عاش عبده الحامولي ومات وهو يعرف أنه المطرب الأول والأشهر في القرن التاسع عشر، ملأ صيته الدنيا، ووصل إلى القصر، حتى أن الخديو إسماعيل كان لا يطرب للغناء إلا بصوت الحامولي، فقربه منه، وأطلق عليه لقب "المطرب المغرد"، وحسبما يقول كتاب "تراث مصري" لـ أيمن عثمان أمام الخديوي:
ما كنش كده طبعك يا غزال
بشكل كئيب وحزين على غير عادته، فاستدعاه الخديو ليقترب من مجلسه، وحاوره..
- أهناك ما يكدر صفوك؟
-وكيف يجد الكدر إلى سبيلًا وأنا فى رحاب ولى النعم!!
- لكنك محزون، فماذا حدث؟
-لم يحدث أمر ذو بال، فلا تشغل نفسك بأمرى يا مولاي.
- بل لابد أن أقف على السبب.
روى للخديوى أنه بعد أن نال شهرته الواسعة زار والده محملًا بالهدايا، ليسترضيه طالبًا منه السماح، ولكن خاب ظن الحامولى فى الزيارة..
- أنت مين؟
- ألم تعرفنى يا أبي؟ أنا ولدك عبده.
-ليس لى ولد يحترف الغناء.. إن ولدى عبده الذى أعرفه مات من زمن بعيد
وطرده والده من المنزل للمرة الثانية..
-وهكذا يا مولاي.. أظلمت الدنيا فى وجهي، ولا أرى لما أنا فيه من نعمة سابغة أى معنى ما دمت عاجزًا عن الحصول على رضاء أبي.
- إنها مسألة بسيطة.. فدع عنك التفكير فيها.
بعد أيام من حوار المطرب والخديوي، فوجئ الشيخ الحامولى والد مطربنا بدعوة عاجلة لمقابلة مدير مديرية روضة البحرين، وهو الاسم الذى كان يطلق على الغربية والمنوفية مجتمعين، ومديرها هو وزير محافظ.. ذهب الأب للقاء المدير وهو قلق ومتخوف، فلم يحدث أن قابل فى حياته مديرًا أو مسئولًا، وعندما دخل مكتب المدير، وجده فى اجتماع مع باشاوات وأعيان المديرية، وعن يمين المدير جلس ابنه عبده الحامولي.. لم تصدق عيناه هذه المكانة التى وصل إليها ابنه، ووقف فى ذهول، فدعاه المدير إلى الاقتراب.
-إن ولى النعم قد أمرنى بأن أدعوك إلى هذه القاعة لكى ترى بعينيك مكانة ولدك بين أعيان المديرية، وهى مكانة تجعله يتقدم عليهم فى الحفلات والاجتماعات.
- نعم هذا ما أراه يا سعادة الباشا
-أليس يحق لك أن تفخر بولدك، وقد رأيت أية منزلة يتمتع بها؟
- لم أكن أعرف أن له هذه المكانة.
-أما وقد عرفت.. فخذ مكانك إلى جانبه، وعانقه حتى يعرف أنك لم تعد تسيء الظن به.
استشعر الخديوى حرص مطربه على علاقته بأبيه، واحتياجه لعودته إلى جذوره، فأعد هذه الخطة حتى يزيل الحزن عن قلبه، ويعود لسابق عهده فى الغناء..
كما كان مطربًا للخديوي، وصديقًا للأعيان، ونجم حفلات علية القوم.. لم ينس أن للمصريين حقوقًا عليه، فهم جمهوره الحقيقي، وصانعو شهرته، ومريدوه الأوائل، ولهم عليه فضل لم ينكره.. يغنى لهم، فيطربهم شجنًا، ويطربوه دعمًا وتشجيعًا.. لذلك له معهم العديد من النوادر والطرائف التى تظهر مدى امتنانه لهم..
زاره رجل بسيط فى منزله، فاستقبله ببشاشة وجهه المعروفة عنه، ودعاه إلى الجلوس، وبعد فترة توتر وقلق بدت على وجه الرجل البسيط تشجع.
وقال للحامولي: يا سى عبده أنا من خدامين رجال تختك - فرقتك الموسيقية - أحملهم أفرادًا على حمارى عقب كل سهرة إلى دورهم، وقد كبر ولدى ووحيدي، فأردت أن أزوجه وأفرح به، وكنت فى القهوة، فدعوت بعض إخوانى الحمارين لمشاركتى فى الفرح، فقال أحدهم متهكمًا "يعنى حتجيب الحامولى يغني!!" فحلفت بالطلاق على غير وعى منى بأننى سأفعل، وقد جئت إليك راجيًا أن تمن على فتحضر لتقول يا ليل وتنصرف.. لأنه لا يرضيك أن أعمر دار ولدى وأخرب داري.
وقف الرجل فى خجل شديد، وتقدم من الحامولي، ومد يده بدينارين.. ابتسم الحامولى فى لطف، ورد المبلغ ليد الرجل، وسأله عن موعد الزفاف، وعنوان بيته.
بعد انصراف الرجل.. دعا الحامولى مساعديه، وأمرهم بكسوة الأسرة كاملة، وإرسال ملابس الزفاف للعريس وعروسه، وطلاء المنزل بالكامل، وتزيينه بالأعلام، والاستعانة بأكبر "فراش" فى البلد لإقامة سرادق كبير للفرح، وتجهيز عشاء فخم للمعازيم.. كل هذا كان يتم والرجل البسيط فى حالة ذهول غير مصدق لما يحدث..
فى الليلة الموعودة حضرت العوالم للغناء للسيدات، وحضر الحامولى بتخته للغناء داخل السرادق.. قيل عن هذا الحدث إن الحامولى غنى فى الحفل كما لم يغن لا من قبل ولا من بعد.