نواصل سلسلة مقدمات الكتب ونتوقف اليوم مع كتاب جنة الشوك لـ عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، فما الذي يقوله في المقدمة؟
مقدمة
هذا لون من ألوان القول لم يطرقه أدباؤنا المعاصرون؛ لأنهم لم يلتفتوا إليه، أو لأنهم لم يحفلوا به، مع أنه من أشد فنون القول ملاءَمَةً لهذا العصر الذي نعيش فيه، فنحن نعيش في عصر انتقالٍ كما يقال لنا منذ أَخَذْنَا نعرف الحياة، وعصور الانتقال تمتاز بما يكثر فيها من اضطراب الرأي، واختلاط الأمر، وانحراف السيرة الفردية والاجتماعية عن المألوف من مناهج الحياة؛ وهذا كله يدفع إلى النقد، ويحمل على العناية بإصلاح الفاسد وتقويم المعوَجِّ، والدلالة على الخير ليُقصَد إليه، وعلى الشر لتُتنكَّب سبيله، وإظهار ما يحسن وما لا يحسن في صورة قوية أخَّاذة، عميقة الأثر في النفوس، شديدة الاستهواء للذوق، عظيمة الحظ من ملاءمة الطبع.
ونحن نعيش في عصرٍ ما زلنا نسمع أنه عصر السرعة، يقصر فيه الوقت مهما يكن طويلًا عمَّا نحتاج إلى أن ننهض به من الأعباء التي لم تكثر ولم تثقل على الناس في عصر من العصور، كما تكثر وتثقل وتتنوع وتزدحم في هذه الأيام؛ وهذا كله يحمل على أن نُؤثِر الإيجاز على الإطناب، ونقصد إلى ما يلائم وقتنا القصير وعملنا الكثير، وهذه اللحظات التي يُتاح لنا فيها شيء من الفراغ للاستمتاع بلذات الأدب الخالص والفن الرفيع.
وليس من شك في أن حياتنا الحديثة قد وجَدَتْ من أدبنا الحديث مرآةً صادقةً تصوِّرها أحسن التصوير وأدقه وأعظمه حظًّا من إمتاع العقل وإرضاء الذوق وملاءمة الطبع؛ فقد عرفنا المقالة منذ أواخر القرن الماضي، وعرفنا أنواعها المختلفة وفنونها المتباينة ومحاولاتها الناجحة لتصوير ما نحتاج إلى أن يُصوَّر لنا من ضروب الحياة التي نحياها، ناقدة مرة ومقرِّظة مرة أخرى، معلمة مرة ومعنية بالإمتاع الفني مرة أخرى، متناوِلةً للسياسة على اختلاف ألوانها، وللحياة الاجتماعية على تبايُن أشكالها، وللحياة العقلية على تنوُّع فروعها.
جنة الشوك
ثم عرفنا القصة التي تقصد تارةً إلى الأدب الخالص، وتارةً إلى تصوير الحياة المصرية أو الحياة الإنسانية بوجه عام. وعرفنا الكتب التي يهجم أصحابها فيها على ضرب من ضروب الحياة ينقدونه نقدًا مباشرًا، أو على لون من ألوان الحياة يُحبِّبُونه إلى الناس ويدعونهم إليه، أو على مسألة من مسائل العلم، أو قضية من قضايا الفلسفة، أو مذهب من مذاهب الأخلاق، أو اتجاه من اتجاهات الفن والأدب. كل ذلك وأكثر من ذلك قد ظهر به أدبنا الحديث، وانتهى منه إلى حظٍّ لا بأسَ به، ولكنه مهما يبلغ من الرقي، ومهما يعظم حظه من التنوع والاختلاف والخصب؛ فلن يغني عن هذا الفنِّ الجديدِ القديمُ الذي يُنقَد في سرعة وخفة ودقة وإيجاز، ويحاول مع هذا كله أن يكون كلامًا مختارًا يروق بلفظه ومعناه كما يروق بصيغته وأسلوبه، ويصلح من أجل هذا كله لأن يكون أدبًا يجد القارئ فيه ما يحب أن يجد في الأدب من لذَّة العقل والذوق والقلب والأذن واللسان جميعًا.
