ملك حفنى ناصف.. عانت من ظلم المجتمع للمرأة العاقر.. وقاومت ظلم وامتهان المرأة فى مجتمع البادية.. قتلها الحزن هى ووالدها وكانت أول امرأة يقام لها حفل تأبين
فى هذه المساحة نقدم سيرة النساء الأوليات اللاتى حملن مشاعل النور وسط الظلام، من فتحن أبوابا مغلقة لم يكن مسموحا لبنات جنسهن أن يطرقنها وخضن معارك مع الجهل والظلم ليمهدن لبنات حواء طرق العلم والعمل والنجاح والإبداع فى زمن كان تعليم الفتاة أمرا خارجا عن المألوف مخالفا للعادات والتقاليد، متعارضا مع النظرة السائدة للمرأة ودورها فى الحياة الذى كان مقتصرا على الزواج وخدمة الرجل وتربية الأبناء ورعاية شؤون المنزل، من شققن طرق العلم، واقتحمن مجالات العمل ورسمن مسارات جديدة لأجيال قادمة، هذه المساحة نكشف فيها مسيرة كفاح الأوليات فى كل المجالات.
فى عام 1886 وفى بيت أنيق بالجمالية كان حفنى بك ناصف العالم اللغوى ورجل العلم والدين والقانون، الذى جمع بين الدراسة بالأزهر والسفر إلى أوروبا وكان أحد مؤسسى الجامعة المصرية والمجمع اللغوى وشارك فى وضع قواعد الوقف والوصل فى المصحف الشريف فى انتظار مولوده الأول، كانت القاهرة وقتها تعيش أجواء فرح واحتفالات بزفاف الأميرة ملك إلى الأمير حسين كامل - الذى أصبح سلطاناً فيما بعد – وبينما كانت زوجة حفنى بك تعانى آلام المخاض كان الزوج ينتظر البشرى بالمولود على أحر من الجمر حتى جاءته البشارة بأن زوجته وضعت بنتاً، تبسم الأب المستنير الذى شغل مناصب عليا فى القضاء ووزارة المعارف وقرر أن يسمى مولودته «ملك» باسم الأميرة التى تحتفل القاهرة بزفافها، واستبشر بهذه الابنة التى ولدت فى أجواء فرح، وعاهد نفسه أن يمنحها كل ما يستطيع من علم وثقافة ويوليها كل اهتمام فى زمن لم يكن يسمح بتعليم الفتيات، لتكون قدوة ونموذجاً لفتيات عصرها، وبالفعل كانت هذه المولودة هى ملك حفنى ناصف باحثة البادية الشاعرة والأديبة ومحررة المرأة التى فتحت لبنات عصرها وللأجيال من بعدها طريق العلم والتعليم والثقافة وكانت أشهر فتاة خلال العقد الأول من القرن الماضى لأنها أول فتاة مصرية تحصل على الشهادة الابتدائية.
الأب المستنير
كانت ملك حفنى ناصف أكبر أبناء والدها السبعة وهم: «ملك وحنيفة وكوكب وجلال الدين ومجد الدين وعصام الدين وصلاح» والذين تقلدوا جميعهم أعلى المناصب وصار لكل منهم فيما بعد شأن كبير.
كان للأب حفنى ناصف المولود عام 1855 والذى تتلمذ على يد الإمام محمد عبده وشاركه فى تحرير صحيفة الوقائع المصرية وتدرج فى المناصب حتى وصل إلى ما يوازى منصب النائب العام حالياً دور تنويرى كبير فى مصر حيث شارك فى تأسيس نادى دار العلوم الذى كان بمثابة مجمع للغة العربية والبحوث الإسلامية، وكان يقيم مواسم وندوات ثقافية فى المحافظات التى عمل بها يقدم فيها للمواطنين أحاديث أدبية ويناقش قضايا كبرى مثل مسألة دخول الألفاظ الأعجمية على اللغة العربية ومدى موافقة المعاملات البنكية للشريعة الإسلامية وبحث هذه المسألة مع عدد من المفكرين والعلماء ومنهم الشيخ عبدالعزيز جاويش، والشيخ عبدالوهاب النجار، والشيخ محمد الخضرى وأوصوا بوجوب إنشاء بنك وطنى مصرى وكان هذا هو الإرهاصة الأولى لبنك مصر الذى أسسه طلعت حرب بعد ذلك عام 1920، فضلاً عن مشاركته فى إنشاء الجامعة الأهلية مع سعد زغلول وقاسم أمين ومصطفى كامل ومساهماته فى وضع المقررات والمناهج، كما تولى رئاسة مجلس إدارة الجامعة، وعمل أستاذا لتاريخ الأدب العربى بها.
