- التدخلات اللاحقة على الأوراق شكلية فى أغلبها ولا تقترب من عالم النص وأسلوبه.. وتجربة وحيدة تتضمن اشتغالا عميقا على البناء السردى واللغوى للعمل
تمثل المسودة بالنسبة لأى أديب، المساحة التى تسمح له بالخطأ، إنها أفكاره الأولى، دهشته الأولى، ونصوصه غير المكتملة، وبالتالى غالبا ما يتخلص الكاتب من مسوّداته، لأنها قد تختلف تماما بعد الصياغة والتطوير، وقد تحتوى على أخطاء فى الصرف والنحو والصياغة، وهذا ما يفسّر ذهاب كثير من إرث الأدباء من المسوّدات إلى سلّة المهملات، وهو ما عبر عنه الأديب الكبير بهاء طاهر الذى قال فى حديث سابق له، إنه يدخل فى صراع مع مسوّداته، ويعترف «مسوّدات كتاباتى كثيرة جدّا، وأنا لا أتعاطف معها كثيرا»، لكن ما الحال مع الأديب الكبير نجيب محفوظ؟
فى حالة الأديب العالمى نجيب محفوظ - العربى الوحيد الحاصل على جائزة نوبل فى الآداب - نجد أنه مثل غيره من الأدباء، لم يكن يحتفظ بمسوداته، وهو ما أكده «محفوظ» نفسه فى حوار أجراه مع صحيفة «the paris review»، قال فيه «إن المسودة قد تكون بابا للاطلاع على أسلوب الكاتب، لكنه لا يملك ثقافة الاحتفاظ بها كما يفعل آخرون، فالمسودةُ أحدُ عناصر الكتابة التى قد تعكس أسلوب الكاتب وملامح شغلِه، كذلك المفكرة، مرحلةٌ مرّ بها أغلبُ الأدباء، لكن متغيراتِ العصر ومحصلاتِ التطور جعلت هيئتها وطريقة التعامل معها تتبدل هى الأخرى»، وذلك ما يتفق معه الكاتب الصحفى محمد شعير، بأن «محفوظ» لم يحتفظ بمسوداته، فعلاقته بالمسودة لم تتجاوز كونها معركة مع اللغة فالفرق بين الكتابة الأولى والأخيرة لا تكمن فى البناء والأحداث، فهى مكتملة فى ذهنه تماما منذ البداية، والتحديث يشمل اللغة، يُجرى بعض الصنفرة، يخلّصها من حمولاتها الزائدة، ويمارس رقابته الذاتية عليها»، موضحا أن «الصدفة أنقذت مؤلفاتٍ مثل «ميرامار»، «الشحاذ»، «قشتمر»، عندما انتشلت زوجة نجيب محفوظ مسوداتِها من سلة المهملات لترى النور فيما بعد».
طقوس خاصة
عُرف نجيب محفوظ ببعض الطقوس الخاصة عند الشروع فى كتابة أى من أعماله، فبجانب القهوة وسماع أم كلثوم، اعتاد محفوظ أن يكتب مسودة الرواية على ورق «فلوسكاب» بقلم رصاص، وكان عندما يأتيه «الوحى» كما وصفه فى حديثه مع الكاتب الكبير رجاء النقاش فى كتابه «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»، يكتب سريعا حتى لا تتداخل الأفكار فى عقله، يكتبها دون تنقيح أو تفكير، فقط يدون كل ما يأتى فى خاطره على الورق، وبعد أن ينتهى منها يُعيد كتابتها مرة أخرى على ورق أبيض بقلم حِبر.
وكان من ضمن طقوس محفوظ أنه لم يكن ينشر أى نص أدبى إلا إذا كان راضيا عنه تماما، وبعد اكتمال العمل ورضائه عنه كان يقوم بـ«تبييض» العمل لتكون نسخته النهائية التى سوف يرسلها للناشر، وفى هذه المرحلة والتى كان يراها محفوظ الأصعب، يعيد كتابة النص مرة أخرى، لكنه يتأمله ببطء، يعيد كتابته ثانية لكن مع الحذف والإضافة والتعديل، حتى يطمئن قلبه تماما للعمل، فيكون جاهزا للنشر، وهو ما يتفق مع ما رواه الناقد الدكتور حسين حمودة، أستاذ الأدب العربى الحديث بجامعة القاهرة، وأحد المقربين من عوالم محفوظ فى سنواته الأخيرة، حين سأله عن المدة التى كتب فيها روايته «الحرافيش»، فأجاب أنه كتبها فى موسم كتابى واحد، و«بيضها» مرة واحدة فقط.