وقد قلتُ إن هذا الفن جديدٌ قديمٌ، ولا بد من أن أفسِّر هذه العبارة التي تظهر متناقضة، وهي على ذلك صادقة كل الصدق، ملائِمَة كل الملائَمَة لحقائق التاريخ الأدبي العام من جهة، ولحقائق التاريخ الأدبي العربي من جهة أخرى. وأول حقيقة يجب تقريرها هي أن هذا الفن كغيره من فنون القول قد نشأ منظومًا لا منثورًا؛ فهو منذ نشأته الأولى في الأدب اليوناني مذهب من مذاهب الشعر ولون من ألوانه، نشأ يسيرًا ضئيلًا، ثم أخذ أمره يعظم شيئًا فشيئًا، حتى سيطر أو كاد يسيطر على الأدب اليوناني في الإسكندرية وغيرها من الحواضر اليونانية، في العصر الذي تلا فتوح الإسكندر. وقد نشأ كذلك في الأدب اللاتيني ضئيلًا يسيرًا، حتى إذا اتصل الأدباء اللاتينيون بالأدب اليوناني عامةً والأدب الإسكندري خاصةً؛ ترجموا ثم قلَّدُوا ثم برعوا، حتى أصبح هذا الفن من فنون الشعر اللاتيني ممتازًا أشد الامتياز وأعظمه في القرنين الأول والثاني للمسيح، أيْ في العصر المجيد من عصور الإمبراطورية الرومانية.
أما في أدبنا العربي فقد تأخَّرت نشأته شيئًا ما؛ فلم يَكَدْ يعرفه الأدب الجاهلي، أو نحن لا نعرف من الأدب الجاهلي ما يمكنَّا من أن نقطع بأن الشعراء الجاهليين قد حاولوا أو قصدوا إليه. ولم يعرفه الأدب الإسلامي،١ وأكبر الظن أن الشعراء الإسلاميين لم يعرفوه؛ لأنهم لم يرثوه عن الفحول الجاهليين، ولأنهم لم يشهدوا حياةً متحضِّرَةً مترفةً كالتي عرفها شعراء الإسكندرية وشعراء روما، وإنما عرفوا حياةً قد اتصلت بالحضارة ولكنها لم تبرأ من البداوة، وقد حفظت تراثًا قديمًا ضخمًا ومذهبًا في الشعر مألوفًا، أخصُّ ما يمتاز به طول النفس؛ حتى يؤدي الشاعر ما يحتاج إلى تأديته في أناة ومهل، لا تمتاز بالقِصَر ولا بالاختصار.
فلما كان العصر الثاني من عصور الحضارة الإسلامية، أزهر في العراق هذا الأدب العباسي الجديد، وظهر هذا الفن في الأدب العربي قويًّا خصبًا مختلفًا ألوانه في البصرة والكوفة وبغداد، ولكن حياته لم تَطُلْ، وإنما اقتضت ظروف السياسة والأدب أن يعدل الشعراء الفحول عنه عدولًا يوشك أن يكون تامًّا، وأن يستخفي به بعض الشعراء وبعض الكتَّاب، بل بعض الذين لا تُعرَف لهم سابقة في الشعر ولا في النثر، لأسباب قد أبيِّنها في غير هذا الحديث.
ثم كانت عصور الضعف الأدبي، فذهب هذا الفن من فنون القول فيما ذهب، واستُؤنِفت في عصرنا الحديث حياة أدبية تقليدية عُنِي فيها أدباؤنا بعمود الشعر، ولم يخالفوا عن سنة الفحول من الجاهليين والإسلاميين والمُحْدَثين، فلم يحفلوا بهذا الفن الذي لم يزدهر في تاريخ الشعر العربي إلا وقتًا قصيرًا، وقد نُقِلت الآداب اليونانية واللاتينية إلى اللغات الأوروبية في العصر الحديث، فقلَّد الشعراء الأوروبيون في هذا الفن كما قلَّدوا في غيره من الفنون، ثم ابتكروا فيه كما ابتكروا في غيره من الفنون، حتى أغنوا آدابهم منه بألوان رائعة، ولكن النهضة الشعرية التي دُفِع الأوروبيون إليها منذ أواخر القرن الثامن عشر، صرَفَتْهم عنه إلى مذاهب أخرى من الشعر صرفًا يوشك أن يكون تامًّا.