ومنذ مولدها كان للابنة الكبرى ملك حفنى ناصف مكانة كبرى لدى والدها، أحبت من خلاله الثقافة والكتب والاطلاع والشعر، وحرص الأب أن تنهل الابنة من بحور العلم والثقافة والدين كما فعل مع باقى أبنائه فنشأوا جميعا يحبون العلم والتعليم ، فكانت ابنته الصغرى كوكب أول طبيبة جراحة فى مصر والعالم العربى وأول امرأة تنضم لنقابة الأطباء وتجرى عمليات الولادة القيصرية فى مصر، كما أسست أول مدرسة للتمريض، كما كان لأبنائه الذكور وخاصة عصام الدين ومجد الدين دور وطنى وسياسى ونضالى ضد الاحتلال وشأن كبير فى الحياة العامة والفكر السياسى اليسارى.
وكما كان لحفنى ناصف دور تنويرى وطنى، مارس أيضا دوراً تنويرياً رائداً على المستوى الأسرى وكانت البداية مع ابنته الكبرى ملك التى حرص أن تتلقى مبادىء التعليم وتتعلم القراءة والكتابة، فأتقنتهما الابنة النابغة كما ورثت عن والدها حب الشعر وبراعة نظمه وبدأت فى كتابته وهى فى سن الحادية عشرة من عمرها، وكانت ترى فى الأديبة عائشة التيمورية قدوة ونموذجاً.
أول فتاة تحصل على الابتدائية
حرص الأب أن يلحق ابنته بمدرسة السنية وهو ما كان خروجاً عن العادة وقتها حيث كان تعليم البنات أمراً غريباً عن المجتمع، ووفقاً لكتاب الأديبة مى زيادة الذى حمل عنوان: باحثة البادية ملك حفنى ناصف والصادر عام 1920 بعد عامين من رحيل باحثة البادية، فإن ملك حفنى ناصف دخلت المدرسة السنية عام ١٨٩٣، وحصلت منها على الشهادة الابتدائية سنة ١٩٠٠، وهى أول سنة تقدمت فيها الفتيات المصريات لأداء الامتحان للحصول على تلك الشهادة، لتكون ملك أول فتاة مصرية تحصل على الشهادة الابتدائية، وكانت فوق ذلك تتمتع بثقافة واسعة وموهبة كبيرة فى الخطابة والكتابة ونظم الشعر.
كانت أول صدمات حياة ملك حفنى ناصف وفاة قدوتها الأديبة عائشة التيمورية التى ارتبطت بها ارتباطاً كبيراً وهو ما دفعها لنظم أول قصيدة فكانت فى رثاء السيدة عائشة التيمورية التى توفيت عام 1902، وكانت أول قصيدة تنشر لباحثة البادية فى الجرائد ومن هنا بدأ اسمها يتردد فى المحافل الأدبية بعد أن حظيت بشهرة كبيرة كونها أول فتاة مصرية تحصل على الابتدائية، كما كانت تتمتع ببراعة فى الكتابة والخطابة وبثقافة واسعة، وكانت تجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية وبعض اللغات الأخرى.
وقالت باحثة البادية فى رثاء التيمورية: فذب يا قلب لا تك فى جمود..وزد يا دمع لا تك فى امتناع..ولا تبخل على وكن جموحًا.. فكنز العلم أمسى فى ضياع..سنبقى بعد عائشة حيارى..كسرب فى الفلاة بغير راعى.
