في زمن يموج بالهتافات، وتفوح منه رائحة حلم يغنون فيه لأمجاد وانتصارات يروجها شعراء عظام وأسطوات الكتابة الكبار والصحفيون والمذيعون والقصاصون، والمطربون، والملحنون، كان حلم يسيطر على المناخ العام ويُسطر حواس الناس نحو التأييد، أحلام وتطلعات القومية العربية تلوح في الأفق، في هذا الوقت ومن كفر القرينين، بمحافظة المنوفية، ولد العمدة صلاح السعدني.
ربما لم يكن البيت الذي عاصر أحداثًا تاريخية مهمة من مصر، كثورة 1919، وثورة الضباط الأحرار وميلاد الجمهورية وأفول عصر الملكية، البيت الذي خرج منه الكاتب الكبير محمود السعدني أحد أسطوات الكتابة الساخرة في مصر، يتصور أن يخرج من صلبهما فنان ومبدع له أفكارًا وطنية وإبداعية تحمل آمال جده وأمنيات عائلته، ويكون واحدًا من أبرز فناني جيله، كذلك كان الفنان صلاح السعدني، الفنان المصري الأصيل والمثقف العضوي، صاحب الصفحات والعلامات الفنية المضيئة والخالدة في تاريخ الفن المصري.
تشكل وعي صلاح السعدني على تحولات وأمواج سياسية واجتماعية كبيرة، شكلت جزء لا يتجزاء من موهبته الكبيرة، كذلك تشكلت خلفيته الثقافية والتي ورثها صلاح السعدني عن شقيقه الأكبر (محمود) ألهمته بالإفصاح عن موهبته ورغبته في دخول مجال التمثيل، وجعلته ينتبه مبكرا إلى ضرورة أن يكون الممثل على وعي تام بكل ما يحدث حوله.
كان العمدة ضيفا دائما على الصالونات الأدبية واللقاءات الفكرية التي استمد منها جزء من أدواره واكتسب خبرات جديدة أفادته في أعماله الفنية، فقد كان يفضل أن يرافق شقيقه للقاء المثقفين أمثال كامل الشناوي وزكريا الحجاوي ونعمان عاشور وألفريد فرج وعبدالرحمن الخميسي، وغيرهم من الكتاب والنقاد صناع الوعي في القرن العشرين عبر مقهى "متاتيا" بميدان العتبة، ومقهى محمد عبدالله بالجيزة.
جميع ما سبق كانت الخبرات التي من خلالها استطاع أن يختار بعناية أدواره ويُشخص فيها صورة المثقف المصري، ومنها امتلك الممثل ناصية الأداء التراجيدي والكوميدي، وإجادة اللهجات الريفية والصعيدية، متنقلا بين خلفيات وإيدلوجيات فكرية، وشخصيات عدة، فكان الطالب الجامعي والفلاح والعامل والعمدة والمحقق والضابط، وغيرها، وأدرك أن الدراما الجيدة تقترن بأدب جيد، ومن هنا جسد أبطال روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس.
في فيلمه "فوزية البرجوازية" قدم صورة المثقف المنعزل عن الواقع الذي يعيشه نمط يسخر من المثقفين اليساريين المنعزلين عن أفكار مجتماعهم، من خلال شخصية (عبد الواحد) الذي قرر الانفصال السياق السياسي المعاصر والانكفاء على الذات والانعزال على رؤى وأفكار ربما انتهى زمنها، ليعبر بصدق عن واقعنا السياسى الذى نعيشه، معبرا وبشدة عن حال المصريين وتقسيمهم، الفجوة بين المصريين الدائمة في الأفكار والرؤى، واقع عبثي ظاهره ينادي بمناهضة الطبقة الغنية الاحتكارية المستغلة من أجل مصلحة طبقة البروليتاريا الكادحة، وهو في واقع الأمر نصاب وانتهازي.
وفي مسلسل "سفر الأحلام" قدم صورة مباشرة أكثر عن المثقفين من خلال شخصية المؤلف المثقف، الذي استطاع التفكير خارج الصندوق، وتحفيز وتشجيع الناس وتغيير دفة حياتهم، تلك المثقف المناضل لفكرته الذي يدافع عنها كل قوة وشراسة وبأي شكل، حتى ولو كان الثمن حياته نفسها.
وفي دوره البارز حسن أرابيسك جسد صورة المصري البسيط لكنه صاحب الثقافة الواسعة، المدافع عن الثقافة والهوية، وتاريخ أول حضارة إنسانية عرفها التاريخ، الرافض لسطوة القبح على الجمال، صاحب المهنة التراثية التي ورثها عن أجداده، ليحافظ على أخر ما تبقى من صورة مصر الحضارية، وعلى الذوق العام للمصريين الذي تدهور وانحدر بعد سطوة جماعات الظلام على أفكار المصريين، مثلما قال هو نفسه على لسان شخصيته حسن في السجن: "عايزين نعمل تحفة، ترمز لتاريخ مصر كله، بس تاريخ مصر كبير أوى وطويل، فرعونى على قبطى على رومانى على يونانى على عربى، ومن ناحية تانية بتبص ع البحر لكن الذوق غير الذوق، الطعم غير الطعم واللون غير اللون" وكأنه وكأنه يخاطب مصر كلها التى أصبحت بفعل فاعل داخل الزنزانة، لتتحول القصة كلها إلى رمز لحال مصر.
الأمر نفسه تكرر في شخصية نصر وهدان القط مدرس التاريخ في الجنوب الذي يرفض التفريط في تاريخه وإرثه الحضاري، المثقف، الذي يحافظ على تاريخ بلده، ويحارب أي تشويه يصيبه، ويحاول من خلال مهنته كمعلم للأجيال، تعريف الطلاب بحضارتهم للتمسك بمفردات أصالتهم، مجسدا صورة أهل الجنوب الذين يقدرون قيمة كل ما هو قادم من صناعة التاريخ لأنهم بالأساس بناة الحضارة التي لازال العالم يحتفي بها، وبين هؤلاء الذين ينهبون الآثار والتاريخ مقابل حفنة من الأموال، مثلما ظهر تاجر الآثار "عمران الجارحي" الذي لعب شخصيته الراحل حسن حسني.