فأنت ترى من هذه الخلاصة القصيرة القاصرة أننا بإزاء فن من فنون الشعر عرفته الآداب الكبرى القديمة والحديثة، وسبق إليه اليونان كما سبقوا إلى غيره من فنون الشعر والنثر. فإذا كان في هذا اللون الذي يُعرَض عليك في هذا الكتاب من ألوان الكلام شيء جديد، فهو أنه يُعرَض عليك نثرًا لا شعرًا؛ لأن الذي يقدِّم إليك هذا الكتاب لم يُتَحْ له قرض الشعر من ناحية، ولأنه كغيره من الكتَّاب القدماء في الأدب العربي لا يكره أن يُزاحِم الشعراء على فنون الشعر، وأن يوسِّع ميدان النثر على حسابهم بين حين وحين. وقديمًا طرق الكتَّاب في البصرة وبغداد وغيرهما من الحواضر الإسلامية فنونًا كان الشعراء يحتكرونها لأنفسهم، فلم يمنعهم ذلك من أن يجيدوا التقليد، ثم لم يمنعهم ذلك من أن يجيدوا الابتكار، ثم لم يمنعهم ذلك من أن يكونوا أئمة يذهب الشعراء في الشعر مذهبهم في النثر، وما أظن أن حلَّ المنظوم ونظم المنثور يدلان على شيء غير هذا الذي أشرتُ إليه.
ولكن من حقِّكَ أن تسألني عن هذا الفن الغريب الذي أطَلْتُ القولَ في تاريخه دون أن أبيِّن لكَ حقيقته، وأعرض عليك خصائصه، وأفرِّق لك بينه وبين غيره من فنون الشعر، وليس المهم هو أني أحسنتُ ابتغاء الوسيلة إلى نفسك أو لم أحسنه، حين بدأتُ بهذا الكلام الكثير عن فنٍّ لم أبيِّن لك عن حقيقته ولا عن خصائصه، وإنما المهم هو أن أكشف لك عن هذه الحقيقة، وأعرض عليك هذه الخصائص؛ لنستطيع أن نمضي معًا على شيء من البصيرة والثقة فيما نستأنف من القول.
ويجب أن أعترف بأني لا أعرف لهذا الفن من الشعر في لغتنا العربية اسمًا واضحًا متَّفَقًا عليه، وإنما أعرف له اسمه الأوروبي؛ فقد سمَّاه اليونانيون واللاتينيون «إبيجراما» أيْ نقشًا، واشتقوا هذا الاسم اشتقاقًا يسيرًا قريبًا من أن هذا الفن قد نشأ منقوشًا على الأحجار، فقد كان القدماء ينقشون على قبور الموتى، وفي معابد الآلهة، وعلى التماثيل والآنية والأداة؛ البيتَ أو الأبيات من الشعر، يؤدون فيها غرضًا قريبًا أول الأمر، ثم أخذ هذا الفن يعظم ويتعقد أمره، حتى نأى عن الأحجار، واستطاع أن يعيش في الذاكرة وعلى أطراف الألسنة، ثم استطاع أن يعيش على أسلات الأقلام وفي بطون الكتب والدواوين. وقد أطلق اليونانيون واللاتينيون كلمة «إبيجراما» أول الأمر على هذا الشعر القصير الذي كان يُنقَش على الأحجار، ثم على كل شعر قصير، ثم على الشعر القصير الذي كانت تُصوَّر فيه عاطفة من عواطف الحب أو نزعة من نزعات المدح، أو نزغة من نزغات الهجاء، ثم غلب الهجاء على هذا الفن، ولا سيما عند الإسكندريين وشعراء روما، وإن لم يخلص من الغزل والمدح. فلما كان العصر الحديث لم يكن الشعراء الأوروبيون يُطلِقون هذا الاسم إلا على الشعر القصير الذي يُقصَد به إلى النقد والهجاء.