وبعد حصولها على الابتدائية انتقلت ملك حفنى ناصف إلى القسم العالى «قسم المعلمات» فى مدرسة السنية وتفوقت على زميلاتها وكانت الأولى عليهن عام 1903، وتلقت تدريب عملى لمدة عامين وحصلت على دبلوم المعلمات عام 1905 وعينتها وزارة التعليم فى مدارس البنات الأميرية، فكانت تدعو دائما إلى تعليم الفتيات، وبدأت تطوف منازل صاحباتها ومعارفها لتقنعهم بإرسال بناتهن إلى المدارس.
عرف اسم ملك حفنى ناصف واشتهر بشكل كبير فى بدايات القرن الماضى خاصة بعد أن شجعها الأديب والمفكر أحمد لطفى السيد الذى كان صديقاً لوالدها على الكتابة فى جريدته «الجريدة»ونشرت مقالاتها تحت عنوان «النسائيات» وجمعتها بعد ذلك فى كتاب يحمل نفس الاسم، وحققت شهرة واسعة حيث كانت تدعو إلى حرية المرأة وحقوقها فى التعليم والثقافة والمساواة بينها وبين الرجل، وتدعو النساء إلى عدم الاستسلام للجهل والظلم، ودعت إلى الإصلاح المجتمعى ونادت بحريات الشعوب، وكانت أول امرأة مصرية تجاهر بالدعوة العامة إلى تحرير المرأة، وحازت كتاباتها شهرة واسعة.
زواج ملك وظلام البادية
وفى عام 1907 بدأت مرحلة جديدة فى حياة ملك حفنى ناصف كان لها تأثير كبير على حياتها وكتاباتها وعطائها، وذلك بعدما تزوجت من عبد الستار الباسل أحد أعيان الفيوم وزعيم إحدى أشهر قبائلها وانتقلت للعيش فى قصره بالبادية فى إحدى ضواحى مركز إطسا، وهناك عايشت ملك حفنى ناصف عن قرب الحياة المتدنية التى تعيشها المرأة فى البادية وماتتعرض له من ظلم وامتهان، فكتبت العديد من المقالات وبذلت العديد من الجهود للدعوة للإصلاح ورفع الظلم عن النساء ووقعت كتاباتها باسم «باحثة البادية»، حيث تعرفت على أحوال النساء وزارت المدارس ودعت لتعليم البنات، وكان بيتها ملتقى للنساء المصريات والأجانب.
وطبقا لكتاب الدكتورمحمود محمد على أستاذ الفلسفة بجامعة أسيوط والذى حمل عنوان: «ملك حفنى ناصف أيقونة تحريرالمرأة»، فإن تجربة الزواج تركت أثراً نفسياً سيئاً لدى باحثة البادية التى لم تنجب منذ زواجها إلى أن توفيت، وهى فترة وصلت إلى 15 عاما، فعانت مما تعانيه المرأة العاقر فى مجتمع بدائى من سخرية واستخفاف وجرح للمشاعر، وزاد من معاناتها أن أعاد زوجها إلى عصمته زوجته الأولى التى كان قد طلقها قبل زواجه بملك، وكان قد أنجب منها بنتاً، وخلال هذه السنوات عبرت باحثة البادية عن معاناتها ومعاناة النساء فى كتاباتها، فكانت ثائرة على الطلاق، وعلى تعدد الزوجات، وما تتعرض له المرأة العاقر، وأغلب النساء من ظلم.
الحس الدينى والالتزام الوطنى
وأشار الدكتور محمود محمد على فى كتابه عن ملك حفنى ناصف إلى أن الحس الدينى لديها جعلها رغم مناداتها بحرية المرأة وحقوقها تتجنب الانزلاق فى خصومة مع الرجل، كما ساعدها التوجه الوطنى على الانحياز لقضايا الشعوب، وقد ورثت هذا التوجه عن والدها الذى كان مؤيدا لسعد زغلول، كما ظهرت النزعة الدينية والوطنية فى القصائد التى نظمتها.