إرث كبير
مسودات الكاتب هى «مطبخه» الذى يشهد عصارة أفكاره الأولى، وتوضح التغيرات التى يمر بها العمل، فعلى سبيل المثال وحسبما يذكر الكاتب محمد شعير المسودة الأولى لرواية «قشتمر»، كانت مبنية على شخصية روائية واحدة، وأنها تحولت فى النسخة النهائية إلى 4 شخصيات، وكذلك «أصداء السيرة الذاتية»، فإن النسخة الحالية من «الأصداء» ليست الأدق لما خطه محفوظ، وأن ذلك يعود إلى الترجمة الخاطئة فى بعض النصوص، خاصة أن الطبعة الإنجليزية صدرت قبل العربية بثلاثة سنوات، وهو ما سنوضحه فى السطور التالية، وتؤكد ابنته أم كلثوم، أن صاحب الثلاثية، كان يتخلص من مسوداته فور الانتهاء من أى رواية، سواء بتقطيعها أو إلقائها فى المهملات ولا تتبقى معه سوى النسخة النهائية، والتى يقوم بإرسالها إلى الناشر، وجريدة الأهرام التى تنشر أعماله فى فصول.
ربما كانت المفاجأة التى قالتها ابنة نجيب محفوظ، هى أن الأسرة وبالأخص زوجته السيدة عطية الله إبراهيم، احتفظت ببعض المسودات الأولى التى كان يكتبها محفوظ ويتخلص منها فى سلة المهملات، إذ كان والدها لا يحتفظ بمسودات أعماله على حد تأكيدها، وكان يتخلص منها بعد الانتهاء كتابة العمل، إلا أن زوجته حاولت أن تحتفظ بما استطاعت إنقاذه من مسودات صاحب «الثلاثية»، موضحة أن ذلك من أسباب «الكرمشة» التى تعانى منها الأوراق، وهو ما يظهر ربما نوعا من التحايل مارسته الأسرة، فى تقديرها لتلك المسودات وأنها سوف تتحول فيما بعد لإرث نفيس من موروث نجيب محفوظ الذى تركه بجانب رواياته وقصصه، وأفكاره ورواياته الفلسفية التى ظهرت مع نصوصه الإبداعية المختلفة.
ملك التمزيق
حكاية أم كلثوم عن احتفاظ والدتها بمسوداته التى يلقيها فى سلة المهملات، رغم ما توضحه من تقدير للأسرة بتلك المخطوطات وقيمتها فيما بعد وخاصة بعد رحيل صاحب «الثلاثية»، تتفق مع الرأى الذى ذكره الكاتب الكبير محمد سلماوى فى تصريحات خاصة لـ«اليوم السابع» مشيرا إلى أن صاحب نوبل لم يكن يحتفظ بأى من مسودات لكتاباته، خاصة بعدما انتقل إلى شقته الأخيرة بالعجوزة، والتى ظل فيها حتى وفاته فى 30 أغسطس سنة 2006، وهو الرأى الذى ربما يفسر ما ذكره الكاتب الصحفى محمد شعير فى تصريحات خلال مناقشة كتابه «أعوام نجيب محفوظ.. البدايات والنهايات» بمبنى قنصلية، فى يوليو عام 2021، إذ أكد أن «نجيب محفوظ الذى كان دائم القول إنه «ملك التمزيق» ولا يحتفظ بمسودات مؤلفاته، كان يحتفظ فى منزله بمخطوطات ومسودات لأعماله»، وهو ما تبين عكسه إذ كان نجيب يتخلص منها، بينما تحرص أسرته على الاحتفاظ بما تستطيع حافظا على إرثه الأدبى.