أما أدبنا العربي فإنه لم يحفل بأن يلتمس لهذا الفن اسمًا خاصًّا، وإنما هو يُقسِّم الشعر من حيث الطول والقِصَر إلى القصيدة والمقطوعة، وهو يُطلِق اسم القصيدة على الشعر الذي تتجاوز أبياته السبعة عند بعض النقاد والعشرة عند بعضهم الآخَر، ويُطلِق اسم المقطوعة على الأبيات التي لا تتجاوز السبعة أو العشرة، ومثل هذا يقال في الرجز؛ فالأرجوزة هي التي تزيد على سبعة أبيات أو عشرة أبيات، والمقطوعة هي التي لا تزيد على هذا العدد أو ذاك. وواضح أن كلمة المقطوعة يمكن أن تدل على كل مذهب شعر لم يزد على هذا العدد أو ذاك مهما يكن موضوعه، ومهما يكن مذهب الشاعر فيه؛ فهي لا تدل على هذا المعنى المحدود كما تدل كلمة «إبيجراما» عليه عند اليونانيين واللاتينيين والفرنج، ولكن هذا لا يمنع أن هذا الفن قد وُجِد في أدبنا العربي وجودًا قويًّا بعيد الأثر عظيم الخطر، على النحو الذي وُجِد عليه في الإسكندرية وروما وفي الحواضر الأوروبية في العصر الحديث.
وأول ما يمتاز به هذا الفن أنه شعر قصير، فإذا طال فهو قصيدة في الغزل وفي المدح أو الهجاء؛ فالقِصَر إذن خصلة مقوِّمة لهذا الفن. ثم يمتاز بعد هذا القِصَر بالتأنُّق الشديد في اختيار ألفاظه، بحيث ترتفع عن الألفاظ المبتذلة دون أن تبلغ رصانة اللفظ الذي يقصد إليه الشعراء الفحول في القصائد الكبرى، وإنما هو شيء بين ذلك، لا يبتذل حتى يفهمه الناس جميعًا فتزهد فيه الخاصة، ولا يرتفع حتى لا يفهمه إلا المثقَّفون الممتازون والذين يألفون لغة الفحول من الشعراء.
ومصدر ذلك أن هذا الفن إنما ازدهر وعظم خطره في عصور الحضارة المترفة التي تدعو إلى التأنُّق وتدفع إلى التكلُّف، وتباعد بين الناس وبين عصور البداوة وآدابها الجزلة التي تبهر وتروع، ولكن ذوقها يختص به المثقفون الممتازون دون هذه العامة التي تحيا حياة مبتذلة وتصوِّرها تصويرًا مبتذلًا. والواقع أن الشعراء الذين عنوا بهذا الفن عناية خاصة، فوضعوا له أصوله وقوانينه، قد كانوا من شعراء القصور في الإسكندرية وروما وفي كثير من الحواضر الأوروبية، وقد كانوا من الشعراء المتصلين بالقصور اتصالًا قويًّا أو ضعيفًا في العصر العباسي الأول. فالشاعر اليوناني المبرز في هذا الفن «كليماك» قد كان شاعر القصر في الإسكندرية أيام بطليموس الثاني، والشاعر اللاتيني المبرَّز في هذا الفن «مارسيال» قد كان شاعر القصر في روما أيام الإمبراطور «دوميسيانوس»، والشعراء العرب الذين عنوا بهذا الفن في البصرة والكوفة وبغداد قد كانوا يتصلون بقصور الخلفاء والأمراء والوزراء في هذه الحواضر الثلاث من عواصم الإسلام؛ فليس غريبًا أن يتأثر هؤلاء الشعراء بهذه الحياة الناعمة المترفة التي تكون في القصور، وليس غريبًا أن يلائموا بين ما يختارون لمعانيهم من الألفاظ وبين ما في هذه الحياة المترفة من التأنق والتكلف والامتياز. وليس معنى هذا أن الألفاظ التي تُختار لهذا الشعر يجب أن يبعد بها التأنق كل البُعْد عن الابتذال، أو ينأى بها كل النأي عن جزالة الفحول، وإنما معناه أن الشاعر يجب ألا يلجأ إلى الألفاظ المبتذلة المسرفة في الابتذال، أو الرصينة المغرقة في الرصانة، إلا حين يدعوه الفن إلى ذلك ويضطره إليه اضطرارًا.