وكانت باحثة البادية أولى المناضلات من أجل قضية المرأة، وتأثرت بالحركة الفكرية التى ظهرت فى مطلع هذا القرن والتى قادها الشيخ محمد عبده وأحمد لطفى السيد وقاسم أمين وسعد زغلول، وكان لها دور وطنى و قومى وعروبى، فعندما اعتدت إيطاليا على طرابلس سنة 1911 شكلت ملك جمعية قريبة الشبه «بجمعية الهلال الأحمر» وأرسلت المعونات من ملابس وأغطية وأدوية لضحايا العدوان الإيطالي، وتناولت سيرتها الكاتبة الإنجليزية «شرلوت كمرون» فى كتاب بعنوان «شتاء امرأة فى إفريقيا» وركزت على اهتمام باحثة البادية بالقضية المصرية.
«جمعت كتابات باحثة البادية بين الحس الدينى والالتزام الوطنى والرغبة فى التجديد والإصلاح وتجاوز الوضع المتردّى الذى آلت إليه المجتمعات العربيّة خاصة فى الشرق، وسعت لتغيير وضع المرأة والمطالبة بحقوقها وحرياتها فلم تتوان عن المساهمة فى إنشاء جمعيّات غايتها النهوض بالمرأة، كما كان لها العديد من الخطب والمحاضرات قدّمتها فى دار«الجريدة» وفى الجامعة المصريّة وعدد من الجمعيّات النسائيّة، وشاركت فى المؤتمرالمصرى الأوّل الذى عُقد بالقاهرة سنة 1911 وقدّمت مقترحات بنّاءة- وذلك وفقاً لكتاب ملك حفنى ناصف « أيقونة تحرير المرأة»،ودعت خلال رسالة قدمتها للمؤتمر لتحسين شأن المرأة المصرية والعربية، وعدم استسلامها للجهل والتخلف والظلم، وضرورة إعطاء المرأة حق التصرف فى مالها الخاص، وناشدت الحكومة بأن يكون التعليم الأساسى إجباريا للفتيات والفتيان على حد سواء، وبتعليم البنات الدين الإسلامى الصحيح، والطب والتدريس والتدبير المنزلى والصحة وتربية الأطفال، واتباع الطريقة الشرعية فى الخِطْبة، والالتزام بالحجاب.
وأسست ملك حفنى ناصف أول اتحاد نسائي، حمل اسم «اتحاد النساء التهذيبى»، وضم عدداً من السيدات المصريات والعربيات والأجنبيات، كما أسست مدرسة لتعليم السيدات والفتيات التمريض، خلال الحرب العالمية الأولى، وصنعت بيدها 100 بذلة كاملة للهلال الأحمر المصرى وجهزت المدرسة والجمعية من مالها الخاص، كما بدأت فى إنشاء مشغل للفتيات وملجأ للمعوزات، وقررت أن توقف خمسة وثلاثين فدانا على إنجاز المشروع، إلا أن موتها حال دون ذلك.
فصاحة ملك وعينها الناقدة
ووصفت الأديبة مى زيادة باحثة البادية فى كتابها الصادر عام 1920 بأنها أديبة ومصلحة اجتماعية احتلت مكانة رفيعة فى الحياة الأدبية والاجتماعية، حيث كانت أول امرأة عربية تبرز فى الخطابة فى العصر الحديث، وإذا قرأ أحد، إحدى مقالاتها رغب فى مطالعة كل ما كتبت.
وتابعت زيادة متحدثة عن الحس النقدى لباحثة البادية: «هى عينٌ ترى ما هو كائن فتذكر ما يجب أن يكون، على أن هذه العين لا تنسى لحظة أنها عين امرأة».
فيما وصف أحمد لطفى السيد باحثة البادية قائلا: «أقرر من غير محاباة أنها أكتَب سيدة قرأنا كتاباتها فى عصرنا الحاضر، بل هى تعطينا فى كتاباتها صورة الكاتبات الغربيات اللاتى تفوقن على كثير من الكتَّاب».