«اليوم السابع» حصل على أصل مسودات لأديب نوبل من ابنته الفاضلة أم كلثوم، بعضها عثرت عليه حديثا أو لم يسبق نشره على الإطلاق بحسب كلامها، وبالبحث والتدقيق والعودة إلى بعض المتخصصين فى إرث نجيب محفوظ، وجدنا أن بعضها قد نشر فى دوريات صحفية عبارة عن صورة ضوئية من مجموعة من مسوداته عرضتها الجامعة الأمريكية من قبل، لكن بالتأكيد كلها تمثل إضاءة مهمة على غرفة مكتب صاحب نوبل، وعلى أوراقه الأولى، وكيف تعامل مع نصوصه فى المساحة الانتقالية بين الكتابة والطباعة.
ما تقوله المسودات
التعامل مع الأرشيف بالتأكيد ممتع، لكنه يحتاج دائما إلى وجود أسئلة محددة، والتعامل بحذر فالأرشيف يقدم جزءا من الصورة وليس الأجزاء كاملة، مع ضرورة طرح أسئلة قديمة للوصول إلى إجابات جديدة، وتمثل المسودات لأى أديب «مطبخه» الذى يعد فيه نصه الأدبي، ويضع فيه أفكاره الأولى قبل تعديلها أو حذف بعضها وتظهر فيها تلك التغيرات التى يمر بها العمل، كذلك شكلا أوليا للعمل يوضح لنا منهج المؤلف وطريقته فى كتابته نصه ونمطه فى الحذف والتعديل.
والمخطوطات التى ننشرها للأديب العالمى نجيب محفوظ الآن، يتبين منها أنها جاءت بخط واضح وطريقة نجيب محفوظ العادية فى الكتابة، أى أنها كتبت قبل أن يتعرض لحادث محاولة الاغتيال الذى تعرض له فى 14 أكتوبر سنة 1994، أى قبل «أصداء السيرة الذاتية» بعام واحد، و«صدى النسيان» بستة أعوام كاملة، إذ تأثرت يد «محفوظ» اليمنى بعد تعرضه لمحاولة الاغتيال التى تعرض لها فى أكتوبر من العام نفسه.
وهو ما يوضحه الكاتب الكبير محمد سلماوى فى الجزء الثانى من مذكراته «العصف والريحان» بأن محفوظ طلب من سلماوى أن يجرى معه أسبوعيا حوارا لينشر فى زاويته فى «الأهرام»، وعنوانها «وجهة نظر»، بما أنه لم يعد قادرا على استخدام يده فى الكتابة بسبب ذلك الحادث الإرهابى، وواصل سلماوى القيام بتلك المهمة حتى وفاة محفوظ فى عام 2006.
ظهور تلك المخطوطات بخط واضح إلى حد كبير، هو ما أدخلنا إلى تساؤل، متى كتب محفوظ مجموعتيه «أصداء السيرة الذاتية» و«صدى النسيان» والاثنتان للمصادفة قام بمراجعتهما وتقديمهما عند نشرهما للمرة الأولى فى مكتبة مصر عامىّ 1995 و1999 على الترتيب، الأديب محمد جبريل، والأخير أكد أن محفوظ كتب «أصداء السيرة الذاتية» بعد حادث الاغتيال.
وبحسب الكاتب الصحفى محمد شعير فى إحدى مقالاته السابقة، فإن جبريل «راجع المخطوطات وكان خط الأستاذ غير واضح مثل «نقش الفراخ» - على حد وصفه - خاصة أنه كتب الأصداء بعد حادث محاولة اغتياله فى عام 1994، وربما حدثت هذه الأخطاء غير المقصودة»، وبسؤاله حول أن المعروف والمعلن أن محفوظ كتب الأصداء قبل الحادث، وتأخر نشره فى كتاب إلى ما بعد الحادث؟ أجاب جبريل: «لا، بعد الحادث، أنا متأكد».
حديث محمد جبريل، سالف الذكر، يختلف عما ذكرته أم كلثوم نجيب محفوظ فى حديثها لـ«اليوم السابع» إذ أكدت أن صاحب «الحرافيش» كتب «أصداء السيرة الذاتية» و«صدى النسيان» قبل تعرضه لحادث الاغتيال بسنوات قليلة، وجاءت ظروف نشرها بعد الحادث بالمصادفة، وربما يختلف حديث جبريل مع ما تم طرحه عن حالة محفوظ الصحية بعد الحادث، وحول الأخطاء التى تضمنها النص بعد صدوره فى كتاب عن مكتبة مصر؟ نقل شعير على لسان جبريل، قوله: «نحن بشر والخطأ وارد، وكان طه حسين يعطى نسبة 10% للأخطاء، وهى نسبة معقولة»!