ثم يمتاز هذا الفن بعد هاتين الخصلتين، أو قُلْ إنْ شئتَ قبل هاتين الخصلتين، بخصلة ثالثة تتصل بالمعنى، وهي أن يكون هذا المعنى أثرًا من آثار العقل والإرادة والقلب جميعًا، فليس هو شعرًا عاطفيًّا يصدر عن القلب أو يفيض به الطبع، وليس هو شعرًا يصنعه العقل وحده، وإنما هو مزاج من ذلك يسيطر الذوق عليه قبل كل شيء. أثر العقل فيه أنه نقد لاذع، أو هجاء مُمِضٌّ، أو تصوير دقيق لشيء يُكرَهُ أو يُحَبُّ؛ وهذا كله يحتاج إلى بحث وتفكُّر وإلى روية وتأمُّل، ولا يأتي مستجيبًا لعاطفة من العواطف أو هوى من الأهواء. وأثر الإرادة فيه أنه لا يأتي عفو الخاطر ولا فيض القريحة، وإنما يقصد الشاعر إلى عمله وإنشائه، ويستعِدُّ لتجويده والتأنُّق فيه. وأثر القلب فيه أنه يفيض عليه شيئًا من حرارته وحياته، ويُجرِي فيه روحًا من قوَّته التي يجدها عندما يُقبِل على الخير أو عندما ينفر من الشر، عندما يرضى، وعندما يسخط؛ فالمعنى في هذا الشعر يجب أن يكون قويًّا حتى حين يظهر فيه الابتذال، وكل هذا لا يأتي إلا إذا صَحَّ التعاون بين القلب والإرادة والعقل والذوق على هذا الإنشاء.
ثم يمتاز هذا الفن بخصلة أخرى لا أدري كيف أصوِّرها، ولكن سأحاول ذلك كما أستطيع، وهي أن تكون المقطوعة منه أشبه شيء بالنصل المرهَف الرقيق ذي الطرف الضئيل الحادِّ، قد رُكِّب في سهم رشيق خفيف لا يكاد ينزع عن القوس حتى يبلغ الرَّمْيةَ، ثم ينفذ منها في خفة وسرعة ورشاقة لا تكاد تُحَسُّ. ومن هنا امتاز هذا الفن بالبيت الأخير أو البيتين الأخيرين من المقطوعة؛ فهما يقومان منها مقام الطرف الضئيل النحيل الرقيق الرشيق من نصل السهم، فإذا كانت المقطوعة بطيئة الحركة ثقيلة الوزن، فليست من هذا الفن في شيء. وإذا أردت أن تلتمس لهذا الفن صورًا شعرية تحقِّق هذه الخصال كلها في أدبنا العربي فاعمد إلى شعر بشار وحماد ومطيع وأصحابهم في البصرة والكوفة وبغداد؛ فستجد من ذلك أكثر مما تريد وأكثر مما تحب.
وهنا أصل إلى الخصلة الأخيرة التي شاعت في هذا الفن عند القدماء من اليونانيين واللاتينيين والعرب، وإن لم تكن شاملة ولم تبلغ أن تصير قانونًا من قوانين الفن، وهي هذه الحرية المطلَقة التي يتجاوز بها أصحابها حدودَ المألوفِ من السُّنَن والعادات والتقاليد، والتي تدفع أصحابها إلى الإفحاش في اللفظ، وإلى الإفحاش في المعنى، وإلى التحرر مما يفرضه الذوق النقي على الرجل الكريم حين يتحدث إلى الناس أو حين يتحدث عن الناس. وأنت واجد من هذا شيئًا كثيرًا عند بشار وأصحابه في البصرة والكوفة وبغداد، كما أنك واجد منه شيئًا كثيرًا عند «كليماك» و«مارسيال» وأصحابهما من شعراء الإسكندرية وروما، ولعلك تجد شيئًا من هذا عند بعض الشعراء المُحْدَثين قبل الثورة الفرنسية في إيطاليا وفرنسا، ولكنه قليل بالقياس إلى ما تجده عند القدماء.