وتحدثت مى زيادة فى كتابها عن الفرق بين باحثة البادية وقاسم أمين فى الدعوة لتحرير المرأة فقالت: «باحثة البادية بين النساء المصريات، بل المسلمات والشرقيات عمومًا، لا يقل فضلها على وجوب تعليم المرأة لتحرير عقلها وتقويم أخلاقها بالعلم الصحيح عن فضل قاسم أمين، وإن كانت لم تطلب لها هذا التحرير إلى الغاية القصوى مثله، لأنها لم تطلب إلغاء الحجاب».
وتناولت مى زيادة الجانب الدينى فى شخصية وكتابات باحثة البادية فقالت: «إن إسلامها لظاهر فى كتاباتها ظهورًا جليًّا، وأقدِّر أنها كانت معروفة بالورع، وقد ذكرت ذلك الآنسة نبوية موسى — التى كانت رفيقتها فى المدرسة — فى خطبة بعثت بها إلى لجنة التأبين وأُلقيت فى الاحتفال المهيب الذى أقامه لها رجال مصر، أنها مسلمة إلى حد إدخال الدين فى كل أمر من الأمور سياسيًّا كان أو اجتماعيًّا أو أخلاقيًّا، حتى مسائل الأزياء والزينة والاصطلاحات والأحاديث الثانوية و فى أسلوب المحادثة بين الزوجين».
وحين اشتعلت معركة بين دعاة خلع الحجاب وأنصار الحجاب التى أشعلها كتابى «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» لقاسم أمين، واشتبك فيها الكثيرون من أقطاب الأدب والفكر، اشتبكت باحثة البادية فى هذه المعركة وفندت آراء الداعين لخلع الحجاب، والذين أرجعوا تأخر الشرق إليه فكان لها كلمة مأثورة قالت فيها:
«إن الأمم الأوروبية قد تساوت فى السفور، ولم يكن تقدمها فى مستوى واحد، فمنها الأمم القوية، ومنها الأمم الضعيفة، فلماذا لم يسوّ السفور بينها جميعا فى مضمار التقدم، إذا كان هو الأساس للرقى الحضارى كما يزعم هؤلاء».
وكتبت عدة قصائد فى فضل الحجاب، ومنها قصيدة بعنوان «رأى فى الحجاب»، قالت فيها:
أيسوؤكم منا قيام نذيرة
تحمى حماكم من بلاء محدق
أيسركم أن تستمر بناتكم
رهن الإسار ورهن جهل مطبق
وكتبت باحثة البادية فى الكثير من الموضوعات التى تعالج قضايا المرأة ومنها ما كتبته عن تعدد الزوجات أو الضرائر والطلاق، حيث قالت:» إنه لاسمٌ فظيعٌ «تعدد الزوجات أو الضرائر» تكاد أناملى تقف بالقلم عند كتابته؛ فهو عدو النساء الألدُّ وشيطانهن الفرد؛ كم قد كسر قلبًا وشوَّش لبًّا وهدم أُسرًا وجلب شرًّا! ، كم أحرج رجلًا وعلَّمه الكذب فأفسد عليه خلقه!».
وتابعت: «أيُّ ازدراء للمرأة وعبث بحقوقها أشدُّ من أن تخرج كلمة من فم الزوج ساعة غضبه فتفرِّق بينهما وتشتِّت ملتئمهما؟! وأى أمل لها فى مستقبل مظلم لا تدرى متى ينهار بنيانه؟ إن الدين لا يسمح بتعدد الزوجات وبالطلاق هكذا على غير شرط كما يفعل الآن رجالنا، وإنما جعل لهما شروطًا وقيودًا لو اتُّبعت لما أنَّ منها النساء البائسات»
كما تناولت التفرقة التى اتبعها الرجال فى المعاملة بين الاجنبية والمصرية إذ قالت:»إذا اجتمع المصريون بسائحة إفرنجية أو امرأة غربية تلطفوا لها كثيرًا؛ فساعدوها فى النزول من عربتها، وأمسكوا لها حقيبتها، ورفعوا الطرابيش إجلالًا لها، فى حين أن أحدهم يستنكف الركوب مع امرأته فى عربة واحدة، وإذا سافرت أو انتقلت إلى محل آخر تركها ونفسها كأنه لم يكن صاحب الأفكار الحديثة القائل بمساعدة المرأة»
وفى مقال أخر كتبت:»لا يغيظنى أكثر من أن يزعم الرجال أنهم يشفقون علينا، إننا لسنا محلًّا لإشفاقهم، إنما نحن أهل لاحترامهم، فليستبدلوا هذا بذاك، والإشفاق لا يتأتَّى إلا من سليمٍ لعليلٍ أو من جليلٍ لحقيرٍ، فأيَّ الصنفين يعتبروننا؟ تالله إنَّا لنأنف أن نكون أحد هذين».
