بدأب وانحناءة خفيفة للظهر، يجلس عبد التواب عبد المنصف زلط صاحب الـ66 عامًا على هيئته المعتادة منذ سنوات، متوسطًا زوجته وحفيده بعزة وكبرياء، ينخرط بسعادة وفخر فى صناعة منتجات الجريد داخل ورشة تزدهر بالحياة، تحاكى أعرق الحرف اليدوية بتنويعات فنية مختلفة مصحوبة بالفن والإبداع، يفوح من جنباتها كفاح سنوات فى مهنة ما زالت تكابد عناء البقاء، تمثل أدواتها وخاماتها ذاكرة خالدة تتحدى لغة النسيان.
تقطيع وتجهيز الجريد
عبد التواب زلط يصنع فانوس رمضان
تاريخ عريق تفوح من شذى عبيره رائحة العراقة والجمال فى قرية سقارة بمحافظة الجيزة، حيث الحضارة والوفرة فى أشجار النخيل، حافظ عليه أنامل مبدعى صناعات الجريد جيلًا بعد جيل، ما تلبث أن يطاله النسيان حتى يجدد نفسه بلوحات فنية يستخدم حرفيوها الجريد فى رسمها، ومنهم "عبد التواب"، والذى يعد من الحرفيين القلائل الذين ما زالوا يمارسون هذه المهنة التى تكاد تُنسى ويطورون فيها؛ ليحافظ على موروث شعبى أصيل.
ورشة عبد التواب زلط
البداية كانت من الطفولة، حيث السعى وراء الرزق ولقمة العيش.. بدأ "عبد التواب" رحلته مع صناعات الجريد فى الـ11 من عمره، حينها كانت حياتهم المعيشية صعبة، أسرة بسيطة مكونة من أربعة صبية وبنتين، والأب يكافح لتوفير احتياجاتها ومتطلباتها: "والدى ماكنش قادر يكفينا، كنت بسمع آنينه بليل وهو نايم متضايق وزعلان، كنت فى خامسة ابتدائى ووقتها قررت أنزل أشتغل فى ورشة لتصنيع الأقفاص عشان أخفف معاناة أسرتى وما تتهدمش، تحملت الضرب والإهانات وشربت الصنعة والحمدلله ربنا فتح عليا وقدرت أكمل وأصنع منتجات مختلفة وتحف وديكورات من الجريد".
تصنيع منتجات الجريد
نشأ "عبد التواب" فى حرفة صناعة منتجات الجريد منذ طفولته، ولا يمكنه الاستغناء أو نتخلى عنها، منها علَّم وكبر أبنائه السبعة، وبدعم زوجته وثقة زبائنه واصل مسيرته فيها دون كلل أو ملل، فتزوج سنة 1978، أنجب 6 بنات وصبى، وأصبح لديه 33 حفيدًا منهم "محمود" الذى دفعه سنه الصغير لتعلم حرفة "القفاصين": كبَّرت وعلِّمت أولادى من المهنة دى، وبدأت أعلم حفيدى محمود أصول المهنة بجانب دراسته وتعليمه، حتى يكمل المسيرة من بعدى ويطوِّر من المهنة بالعلم أولًا والمهارة والفن".
صناعات عبد التواب زلط
"القفاصين" مهنة موروثة بدأت بأقفاص الخضراوات والفاكهة، ثم تطورت لأسرة وكراسٍ وطاولات، واليوم أصبحت تحف وديكورات، "عشقت المهنة وارتبط بها، وحافظت عليها رغم قدمها ومخاطر زوالها، ففى الوقت الذى كان يصنع فيه من حولى من القفاصين أقفاص الخضروات والفاكهة فقط، كنت أطور وأجدد من صناعات الجريد بمنتجات مختلفة تواكب الحداثة والتجديد، حتى أن مع دخول البلاستيك وعزوف الكثيرون عن المهنة واصلت العمل دون توقف أو عناء حتى وصلت منتجاتى لمختلف دول العالم، وعلمنا أصول المهنة لكثير من طلبة فنون جميلة وفنون تطبيقية، وصنعت أثاث وديكورات من الجريد لفنادق وقرى سياحية عديدة، كان آخرها أثاث مستوحى تصميمه من الثقافة السنغالية".
تصنيع فانوس من الجريد
تعتمد مهنة "القفاصين" على مواد خام من الطبيعة، فتقوم على جريد النخيل وأدوات بسيطة كالمنجل والساطور والشاكوش، وبها تصنع منتجات عديدة ومتنوعة يطلبها المصريون من مختلف المحافظات وتحظى بتقدير الأجانب والعرب من مختلف دول العالم، وهذا ما دفع الكثير قديمًا صغارًا وكبارًا لامتهانها والتفنن فيها وتطويرها لضمان استمراريتها: "سقارة تشتهر على مستوى محافظة الجيزة بزراعة النخيل، ومع توفر الجريد فى القرية ازدهرت صناعات يدوية عديدة، خاصة وأن كل ما فى الجريدة نافع وقابل للاستخدام، فبعد تقليم الجريد من النخل وتقشيره تستخدم بعض الورش المتخصصة الخوص الناتج عنه فى صناعة الأنتريهات، كما أن سيدات البيوت يستخدمن "الوقيد" الموجود بالجريد فى "الخبيز".