من هذا كله تتبيَّن حقيقة هذا الفن وخصائصه، وتتبيَّن بنوع خاص أنه لون من ألوان الشعر الهجائي، يُقصَد به إلى القِصَر والخفة والحدَّة ليكون سريع الانتقال، يسير الحفظ، كثير الدوران على ألسنة الناس، يسير الاستجابة إذا دعاه المتحدث في بعض الحديث، أو الكاتب في بعض ما يكتب، أو المُحَاضِر في بعض ما يُحاضِر، ثم ليكون مضحكًا للسامعين والقارئين بما فيه من عناصر الخفة والحدة والمفاجأة، ثم ليكون بالغ الأثر آخِر الأمر في نفوس الأفراد والجماعات، يدفعهم إلى ما يريد أن يدفعهم إليه من الخير، ويردهم عمَّا يريد أن يردهم عنه من الشر، في غير مشقة ظاهرة أو جهد عنيف.
وليس من شك في أنك قد ارتعت حين بلغت هذا الموضع من هذا الحديث؛ قد ارتعت من جهة، وثار في نفسك حب الاستطلاع من جهة أخرى، فأنا أصوِّر لك فنًّا من فنون النقد اللاذع والهجاء المُمِضِّ، الذي هو أشبه بالسهام التي لا تُنزَع عن القوس إلا أصْمَتْ وأَرْدَتْ مَن تصيب. وأنا أصوِّر لك فنًّا من فنون الهجاء لا يتورَّع أصحابه عن فاحش اللفظ وقبيح المعنى وسيئ الرأي في الحياة والأحياء، وأنا أقدِّم لك هذا التصوير بين يدي كلامٍ أزعم أن بينه وبين هذا الفن صلة؛ فأنت مشفق مرتاع، تسأل نفسك إِلَامَ أريد بهذا الكتاب؟ وما هذه السِّهَام الرقيقة الرشيقة الموسومة المسمومة التي أرسلها؟ وإلى مَن أريد أن أرسلها؟ كل هذه الأسئلة تخطر لك؛ فتثير في نفسك روعًا وإشفاقًا، وتثير في نفسك شوقًا إلى المعرفة وكَلَفًا بالاستطلاع. فلا تشفق ولا ترتع، ولا تُمَنِّ نفسك الأمانيَّ، ولا تخدعها بالغرور؛ فليس في هذا الكتاب هجاء، وقد انقضى عصر الهجاء منذ زمن طويل، وليس في هذا الكتاب سهام موسومة أو مسمومة، فقد انقضى عصر التراشُقِ بالسِّهَام منذ عهد بعيد، ولستُ أريد بهذا الكتاب إلى أحد؛ فإني لا أعرف من أمر الذين ألفتهم من قريبٍ أو من بعيدٍ إلا خيرًا.
