثقافية الأخرى، واكتفى بالقول إنه "يتبع القانون الدولي ويتخذ الاحتياطات الممكنة للتخفيف من الأضرار التي تلحق بالمدنيين"، وفق واشنطن بوست.
وبحسب الموقع الإلكتروني لبلدية غزة، فإن المكتبة العامة تأسست عام 1999، من خلال "اتفاقية توأمة مع مدينة دونكيرك الفرنسية، وبتمويل من البنك الدولي"، وتتكون المكتبة من طابقين وقبو، وتضمنت مقتنياتها ما يصل إلى 10 آلاف مجلد باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية.
أما مركز رشاد الشوا الثقافي ومكتبة "ديانا تماري صباغ" المصاحبة له، والتي افتتحت عام 1988، فأصبحت في حالة خراب تامة، وشهد هذا المركز في 15 ديسمبر 1998، مؤتمرا حضره كلينتون وعرفات، وهو حدث تاريخي تم فيه إلغاء بنود من ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، التى تزعج إسرائيل كثيرا بسبب أحدى بنودها التى تدعو لتدمير إسرائيل.ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي الشاب آنذاك، بنيامين نتانياهو، تصويت منظمة التحرير الفلسطينية على إلغاء البنود المعادية لإسرائيل بأنه "تغيير حقيقي وإيجابي للغاية".
كما تعرضت المتاحف ومواقع التراث الأثري والحرم الجامعي في غزة للأضرار والدمار في الهجمات الإسرائيلية خلال الهجوم الحالي، وفقا لمجموعات حقوق الإنسان والتراث الثقافي، وقالت إسرائيل إن "بعض المواقع، بما في ذلك الجامعة الإسلامية في غزة، يستخدمها مسلحو حماس لأغراض عسكرية".
وهكذا يعيش مغول العصر فى غزة فسادا، وقبل مئات السنوات، جاء النصر الرمضانى، حيث هلك هولاكو بداء الصرع بعد أن قتل الملايين سنة 1256 م، وانهزم جنوده هزيمة مريرة فى معركة عين جالوت يوم 25 رمضان سنة 658 ه، الموافق 3 من سبتمبر 1260م، استطاع فيها جيش المماليك بقيادة قطرز من إنهاء الخطر المغولي الذي هدد العالم عشرات السنين... فالنصر قادم أهل غزة لامحالة هكذا يبشرنا التاريخ.