"هو الأب الروحى للموسيقى الشرقية الحديثة، وبفقدانه افتقدنا طعمًا موسيقيًا اعتدنا عليه وترسخ فى وجدان كل الشعوب العربية لسنين طوال، لأنه هو الذى اخترع شكلًا جديدًا لموسيقى التترات وسار على دربه الكثير من الملحنين".
بتلك الكلمات التى اقتبستها من كلام النجم على الحجار أبدأ الكتابة عن الموسيقار العظيم عمار الشريعى ابن مدينة سمالوط فى المنيا، والذى اشتهر بـ«غواص فى بحر النغم» فهو أحد الموسيقيين الذين يخلقون حالة شجن مميزة للأعمال التى يقدمونها ورغم أن الشجن يغلب على أعمال الشريعى إلا أنه يضفى البهجة على كل من يتعامل معهم بوجهه البشوش الدائم الابتسام ولسانه الذى لا يتوقف أبدا عن إطلاق النكات وخلق حالة من الأمل والتفاؤل فى كل مكان يذهب إليه.
تميز الشريعى بشكل استثنائى فى وضع الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية والإذاعية والمسرحيات، والتى نال العديد منها على جوائز عربية وعالمية.
وللتعمق فى حياة الموسيقار الكبير، دعونا نلقى نظرة على ما قدمه الكاتب الصحفى الأستاذ سعيد الشحات من خلال كتابه «عمار الشريعى.. سيرة ملهمة».
يقول سعيد الشحات فى كتابه الصادر حديثا عن دار ريشة، عند حديثه عن بدايات روائع الموسيقار عمار الشريعى فى الأعمال الدرامية، وتألقه فى مسلسل الأيام، عن سيرة عميد الأدب العربى طه حسين، من كلمات سيد حجاب، وإخراج يحيى العلمى:
عمار الشريعى كان «الكفيف» المنوط به أن يحول سيرة «الكفيف» الذى سبقه إلى موسيقى تليق بمقامه، موسيقى تسكن القلب ولا تغادره، ولأجل ذلك حشد ذكرياته مع كتاب «الأيام» أيام دراسته ثم أعاد قراءته حين بدأ العمل فى المسلسل، حسبما يذكر فى البرنامج الإذاعى الرائد «زيارة لمكتبة فلان»، تقديم «نادية صالح».
ويؤكد الشريعى أن كتاب «الأيام» هو أكثر كتاب أثر فيه، ويضيف: «ابتدأت أقرأه وأنا عندى ثمانى أو تسع سنوات، أنا وكل زملائى فى المدرسة، كان دايما هناك مقارنات بيننا وبين طه حسين باعتبار أننا فى ظرف مشترك واجتاز هو الصعاب».
ويستطرد الشريعى: «شدنى الفصل الأول اللى فيه العفاريت، لكن الباقى لم أفهمه إلا بعد ذلك لما كبرت، قرأته حوالى سبع مرات منها مرة أثناء عملى للموسيقى التصويرية والغناء فى المسلسل، والحقيقة كانت أسوأهم، لأنى لم أكن أقرأ للمتعة وإنما للمسؤولية، والأيام فيها تجارب مشتركة كثيرة، مثلا لو تتبعنا وهو صغير كان بيغطى وجهه وهو نايم لأنه خايف من العفاريت تمسه، أنا شخصيا كنت أفعل ذلك، وحب الاستماع إلى شىء ما كالموسيقى، هو يسمع الربابة وأنا الراديو، أنه يُسب بأنه ما بيشوفش فيقابل ذلك بنوع من الحزم، وكمان خياله فى أول بنت حبها بنت مفتش الصحة، تصوراته عنها تكاد تكون تصوراتى عن أول بنت حبتها، هى لعبة الصوت عندنا (المكفوفين) ودوره فى تكوين الصورة».
وعما إذا كان اختياره لمسلسل «الأيام» جاء بسبب أنه كفيف، أجاب: «أنا سألت يحيى العلمى قبل ما نسجل: هل تم اختيارى عشان أنا كفيف؟، أجاب: «والله ما خطر فى بالى، لكن انت خلتنى أفتَح على موضوع مش واخد بالى منه»، ويؤكد: «عمرى ما فكرت إن شغلى فى العمل ده يفشل، لو حصل كنت حبطل موسيقى».
وينيرنا حلمى بكر بإضاءة لافتة، قائلا فى برنامج «عمار الشريعى، نغم فى وجدان وطن»: «عمار فى الأيام كأنه طه حسين، بيشتغل له إحساس من هنا (مشيرا إلى قلبه) وظروفه من هنا (مشيرا إلى عينيه)».