ولستُ أريد بهذا الكتاب إلى شيء إلا النقد الذي يسمونه بريئًا في هذه الأيام، والنقد الذي يُوجَّه إلى ألوان من الحياة لا إلى أفراد بأعينهم من الناس. ومن المحقَّق أني لم أخترع هذا الكلام من لا شيء، ولم أشتقَّ هذه الصور من الهواء، ولم ألتمسها في الصين ولا في اليابان ولا في بلاد الهند والسند، وإنما أنا أعيش في مصر، وأشارك المصريين في الحياة التي يحيونها، وآخِذ بحظِّي مما في هذه الحياة مما يُرضِي وما يُسْخِط، وأنا بعد ذلك أعرف أقطارًا من الأرض سافرت إليها وأقمت فيها، أو قرأت عنها في الكتب والأسفار، وأنا بعد هذا وذاك أعرف أجيالًا من الناس عشتُ بينهم، أو قرأت أخبارهم وعرفت آثارهم فيما استطعت أن أظهر عليه من آثار الناس في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب. ولستُ أزعم كما زعم أبو العلاء أني أعرف الناس جميعًا، وأني قد تلوت أجيال الناس جميعًا؛ فقد كان أبو العلاء غاليًا حين قال:
مَا مَرَّ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بَنُو زَمَنٍ إِلَّا وَعِنْدِي مِنْ أَنْبَائِهِمْ طَرَفُ
وأنا واثق كل الثقة بأن كثيرًا من أبناء الزمان قد مروا في هذه الدنيا وليس عندي من أنبائهم طرف طويل أو قصير، ولكني واثق بأني عرفت الناس، وبلوت أخبارهم وآثارهم إلى حدٍّ ما، وتأثَّرت بما بلوت من ذلك؛ فسخطت حينًا ورضيت أحيانًا، وأظهرت ما وجدت من السخط والرضا في صراحة واضحة تُغنِيني عن التلميح الغامض.
ثم أنا أثق بعد هذا بأن ما يُقال في نقد الناس وحمدهم إنما هو أشبه بالمرايا، يرى الناس فيها أنفسهم؛ لأننا لا ننقد عفاريت الجن، ولا نحمد الملائكة الأبرار، وإنما ننقد ونحمد ما نرى وما نعلم من أعمال الناس وآثارهم.
فأنا صادق حين أقول إنك لن تجد في هذا الكتاب هجاءً لاذعًا، ولا نقدًا مُمِضًّا، وأنا صادق حين أقول إنك ستجد في هذا الكتاب مرايا يمكن أن ترى الناسُ فيها أنفسَهم، وليس عليهم ولا عليَّ من ذلك بأس؛ فما أكثر ما نرى أنفسنا في كثير ممَّا نقرأ من آداب القدماء والمحدثين، مهما تكن اللغات والعصور والظروف والبيئات التي تنشأ فيها هذه الآداب.
وأنت بعد هذا كله مضطر إلى أن تخفِّف من شوقِكَ إلى المعرفة وكَلَفِكَ بالاستطلاع؛ فإني لا أريد أن أعلِّمك شيئًا، ولن تتعلم من هذا الكتاب شيئًا، وإنما هو كلام ستقرؤه؛ فترضى عنه أو تسخط عليه من الناحية الفنية الخالصة لا أكثر ولا أقل.
وواضح أني لم أذهب مذهب القدماء في الاندفاع مع الحرية الجامحة؛ فالأدب العربي الحديث أكرم عليَّ وآثَر عندي، وأنت وأنا أكرم على نفسي من أن أذهب هذا المذهب الذي قد مضى مع أصحابه القدماء.
وإذا أردتَ أن تعرف الحق الصريح من أمر هذا الكتاب، فإني مُنْبِئك به في سذاجة يسيرة لا تكلفك مشقة ولا جهدًا؛ لأني أنا لم أتكلَّف في هذا الكلام مشقة ولا جهدًا، فأنا رجل أحب القراءة، وأحب القراءة المختلفة المتنوعة؛ أقرأ في الأدب العربي القديم والحديث، وأقرأ في الآداب الأوروبية القديمة والحديثة، وأجد في هذه القراءة متعة تُكسِب الحياةَ قيمةً خاصة. ولكن قد أقف عند هذا الفن أو ذاك من فنون الأدب وقفةً خاصةً، فأسأل نفسي: أَيوجد هذا الفن في اللغة العربية أم لا يوجد؟ أو أسأل نفسي: أتستجيب اللغة العربية لهذا الفن إنْ دُعِيتْ إليه أم لا تستجيب؟ ثم أسأل نفسي: أقادرٌ أنا على أن أُلَائِم بين هذا الفن وبين اللغة العربية أم غير قادر؟ ولا أكاد ألقي على نفسي هذا السؤال الأخير حتى أطلب إلى صاحبي أن يأخذ القلم والقرطاس، ثم آخُذ في الإملاء ويأخذ هو في الكتابة، فأما إنْ أحسستُ شيئًا من التوفيق إلى ما أردتُ؛ فأنا ماضٍ في المحاولة حتى أنتهي بها إلى بعض غايتها، ثم أذيع ذلك في الناس ليقرءوا وليرضوا وليسخطوا، وليقلِّد منهم المقلِّدُ، وليعرض منهم المُعرِض. وأما إنْ أحسستُ عجزًا عن هذه الملاءَمَة؛ فأنا أجدِّد المحاولة مرة ومرة، حتى إذا استيأستُ أعرضتُ عن الإملاء، وأعرض صاحبي عن القلم والقرطاس. والذين يقرءون ما أذعتُ في الناس من الكتب منذ أكثر من ربع قرن يستطيعون أن يَرَوا ذلك في كثيرٍ مما أذعتُ فيهم، وأن يتبينوا في وضوح وجلاء أني أستجيب حين أكتب — وحين أكتب في الأدب خاصةً — لشيئين اثنين: أحدهما ما أرى من رأي أو أجد من عاطفة وشعور، والآخَر امتحان قدرة اللغة العربية على أن تقبل فنونًا من الأدب لم يطرقها القدماء، وامتحان قدرتي أنا على أن أكون الصلة بين اللغة العربية وبين هذه الفنون والآداب. وقد قرأتُ فيما قرأتُ كثيرًا من شعر القدماء والمحدثين في اللغة العربية وفي غيرها من اللغات التي أستطيع أن أفهمها، وأعجبني هذا الفن من فنون النقد والهجاء، ورأيت أن العرب قد أخذوا بحظٍّ منه في القرن الثاني فأجادوا، ولكنهم لم يكادوا يتجاوزون هجاء الأشخاص، وهذا العبث الذي كان القدماء يألفونه ويتهالكون عليه، ثم رأيت أن هذا الفن قد ذَوَى زهرُه وغاضَ ماؤه حين انقضى العصر العباسي الأول، وأن الشعراء الفحول قد عادوا إلى الهجاء الطويل، واستأنفوا مذهب القدماء من أعلام الجاهلية والإسلام.
ولم أكن صاحب شعر ولا قدرة على النظم؛ فلم أحاول إذن أنْ أردَّ لهذا الفن حياته كما ألفها أيام بشَّار وأصحابه، ولكن ما يمنعني أن أذهب في هذا الفن مذهب القدماء على أن أتَّخِذَ النثرَ أداةً مكان الشعر؟!
فَلْنجرِّبْ إذن، وَلْنمتحِنْ أنفسنا، وَلْنمتحِنْ لغتنا، وَلْنمتحِنْ ذوقَ القرَّاء، وقد جرَّبتُ وأذعْتُ مقطوعاتٍ قليلةً لا تبلغ الست أو السبع في الأهرام؛ فرضي الناس وسخطوا، وأثنَوا وعابوا. ولست أريد من الإنتاج الأدبي إلى أن أذوق الرضا والسخط جميعًا؛ وإذن فَلْنَمْضِ في التجربة، وقد مضيت، وهأنذا أقدِّم إليك مائةً ونصفَ مائةٍ من هذه المقطوعات، فَاقْرَأْ إنْ شئتَ، وارْضَ إنْ أثارَتْ القراءةُ في نفسك الرضا، وَاسْخَطْ إنْ أثارتْ القراءةُ في نفسك السخط، وأنا أعفيك من الثناء والتقريظ مخلصًا، وأبيح لك النقد والعيب مخلصًا أيضًا، وأتمنى أن يتاح للشباب من القرَّاء أن يحاولوا من ذلك مثل ما حاولتُ، ويبلغوا من ذلك أكثر مما بلغتُ؛ فالله يشهد ما كتبتُ ولا خطبتُ ولا حاضرتُ إلا وفي نفسي أمنية هي أن أدفع الشباب إلى أن يعلموا ويعملوا وينتجوا، ويتاح لهم أكثر مما أُتِيح لي من النجاح والتوفيق.