وانتقدت ملك حفنى ناصف سلبية النساء واستسلامهن للجهل والتخلف، وطالبت بالعديد من المطالب ومنها: ضرورة أن تذهب النساء لحضور الصلاة وسماع الوعظ فى دورالعبادة، وأن تتمسك بحرية التصرف فى مالها، وحرية الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان، وحرية الرأى، وأن يكون التعليم الأولى إجباريا، وأن تتكفل الجمعيات الخيرية وأغنياء الأمة بتعليم الفقراء من بنات الأمة وأبنائها، وتوسيع نطاق مدارس الممرضات وتعليم النساء مهن الطب بدرجة تساوى درجة تعليم الرجال، وأن يكون فى كل قرية طبيب وممرضة، كما طالبت بالإكثار من المستشفيات الخيرية والصيدليات، وتمسك النساء والبنات بضرورة محاسبة كل رجل يخرج على الآداب مع المرأة والفتاة فى الشوارع، وألا يتزوج الرجل على امرأته ولا يطلقها إلا بإذن المحكمة الشرعية،وانتقدت الزواج المبكر والقسرى، والزواج لأجل المال، وأكدت أن الزواج «العميانى» السبب وراء شقاء أغلب الأسر المصرية ودعت إلى اتباع الطريقة الشرعية فى الخطبة، فلا يتزوج اثنان قبل أن يجتمعا فى حضور محرم، ليرى كل منهما الآخر ويتحادثا.
الرحيل الحزين
وكانت صدمة باحثة البادية بعد سنوات زواجها التى وصلت إلى 15 عاماً تعامل المجتمع معها خلالها على أنها عاقر حين علمت أنه ليس لديها عائق يمنعها من الإنجاب وأن زوجها بعد أن أنجب من زوجته السابقة أصيب بمرض أفقده القدرة على الإنجاب، فأصيبت باكتئاب، ثم أصيبت بمرض الحمى الإسبانية وتوفيت وهى فى الثانية والثلاثين من عمرها فى 18 أكتوبر 1918 بمنزل والدها ودفنت بمقابر أسرتها فى الإمام الشافعي، وأصيب الأب بالشلل بسبب ظلم المجتمع لكبرى بناته، وقضى عليه الحزن فرحل بعدها بأربعة أشهر فى فبراير 1919.
وكانت ملك حفنى ناصف أول امرأة يقام لها حفل تأبين، حيث أقيم هذا الحفل بالجامعة المصرية وشيعها إلى مثواها الأخير كبار رجال ونساء الفكر والثقافة ومنهن هدى شعراوى، ورثاها أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وخليل مطران بقصيدتين، وكذلك الأديبة اللبنانية مى زيادة، وحضر والدها حفل تأبينها محمولاً من شدة الضعف والوهن، ووقف الشاعر الكبير حافظ إبراهيم ليرثيها قائلاً:وتركتِ شيخَكِ لا يَعِي..هل غابَ زيدٌ أو حَضَر..ثَمِلاً تُرَنِّحُـه الهمُومُ إذا تَمايلَ أو خَطَـر..كالفَرْعِ هزَّتـهُ العواصفُ فالتوى ثم انْكَسَر».
وتم إطلاق اسم ولقب باحثة البادية على عدد من المؤسسات والشوارع فى مصر والعالم العربى تقديرًا لدورها فى النهوض بالمرأة والمجتمع.