«الخيال ملكة عقلية».. هكذا كان يرى الفيلسوف الهولندى باروخ إسبينوزا، أما الفيلسوف الألمانى كانط فكان يرى أن «الخيال ملكة إبداعية تحول الملكة الإنتاجية والأفكار الجميلة إلى موضوعات محسوسة»، ومن هذا المنطلق يمكننا النظر إلى الأعمال الدرامية، خلال موسم رمضان 2024، وعلى رأسها مسلسلان «الحشاشين» و«جودر»، التى تضافرت فيهما العناصر الفنية مع الخيال لصناعة رؤية بصرية رائعة، قادرة على الإبهار وخلق علاقة تفاعلية بين المتلقى والمبدع.
وفى العملين، يتبدى النشاط الأوسع للخيال فى رحاب الفن والأدب، يفرغ فيها طاقته المثيرة، دون إغفال للواقع الذى استمد منه الكاتب معالجته الدرامية، حيث استطاع كل من الكاتبين عبدالرحيم كمال وأنور عبدالمغيث أن يمزجا الخيال بالحقيقة من خلال الواقع وليس من دونه، وربما كان خيالهما الروائى المغامر أكثر براعة فى خوض غمرات الفكر والبشر، باعتبارهما الأصلح للحفر فى تاريخ الدولة والمجتمع والسياسة، والأقدر على اقتحام خفايا الواقع والماضى معا.
فى «الحشاشين» حاول عبدالرحيم كمال، وهو كاتب واسع الثقافة والاطلاع وصاحب رؤية إصلاحية وصوفية واعية بالتاريخ وتطور الفكر الدينى، فى معالجته لقصة جماعة الحشاشين والإجابة عن أسئلة عديدة تخص تاريخها المجهول والملىء بالأساطير والألغاز عن تلك الفرقة الغريبة التى أثارت جنون العالم من فوق قلعة حصينة، وعمل على إيجاد بنية حكائية، وخلق تسلسلا دراميا مقنعا لمأساة لم يصلنا منها إلا روايات مختلفة ذكرها المؤرخون والمستشرقون عن حياة شيخ القلعة الداهية المجنون، الحسن بن الصباح، وتأسيسه جماعته وانقلابه على صديقه الوزير نظام الملك وقتله، وفى ذلك صاغ سياقا من الشخوص التى بدت بشرا كاملى الحضور حينا، ورموزا وقيما تشير أكثر مما تصرح أحيانا عن الماضى وما يقبله من واقع نعيشه، وعبر الاستقراء فى روايات التاريخ المختلفة وبخياله، نجح فى ردم الفجوات وترميم الشقوق فى سرد ابتكارى عالج عددا من قضايا الواقع والتاريخ معا فى حدود العالم الذى يعالجه، واستكمال القطع المتآكلة من رقعة الجلد، لتوفير سياق قادر على حمل الحكاية دراميّا، من خلال مسار صاعد لا يخلو من توليفة الحكى الأساسية، بما تتطلبه من صراع وتنام وإضاءات وكشف، وبما لا يخل بالظروف والبيئة التى نشأت فيها الأسطورة، ليكمل القصة ويملأ الفراغات.
الأكيد أن الحسن بن الصباح لم يطلع أحدا على سره، وأن أحدا من المؤرخين لم يشهد تلك الجنة المزعومة فى قلعة آلموت بنفسه، ولم يسمع روايتها من شاهد بعينه، ولم تصل بعد أمام الباحث فى تاريخ تلك الجماعة سوى روايات المستشرقين، التى خرجت فى وقت الحروب الصليبية، والتى كان أصحابها فى حاجة إلى وسيلة لتأويل سبب الشجاعة والهزيمة التى تلقوها فى الشرق، ومن ثم كان من العسير على عبدالرحيم كمال أن يتتبع مصدر هذا الخيال من روايات الزمن الذى نشأت فيه وسردت منه إلى ما بعده من أزمنة القرون الوسطى، لكنه وضع القاعدة التى انطلق منها وهى فكر حسن الصباح نفسه، وصولا إلى مقر حكمه الذى استمر فيه 56 عاما دون أن يخرج منها، ووضع رؤية أجاب فيها عن الكثير مما أغفله التاريخ وغاب عن روايات المؤرخين، ليصور لنا رجلا هيامه بالسيطرة واندفاعه كانا أعظم من دهائه.