وبعد نجاح «الأيام» و«أبنائى الأعزاء شكرا» يقدم عمار الموسيقى التصويرية للعديد من الأعمال الدرامية التليفزيونية، وفى عام 1982 كان المشاهد على موعد مع مسلسل «وقال البحر» لأسامة أنور عكاشة الذى اقتبسه من رواية «اللؤلؤة» للكاتب الأمريكى «جون شتاينبك»، وأخرجه، محمد فاضل، ولعب بطولته، عزت العلايلى وفردوس عبدالحميد، وغناء على الحجار، بكلمات سيد حجاب.
وبعد التعاون الخلاق بين عمار الشريعى وسيد حجاب، بدأ التعاون بين عمار والشاعر عبد الرحمن الأبنودى، وكان افتتاحه بمسلسل «النديم» الذى يعد من روائع التليفزيون المصرى وأذاعه عام 1982، ولعب بطولته، عزت العلايلى وعفاف شعيب ومحمود المليجى، وإخراج ، علوية زكى، وقدم على الحجار أغنياته، وإذا كانت ثنائية «عمار وحجاب»، شهدت صعودا واستقرارا منذ بدايتها، فإن ثنائية «عمار والأبنودى» شهدت دفعة قوية فى بدايتها، ثم حدثت القطيعة بينهما أعواما طويلة، فالعودة من جديد، فماذا عن تعاونهما فى النديم؟، وكيف عادا لبعضهما بعد الخصام؟
بعد مسلسل «النديم»، تكرر التعاون بينهما فى فيلم «البرئ»، والجزء الأول من «أبو العلا البشرى»، لكن المسيرة انقطعت بينهما لسنوات طويلة، ثم عاد التعاون وقدما معا ثلاثة مسلسلات، «الرحايا» للكاتب عبدالرحيم كمال عام 2009، ثم «شيخ العرب همام» عام 2010، وأخيرا «وادى الملوك» فى 2011 عن رواية «يوم غائم فى البر الغربى» للكاتب محمد المنسى قنديل، وكتب الأبنودى حوار هذا المسلسل إلى جانب أشعاره، وغنى على الحجار أغانى الأعمال الثلاثة.
ومن بين كل الأعمال الدرامية التى قدم موسيقاها عمار الشريعى، يبقى لمسلسل «بوابة الحلوانى»، تأليف محفوظ عبدالرحمن مكانة خاصة فى موسيقى الدراما المصرية، لأنه العمل الذى جمع عمار وبليغ حمدى ومعهما على الحجار بطل المسلسل تمثيلا وغناء والمتأثر بالاثنين، فبليغ مكتشفه وأستاذه الثانى بعد والده، وعمار أستاذه وصديقه الذى أعاد اكتشافه بوضع قدميه وتثبيتهما فى طريق الدراما الغنائية.
قدم التليفزيون المصرى «بوابة الحلوانى» فى أربعة أجزاء، أولها فى عام 1992 بموسيقى بليغ وتلحينه للتتر ثم توفى، واستكمل عمار الأجزاء الثلاثة تلحينا وتوزيعا فى أعوام 1994 و1997 و2001، ومن هنا كان الجمع بين بليغ وعمار، صحيح أن قدر موت بليغ كان السبب لكن يبقى تاريخيا أنه العمل الذى يحفظ فى أرشيفه الجمع بين الاثنين.
ومن ضمن المسلسلات التليفزيونية التى قدمها عمار وبالإضافة إلى الأعمال التى سبق الحديث عنها، هناك أعمال باقية فى الوجدان، مثل «أديب»، «زينب والعرش»، «دموع فى عيون وقحة»، «الشهد والدموع»، «ليلة القبض على فاطمة»، «الزينى بركات»، «دموع صاحبة الجلالة»، «وأدرك شهريار الصباح»، «أخو البنات»، «أبو العلا البشرى»، «رأفت الهجان»، «هو وهى» بالمشاركة مع كمال الطويل، «نصف ربيع الآخر»، «الراية البيضا»، «أرابيسك»، «هارون الرشيد»، «أم كلثوم»،»الرحايا»،»حدائق الشيطان»، «حديث الصباح والمساء»، «امرأة من زمن الحب»، «أوبرا عايدة»، «المصراوية»،»شيخ العرب همام»، «وادى الملوك»، وغيرها بمجموع يصل إلى 150 مسلسلا دراميا، و50 فيلما سينمائيا طبقا لتقديرات شائعة، بخلاف المسرح، والمسلسلات الإذاعية.