عربة ريفية مصنوعة من الجريد
لجريد النخيل أنواع عديدة، ولكل نوع استخدامه الخاص: "للجريد أنواع، السيوى والحيانى والمهاد والنوى، كل نوع له طبيعته واستخدامه، فالجريد المهاد زى الجنيه الذهب بيعيش فى كل الفصول من غير ما يجراله حاجة ويسوس، وهو أفضل أنواع الجريد وأسهلهم فى التشكيل والاستخدام وبيعيش، أما الجريد النوى مش بيعيش، والسيوى ممكن يخوخ ويستخدم فى صناعة أقفاص الطماطم والتعبئة فيها بتكون لمرة واحدة بس".
أنتيكات مصنوعة من جريد النخيل
جريد النخيل كان وما زال الدافع الأول لـ"عبد التواب" وغيره من "القفاصين" للعمل والإنتاج والإبداع، فبالرغم من التغيرات التى طرأت على السوق ومتطلباته ومراحل المهنة الشاقة إلا أنه مازال يعمل ويكافح ويفكر فى كل ما هو جديد لتطوير المهنة وإنتاج وتشكيل كل ما يمكن تخيله من الجريد: "منتجات الجريد عديدة، منه تصنع أقفاص حفظ الخضروات والفاكهة، وكراسٍ وطاولات وأسرة وأراجيح وأنتريهات تستخدم فى البيوت والمقاهى والقرى السياحية والفنادق، وتحف وديكورات بالرغم من صعوبة إخراجها من قطع الجريد إلا أن صنَّاعها تفننوا وابتكروها وبإتقان شكلوها وأصبحت تستخدم للعرض والزينة فى البيوت والفنادق ومختلف القرى السياحية، معتمدين على الخبرة والمهارة وأدوات بسيطة كالمنجل الذى نستخدمه لعزل الخوص عن الجريد، والساطور لتقطيع الجريد وشقه.
عربة ديكور مصنوعة من الجريد
خطر الانقراض كان السبب فى تطوير "عبد التواب" لصناعات الجريد والتجديد منها بما يواكب الحداثة ويلبى احتياجات السوق وأذواق الزبائن، فعكف على تطوير الصناعة منذ 25 عامًا، ومن الجريد صنع تحفًا وأنتيكات فنية، تخصص فيها وأصبح شغله الشاغل تطويع الجريد وتشكيله لإنتاج مختلف المنتجات: "مع مرور الوقت لقينا المهنة هتنقرض وبيوت كتير هتتقفل، فبدأت أطور منها بحيث تجيب ليا دخل وأقدر أواكب السوق المحلى والعالمى، مع مرور الوقت ذاع صيتى وبدأت كليات فنون جميلة تنظم وفود طلابية للقرية لعمل مشروعات التخرج، وبدأت اعمل أباجورات وكراسى وانتريهات وسراير وعربيات مستوحاة من الطبيعة والبيئة المحيطة وأسوار مزخرفة تشبه الأرابيسك، وشاركت بمنتجاتى فى معارض مختلفة زوارها من الأجانب، والحمدلله وصلنا بشغلنا للعالمية".
كراسى مصنوعة من جريد النخيل
ساعات طويلة يقضيها "عبد التواب" يوميًا فى ورشته حتى يصنع ما يطلب منه من منتجات بدقة وإتقان وشكل جمالى جذاب بداية من تقطيع الجريد وصولًا لتركيبه، حيث يكفى الكرسى الواحد أربع ساعات تصنيع بداية من تقطيع أعواد الجريد حتى خروجه فى صورته النهائية: "باشتغل فى اليوم حوالى ثمان ساعات وخلالها بكون صنعت كرسيين، كل كرسى فى أربع ساعات، وأكتر حاجة بتبسطنى لما اعمل منتج يبسط الزبون.. دا بيدينى حافز إنى أكمل واعمل الأحسن".
ورشة عبد التواب زلط
"سعيد وفخور باللى حققناه فى المهنة، الحمدلله قدرت أوصل فكرة أن الجريد ممكن يتعمل منه شغل حلو فيه لمسة جمالية".. بتلك الكلمات اختتم "عبد التواب" حديثه، متمنيًا إقامة معارض دائمة لعرض منتجات "القفاصين" من جريد النخيل، وتنظيم ورش عمل دورية لتطوير المهنة وتعليم الأجيال الجديدة أصولها حفاظًا عليها من الاندثار، مؤكدًا أن اللمسة الجمالية أبرز ما يميز الحرف اليدوية، بأبسط الأدوات والخامات يصنعون منتجات طبيعية جميلة ومميزة وتبهر الجميع.