الأمر نفسه تكرر مع الكاتب المسرحى والسيناريست أنور عبدالمغيث، وهو كاتب تغريه الأجواء الشعبية، وتتحقّق على وجه لافت فى معالجة موضوعات السير والقصص التراثية والفولكلور، تجاربه السابقة حملت نزوعا إلى حالة الحكاية الشعبية والتراثية، الذى أعاد سرد حكاية جودر الصياد وأخويه فى السردية العربية الشهيرة «ألف ليلة وليلة»، مقدما لنا معالجة عصرية تمتزج فيها الخرافة بالأسطورة والأحلام بالواقع، والاستفادة من ذلك الكنز الحافل بالخيال والفكاهة والمغامرة والقسوة.
ميزة السرد الحكائى الذى قدمه «عبدالمغيث» فى قصة «جودر الصياد» ليست فقط فى إضفاء خلفية لقصته، وإضفاء سردية حكائية يردم فيها فجوات الحكاية التراثية عبر استقراء جيد وسردية حافلة بالاستعارات اللفظية، والصور البيانية عبر مزيج من الحداثة والأصالة معا، إنما عبر التمهيد لقصته برشاقة وحيوية ودلالة.
استطاع العمل السير بأحداثه المتصاعدة أن يسرد قصة جودر المصرى، من خلال الفكرة والحبكة وتطور سرد الحكاية وتشعبها وتوسيع نطاق الأحداث والشخصيات والأماكن، لكن ربما كانت الميزة الأكبر التى ربما افتقدها الكثير من كتاب السيناريو والمسرح، هى أنه قدم حكاية شعبية عبر بناء درامى ينتهج نهج سلسلة الحكايات التراثية، وبنى سرده على المتن الحكائى الشرقى، فحقق طرازا احتفاليا، له خصوصيته وتفرده وأخلاقياته وجمالياته، وأضفى عليها بعضا من الخصوصية المصرية دون كثير من المبالغة أو التنميط محاولا إيجاد هوية ثقافية ودرامية لسرديته، ورغم أن الحكاية كغيرها من حكايات «ألف ليلة وليلة» تنتمى إلى السردية الغرائبية نمطا، فإنها كانت غنية بالأبعاد الفلسفية والشاعرية.
نجح أنور عبدالمغيث فى معالجته المعاصرة لحكايات «ألف ليلة وليلة» أن يبرز فكرة البطل الشعبى، والانتصار لهذا النموذج الذى ينذر حياته لخدمة المجتمع وتأمينه ضد المخاطر فى اللحظة التاريخية والإنسانية التى تشهد زمن ظهوره، عبر صورة البطل الذى يمثل الرمز والشخصية، التى تتمتع بالقوة والعفو والكرم والشجاعة والمروءة والحب، كما تتميز بقهر الظلم، كما هى موجودة بكثرة فى التراث العربى والعالمى.
اللغة فى العملين قدمت وسيطا صافيا مناسبا لزمن التلقّى، وهو ملمح ذكى من صناع العمل لتوضيح هوية الشخصيات الدرامية، وتبسيط الأمر على المشاهد حتى يسهل التلاقى مع العمل الفنى، وهو ما يبدو رهانا من صناع العمل على اعتماد اللهجة العامية كبديل رمزى للفارسية، التى كان يتحدث بها سكان دولة السلاجقة، وكذلك الحال مع الحسن بن الصباح وأتباعه، أو الفصحى مثلما الحال فى حكايات ألف ليلة وليلة، وانطلقت المعالجة المنطوقة من حالة النص وظهيره المؤسّس، وكان الحوار فى كثير من نطاقاته شعرا أو أقرب إلى الشعر، فكان الحوار واحدا من مقومات المسلسلين الأساسية وأبرز عناصر قوتهما، لا سيما أنه ينسجم مع أجواء القصة، مازجا فيها بين الجانب النقدى الاجتماعى بالإسقاط السياسى.