وما ذكره الكاتب الكبير محمد سلماوى فى واحدة من مقالاته، أن نجيب محفوظ بعد محاولة الاغتيال تعرض لقطع فى أحد الشرايين، ما تسبب فى شلل بيده اليمنى، وهى اليد التى يكتب بها، وهو الأمر الذى استلزم قيامه بتمارين للكتابة يوميا يقوم خلالها بالإمساك بالقلم بيده اليسرى والذى اختاره عريضا وكبيرا حتى يحكم السيطرة عليه، واستمرت تلك التمارين بحسب سلماوى لمدة عام ونصف العام، أى حتى بعد نشر «أصداء السيرة الذاتية» نفسها، كذلك جاءت مختلفة عن طريقة كتابة محفوظ فى المخطوطات التى نشرته أسرته له بعد تعرضه لمحاولة الاغتيال، إذ يتبين منها أن محفوظ كتبها بيد مرتعشة وخطوط كبيرة.
مخطوطات محفوظ
أول المخطوطات التى حصلنا عليها، كان عبارة عن مسودة تضم نصين، لكن قبل أن نتطرق إليهما، فإن هذا المخطوط ينشر لأول مرة بحالته الأصلية بخط يد نجيب محفوظ نفسه، إذ ذكر الكاتب الصحفى محمد شعير من قبل أن «جريدة الأهرام لا تمتلك المخطوط الأصلى لـ«الأصداء» الذى حصلت عليه من محفوظ، وكذلك مكتبة مصر التى نشرت العمل فى كتاب، كما لا تملك «أم كلثوم»، ابنة نجيب محفوظ المخطوط، لديها مسودات أولى للعمل، تُبين وتكشف كيف فكر فيه محفوظ، وكيف اشتغل عليه حتى وصل إلى صورته النهائية، وأشار «شعير» فى حديثه إلى أن مكتبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة وحدها التى احتفظت بصورة من مخطوط الأصداء، والتى اعتمد عليها دنيس جونسون ديفيز لترجمة العمل، قبل أن تقع فى أيدينا الصورة الأصلية مخطوطة بقلم نجيب محفوظ تم تصويرها بالهاتف، وهو ما يبين أن أم كلثوم ابنة نجيب محفوظ لديها بالتأكيد كنوز من مخطوطات ومسودات لم تنشرها من قبل، لعلها تنشرها أو بعضا منها فى كتابها الأول المنتظر صدوره قريبا بعنوان «أبى نجيب محفوظ»، ويضم الكتاب مذكرات نجيب محفوظ التى ستنشر لأول مرة بخط يديه، والتى تكشف عن جوانب كثيرة مهمة وخفية فى شخصية محفوظ، بحسب تأكيدها فى بيان صدر عنها أغسطس 2022، بالتزامن مع الذكرى السادسة عشرة على رحيل صاحب «المرايا».
الوحدة
الجزء الأول من المسودة، ضم نصا بعنوان «الوحدة»، وجاء النص: «لزق المنظر البشع بذاكرتها لا يغيب، منظر كف الضابط اللامبالية وهى تهوى على خد أبيها العليل.. وبقدر ما كانت تحب أباها وتقدسه انقلبت عدوة لكل شىء ولفظته، اليوم تقدم فى السن وهى تعيش وحيدة وثقوب الكون تراقبها فى ارتياب وسوء ظن».
لكن النص المنشور فى مجموعته «أصداء السيرة الذاتية» بنفس العنوان السابق، طرأ عليه بعض التغيرات وجاء النص فى شكله النهائى: «لزق المنظر البشع بذاكرتها يتزحزح، منظر كف الضابط العمياء وهى تهوى على خد أبيها العليل، وبقدر ما كانت تحب أباها وتقدسه بقدر ما خاصمت كل شىء، نفسها والعالم من حولها، وتتقدم فى السن وهى وحيدة ترمقها ثقوب الكون فى رثاء».
فى النص السابق يظهر كم التغيير الذى اتجه إليه نجيب فى سرده، من تكثيف وإن كان بسيطا هذه المرة وتبسيطا واضحا فى المعنى، إذ استبدل بعض كلمات بأخرى ذات دلالات فلسفية وجوهر جمالى وبلاغى، مصورا قوة القهر فى إشارة واضحة للسلطة الخارجية وكيف دفعت الابنة ثمن هذه الواقعة من رثاء وشفقة ووحدة، فى صورة إنسانية أكثر إيلاما، معتمدا فيها على الصدمة التى كانت محورا فى أعماله الأخيرة فى سنوات ما قبل الرحيل، وهى المرحلة التى سماها بعض النقاد مرحلة «الواقعية الفلسفية» مصورا معاناة هؤلاء الذين أذلتهم الحياة وحملتهم ما لا يطيقون حمله.
الوحدة
الطوفان
بالمسودة نفسها جاءت فى جزئها الثانى، قصة لم يعنونها محفوظ، وجاءت كالتالى: «قال الشيخ عبد ربه التائه: سيجىء الطوفان غدا أو بعد غدٍ، سيكتسح الفساد والفاسدين والعاجزين، ولن تبقى إلا قلة من الأكفاء، وتنشأ مدينة جديدة تنبعث من أحضانها حياة جديدة، ليت العمر يمتد بك يا عبد ربه، لتعيش ولو يوما واحدا فى المدينة الآتية».
وتبين أن ذلك المخطوط هو مسودة لنص «الطوفان» الذى نشر فى كتابه «أصداء السيرة الذاتية»، وبالمقارنة بين النص المنشور والمسودة يتبين أنه لا يوجد تغيير كبير سوى فى كلمة واحدة، لكنها حملت إشكالية كبيرة، حيث جاء المنشور تحت عنوان «الطوفان» يقول: «قال الشيخ عبد ربه التائه: سيجيئ الطوفان غدا أو بعد غد، سيكتسح النساء والفاسدين، ولن تبقى إلا قلة من الأكفاء، تنشأ مدينة جديدة تنبعث من أحضانها حياة جديدة، ليت العمر يمتد بك يا عبد ربه لتعيش ولو يوما واحدا فى المدينة الآتية».
النص بشكله الأخير والذى نُشرت عليه القصة فى «الأصداء»، ورمز فيه محفوظ إلى «المدينة الفاضلة» التى يتمنى أن تكون عليه مدينته، وربما رمز إلى نفسه فيه عن طريق عبد ربه التائه، لكنه المختلف أن النص المنشور ظهرت فيه كلمة «النساء» بدلا من «الفساد» التى احتوت عليه المسودة، وهو ما تسبب فى إشكالية كبيرة، فلماذا جمع محفوظ النساء مع الفاسدين، وهل قصد محفوظ الذى صور المرأة فى الكثير من أعماله فى صورة الضحية المقهورة والأمينة المخلصة، أن يصورها هذه المرة فى تلك الوضعية، وهو نفسه التساؤل الذى طرحه أستاذ الطب النفسى يحيى الرخاوى وأحد الأصدقاء من نجيب محفوظ فى كتابه «تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية» متسائلا: «لماذا جمع النساء مع الفاسدين والعاجزين؟ هل جعل النساء رمزا للفساد والعجز كما ذهبت بعض أقوال الأديان والأساطير؟».
وهو ما يضعنا أمام احتمالين أن يكون محفوظ قصد فعلا التغيير وأحال النساء إلى تلك الرمزية التى ذكرها الرخاوى، أو أن الكاتب الكبير محمد جبريل والذى نقل النص من المخطوط مباشرة، اختلط عليه الأمر، وتصور أن محفوظ كتب النساء لا الفساد، لكن هذا التصور دحضه، محمد شعير، إذ أشار إلى أن الترجمة الإنجليزية للنص لم تتضمن أى إشارة أو الذكر إلى النساء، مشددا على أن الترجمة الخاطئة تسببت فى ذلك، وأكد أنه أرسل إلى دار الشروق، التعديلات الصحيحة لتفادى الأخطاء القديمة فى الطبعة الجديدة.
شق الطريق
يأتى المخطوط الثانى الذى حصلنا عليها من ابنة صاحب نوبل فى الأدب لعام 1988، عبارة عن مسودة تحتوى على قصتين، وردتا فى مجموعة محفوظ «أصداء السيرة الذاتية» 1995، جاء النص الأول بعنوان «شق الطريق» وجاء فى النص: «كنت أنتظر لصق جدار بالطريق الضيق المكتظ بالناس والدكاكين.
فى ذلك التاريخ كنت معذبا فى مقام الحيرة تتجاذبنى رياح متضاربة، وجذبتنى قوة خفية إلى ناحية ما، فرأيت عجوزا وقورا يشع طيبة وصفاء.
أقبل نحوى حتى صار على بعد شبر منى، وهمس:
إنها لا تساوى شيئا..
أيقنت أنه قرأ هواجسى، وأنه يدعونى إلى قطع الروابط، ارتجفت جوارحى وخفق قلبى بشدة، وتبدى لى الإغراء فى صورة حسناء لم أشهد لجمالها مثيلا من قبل، لكنى ترددت٫ وفى تلك الآونة رجعت زوجتى حاملة قراطيس العطارة جارة أبنائى الثلاثة.
وأفقت من غشيتى، وحملت الأصغر بين يدى، وتقدمت أسرتى أشق لها طريقا وسط الزحام».
النص السابق أيضا كما هو تماما لم يحذف أو يعدل فيه محفوظ فى نسخته النهائية المنشورة سواء فى نسخة مكتبة مصر أو دار الشروق، والتغييرات جاءت فقط أيضا فى موضع بعض الفواصل ونقاط القول كما فى القصة الأولى، لكن اللافت أن محفوظ وضع كشط على القصة، ربما هذا يوضح عدم رضاه عنها، والذى يتوافق مع ما ذكره محمد شعير فى دراسته عن «أصداء السيرة الذاتية» حيث أكد أن محفوظ كان رافضا فى بداية الأمر، أن ينشر «الأصداء»، مبررا ذلك الأمر بأن «نفسه مسدودة» عن النشر، كما أن ظروفه الصحيّة تحول بينه وبين مراجعة العمل مراجعة دقيقة، لكنه ربما اقتنع بعد إصرار من الناشر سعيد السحار الذى استعان بدوره بالأديب محمد جبريل لمراجعة النصوص، وكذلك عدد من المثقفين المحيطين به والذين أقنعوه بنشر العمل.
ولعل تلك القصة جاءت فى الفترة التى بدأ فيها نجيب محفوظ يتحرر من القوالب النمطية، واتجه إلى النصوص السريالية والتى شملت «أصداء السيرة الذاتية» و«أحلام فترة النقاهة» 2004، ولعل محفوظ فى هذا النص حاول أن يضع مسؤولية على عاتق الزوج بعيدا عن اللهو والعبث، متمسكا بالروابط الاجتماعية ومظاهر الدفء الأسرى.
شق الطريق
الهاوية
أما النص الثانى والذى جاء فى نفس المخطوط، واحتوى على القصة السابقة «شق الطريق»، لم يعنونه نجيب محفوظ فى المسودة، وجاء النص، كالتالى: «قال الشيخ عبد ربه التائه: تذكرت جلوسى فى حجرة الاستقبال سائلا الله التوفيق فيما جئت من أجله، ودخل الأب وقورا ودودا ولكنه ينذر بالقيود والعقاب، وهمس صوت لباطنى أن فكر فى ذلك قبل الاستسلام النهائى، وسرعان ما انشغلت عن كل شىء بالغزل وفتنته».
لكن النص الأخير لم ينشر تماما كما جاء فى المخطوط، بل شهد بعضا من التغيرات التى أحدثها محفوظ فى نصه سواء فى البناء واللغة، وعنون النص فى شكله المنشور بعنوان «الهاوية»، واستبدل فى طريقة سرده وبنائه، وجاء النص كالتالى: «قال الشيخ عبد ربه التائه: حتى أنا شهدتنى حجرة الاستقبال وأنا أنتظر راجيا التوفيق، ويدخل الأب وقورا ودودا، ولكنه ينذر القيود والعواقب، ودعانى صوت باطنى إلى الهرب، ثم تجىء هى متعثرة الحياء فأسقط فى الهاوية».
التغير هنا الذى طرأ على النص فى شكله النهائى ربما يوضح التكثيف الذى لجاء إليه محفوظ فى «تبييضه» للمسودة الأولى منه، وربما ذلك يتناسب مع كتاباته فى فترة ما بعد تقدمه فى العمر، واتجاهه لكتابة القصص القصيرة أو المقطوعات النصية القصيرة جدا، وبذلك جاءت «أحلام فترة النقاهة» وأيضا «أصداء السيرة الذاتية» والقصص الأخيرة من «صدى النسيان»، وامتاز «التبييض» للمقطع سالف الذكر أيضا، بتغيير البناء السردى إلى بناء بلاغى جعل النص يبدو للوهلة الأولى مختلفا، وإن كان متشابها فى المعنى مع المسودة الأولى، وتضمن أيضا إيحاءات وتعبيرات جمالية أكثر فى شكله الثانى.
زغرودة
المخطوطات الثلاثة من مسودات نجيب محفوظ والتى ننشرها بخط يده، جاءت بعنوان «زغرودة» وهى القصة رقم 20 المنشورة فى مجموعته «صدى النسيان» والتى نشرت لأول مرة عام 1999، وجاء فى النص: «دقت طبول الزفاف وطارت زغرودة إلى السماء، قال زهران بأسى: إنه زفاف ياسمين ومهران، ونظر إلى صديقه مهران بين الورود والأصحاب وقال بدهشة: وها هو العريس يتبختر والحظ يبتسم، والدنيا حظوظ،.
زغرودة
- وقالت له أم إسماعيل: لا تحزن على ما فاتك، الغيب ملىء بالحسان.
ولكن هذه المرأة لا تعرف كل شىء، لا تعرف أننى ومهران بدأنا العمل فى يوم واحد بوكالة القللى، وأحببنا ياسمين حب الجار للجارة فى عام واحد، وراح هو يدّخر الفائض من مرتبه، أما أنا فظننت أن أى ادخار لن يكفى ثمنا لمهرها فرُحت ألهو وأقتنى دواوين العشاق، حتى انتبهت ذات يوم على خبر يجرى ما بين القبو والميدان معلنا خطبة ياسمين ومهران.
- يا أم إسماعيل، خسرتها لأننى عرفت قيمتها الحقيقية..
فضحكت المرأة لتهون عليه وقالت:
أو لأنك لم تعرف قيمتها، وسوف آتيك بأحسن منها».
النص السابق نُشر فى شكله النهائى فى المجموعة التى جاءت تحت عنوان «صدى النسيان» 1999، كما ظهر تماما فى مخطوط محفوظ لم يختلف تقريبا عما خطاه محفوظ بقلمه فى مخطوطه الأول، ربما التغيرات جاء فى موضع بعض الفواصل أو وضع نقاط القول فى الجمل الحوارية، والنص من النصوص الرائعة التى كتبها محفوظ، ويتشابه إلى حد كبير مع تلك النصوص التى كتبها فى سنواته الأخيرة، وكانت على الرغم من كتابتها الواقعية إلا أنها أيضا حملت بعض من سيرته الذاتية ورؤاه للحياة.
بالتأكيد يبقى أن نؤكد فى النهاية أن أى مخطوط أو مسودة من إرث الأديب العالمى نجيب محفوظ، هى كنز إنسانى يستحق أن يصان فى متحفه أو فى مركز ثقافى كبير يحمل اسمه، وتبقى أيضا تلك المخطوطات نافذة جديدة على عوالم نجيب محفوظ، والتى رغم أن مئات إن لم يكن آلاف النقاد والمثقفين تناولوها من قبل بالنقد والتحليل،- تبقى دائما قادرة على كشف أفكار وفلسفات وأراء، وربما نصوص، تظهر أمامنا من جديد، تكون اختفت خلف تفسيرات ورؤى أكبر وأعمق، وتثبت فى النهاية أن نجيب محفوظ موجود يحدثنا من عالمه آخر ويكشف لنا من حين إلى آخر عوالم وحيوات أخرى لم تصل إلينا من قبل.
نجيب