العلاقات المصرية التركية، باتت تشهد مرحلة هامة، في ضوء حالة من التقارب، بدأت إرهاصاتها في السنوات الأخيرة، في انعكاس صريح لإدراك متبادل بالأهمية الكبيرة التي تحظى بها البلدين، باعتبارهما قوى إقليمية مؤثرة، ناهيك عن دورهما الفعال في العديد من القضايا الكبرى، في الشرق الأوسط، وكذلك الحاجة الملحة لتوسيع دائرة التكامل الاقتصادي، في ضوء العديد من الأزمات الحادة التي تجتاح العالم، جراء موجات عاتية من التضخم، والغلاء، على خلفية العديد من الأزمات التي باتت تضرب العالم، ساهمت في تفاقم الأوضاع، ليس في منطقة معينة، وإنما في كل أنحاء الكوكب، مما يتطلب المزيد من التعاون بين الدول لتحقيق أكبر قدر من التنمية.
إلا أن التطور في العلاقات المصرية التركية، يمثل نموذجا مهما، لما يمكن تسميته بـ"دبلوماسية بناء الشراكات"، والتي شهدت العديد من المراحل، ربما بدأت مبكرا، وتحديدا في لحظة ميلاد "الجمهورية الجديدة"، وهو ما بدا في العديد من المشاهد، بدءً من سياسة تنويع التحالفات، واقتحام مناطق جديدة، مع إعادة استكشاف ما تمتلكه الدولة المصرية من موارد، وإمكانات، لتقديم أوراق اعتمادها للعالم، باعتبارها شريك موثوق من شأنه المساهمة، في تحقيق التنمية الاقتصادية في إطار مستدام، على المستوى الإقليمي، وهو ما ساهم بصورة كبيرة في تحقيق قدر من الاستقرار بعد سنوات الفوضى التي ضربت المنطقة، خلال ما يسمى بـ"الربيع العربي"، عبر التخفيف من حدة الصراعات الإقليمية، والعمل تحويلها إلى "شراكة" ربما لا تخلو من المنافسة، ولكن تحكمها بالأساس المصالح المشتركة.
ولعل أهم أدوات الدولة المصرية، لتحقيق دبلوماسية "بناء الشراكات"، كانت تجاوز الحالة الثنائية في إدارة علاقاتها الدولية، عبر نهج أكثر جماعية، تجسد في شراكات أكثر تعددية، منها على سبيل المثال، تدشين منتدى غاز شرق المتوسط، والذي ولد من رحم الشراكة الثلاثية، مع كلا من اليونان وقبرص، حيث انضمت لها عدة دول، وعلى رأسهم تركيا، مما خلق مساحة من التوافقات، القائمة على المصالح المشتركة بينها وبين القوى العربية الأعضاء، بينما اتسعت دائرة التقارب، مع إرساء مؤتمر بغداد، عبر "ثلاثية" أخرى، مع الأردن والعراق، ساهمت في مشاركة الخصوم الإقليميين، لمائدة التفاوض حول مستقبل بلاد الرافدين، خاصة مع ما تمثله التحديات التي تواجهها من تهديدات أمنية، وعلى رأسها الإرهاب، من تهديدات صارخة للإقليم بأسره.
الرؤية المصرية الناجعة، تمكنت بالفعل من تسليط الضوء على المصالح المشتركة، التي يمكن تحويلها إلى حاضنة جامعة للخصوم في بوتقة واحدة، وبالتالي تخفيف حدة التنافس فيما بينها، وهو ما يساهم بدوره في تحقيق أولوية الاستقرار الإقليمي، بعد سنوات الفوضى، التي أعقبت الربيع العربي في العقد الماضي، بينما لعبت دورا هاما في احتواء الأزمات التي شهدتها عدة دول بالمنطقة، أو على الأقل التخفيف من تداعياتها، على غرار العراق، الذي حقق نجاحات كبيرة في معركته ضد الإرهاب، وكذلك سوريا، والتي عادت في العام الماضي إلى محيطها العربي، بينما يبقى التركيز على القضية المركزية، وفي القلب منها فلسطين، بعدا ثالثا، لا يقل أهمية، في ظل الحاجة إلى بناء جبهة إقليمية موحدة قادرة على الصمود، أمام محاولات إسرائيل لإعادة تدوير الفوضى في المنطقة في المرحلة الراهنة، وتحديدا منذ بدء العدوان على قطاع غزة في أكتوبر الماضي.
الإجماع الإقليمي المنشود، تجلى ببهاء، خلال القمة العربية الإسلامية، التي عقدت في الرياض، في ظل توافق تام بالرؤى، بين القوى الإقليمية، سواء من الدول العربية، وعلى رأسها مصر والمملكة العربية السعودية، أو غير العربية، على غرار تركيا وإيران، مما ساهم في تعزيز حالة الصمود، خاصة وأن التوترات التي شهدها العقد الماضي، لعبت دورا رئيسيا في ارتباك الإقليم، لتتراجع على خلفيته القضية الفلسطينية، وهو ما خدم مصالح الاحتلال لسنوات.
الدبلوماسية المصرية القائمة على "بناء الشراكات"، لم تقتصر في جوهرها على البعد السياسي، وإنما امتدت إلى جوانب أخرى، إنسانية، ظهرت خلال أزمة الزلزال الذي ضرب تركيا، في العام الماضي، حيث أبرزت القاهرة دعمها لأنقرة، وقام وزير الخارجية سامح شكري بزيارة بلاد الأناضول، في انعكاس صريح لأحد أهم الأبعاد التي باتت تتبناها الدولة المصرية في بناء وتعزيز علاقاتها الدولية.
وهنا يمكن القول بأن تعزيز العلاقات بين مصر وتركيا، يمثل رسالة هامة، ذات مسارات متعددة، أبرزها مواصلة نهج الشراكة مع الجميع لتحقيق المصالح المشتركة، وفي القلب منها التنمية الاقتصادية، مع بالإضافة إلى مسار آخر يقوم على تعزيز الجبهة الإقليمية لخدمة القضية الفلسطينية، ومجابهة التحديات الناجمة عن السلوك العدواني للاحتلال الإسرائيلي بينما في مسار ثالث العمل الإقليمي الجاد للوصول إلى توافقات بشأن القضايا الخلافية، في حين يقدم رسالة للعالم مفادها أن الإقليم لن يعود إلى حقبة الفوضى، والتي وجدت وقودها من قبل في الصراعات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، في العقد الماضي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة