عاصفة من الجدل وحالة من الاضطراب تواجهها صحيفة واشنطن بوست الأمريكية بعد قرار بقائها على الحياد فى انتخابات الرئاسة الأمريكية وتخليها عن تقليد اتبعته هي وغيرها من وسائل الإعلام الأمريكية على مدار عقود بإعلان تأييد مرشح بعينه فى سباق البيت الأبيض.
لم يكن القرار قادما من هيئة تحرير الصحيفة، بل، وبحسب ما جاء فى تقرير لصحيفة نيويورك تايمز، كانت هيئة تحرير الصحفية قد صاغت بالفعل افتتاحيتها تعلن فيها تأييدها للمرشحة الديمقراطية نائبة الرئيس كامالا هاريس. أما كلمة السر فى هذا القرار المفاجئ والذى جاء فى وقت حساس قبل أيام قليلة من موعد الانتخابات، فهى جيف بيزوس، مؤسس موقع أمازون للتجارة الإلكترونية ومالك واشنطن بوست.
فى أواخر سبتمبر، طار مسئولو الأخبار والرأى بواشنطن بوست إلى ميامى لعقد اجتماع دورى مع بيزوس. خلال الزيارة التي تضمنت غذاء عمل فى منزل الملياردير بجزيرة خاصة فى جزيرة بيسكاين باى وعشاء فى مطعم قريب، ناقش محرر الرأى بالصحيفة ديفيد شيبلى وناشر الصحيفة ورئيسها التنفيذي ويل لويس خطط قطاع الرأى بالصحيفة فى المستقبل.
وبنهاية الاجتماع، ووفقا لأربعة مصادر، بدا لشيبلى وولويس أن بيزوس لديه تحفظات بشأن تأييد الصحيفة لأي من المرشحين فى انتخابات الرئاسة الأمريكية. لكنهما اعتقدا أيضا أنه منفتح للاقتناع. لكن قرار بيزوس النهائي كان إنهاء تقليد الصحيفة بتأييد مرشح ما.
أثار قرار الصحيفة عاصفة من الانتقادات من قبل محررين وقراء، وتوبيخ غير عادى من اثنين من أشهر كتابها، وهما بوب ودوارد وكارل برنستين، مفجرا فضحية ووتر جيت، اللذين وصفا القرار فى بيان مشترك بالمحبط والمفاجئ، وأن توقيته يتجاهل الأدلة التقريرية الهائلة التي قدمتها صحيفة واشنطن بوست بشأن التهديد الذى يمثله دونالد ترامب للديمقراطية.
وتقول "سى إن إن" إن قرار بيزوس بالنسبة للعديد من العاملين السابقين والحاليين فى الصحيفة، فإن توقيت الإعلان كان مثيرا للشكوك للغاية، ويدفعهم للاعتقاد أن مصالح بيزوس التجارية أثرت على قراره.
فقد وصف المحرر التنفيذي السابق بواشنطن بوست، والذى قاد الصحيفة تحت سيطرة بيزوس خلال إدارة ترامب الأولى القرار بالجبان، وأضاف أن الإعلان عن مبدأ قبل 11 يوما فقط من الانتخابات أمر مشكوك فيه للغاية، ولا ينبغي تصديق أن هذا كان مسالة مبدأ فى هذه المرحلة.
وأشار بارون إلى أن ترامب كان قد هدد بيزوس بشكل مستمر، لكنه قال إن بيزوس قاوم الضغوط وكان فخورا وممتنا بهذه القيادة.
وتابع قائلا إن بيزوس لديه مصالح تجارية أخرى، مثل أمازون وشركة فضاء تسمى بلو أوريجين. وقد هدد ترامب بملاحقة أعدائه السياسيين ومكافأة أصدقائه.
البعض الآخر أعرب عن قلقه من أن عددا كبيرا من القراء ألغوا اشتراكاتهم فى الصحيفة بعد القرار، وهو ما سيؤثر بشكل مباشر على قيام غرفة الأخبار بعملها.
وأعلن كاتب مقالات الرأي البارز بالصحيفة روبرت كاجان، الذى عمل معها على مدار 25 عاما استقالته نتيجة للقرار.
لكن هل كان قرار بيزوس ناجما بالفعل عن مخاوف متعلقة بمصالحه التجارية؟
الإجابة على هذا السؤال جاءت بعد ساعات قليلة من إعلان واشنطن بوست قرارها المفاجئ يوم الجمعة. ففي نفس اليوم، التقى ترامب بعدد من المسئولين التنفيذيين من شركة Blue Origin للاستكشاف الفضائى التي يملكها بيزوس. وتمتلك الشركة عقدا بقيمة 3.4 مليار دولار مع الحكومة الفيدرالية لبناء سفينة فضائية جديدة لنقل رواد الفضاء من وإلى سطح القمر.
وبعد يومين من العاصفة التي وجدت واشنطن بوست نفسها فيها، نشرت الصحيفة تقريرا يتحدث عن اتجاه عدد من المليارديرات ورجال الأعمال إلى تخفيف انتقاداهم السابقة لترامب فى ظل تقارب السباق الرئاسي، ووجود فرصة حقيقية لترامب فى العودة إلى البيت الأبيض.
وقالت الصحيفة فى تقريرها العديد من المليارديرات والمديرين التنفيذيين البارزين قد اتخذوا خطوات فى الأشهر الأخيرة للبقاء بعيدا عن السباق.
وأوضحت أن هذا الموقف جاء رغم أنهم كانوا قد انتقدوا ترامب بعد أحداث اقتحام الكونجرس فى 6 يناير 2021، ووصفوا تشجيعه لأعمال الشغب بالتهديد للديمقراطية الأمريكية. وآخرون، ممن أيدوا الديمقراطيين فى السابق التزموا الصمت فى هذه الانتخابات، وهو ما فسره بعض المنتقدين وأنصار ترامب على حد السواء بانه عرض سلام للمرشح الجمهورى.
ونقلت واشنطن بوست عن اثنين من مستشارى حملة ترامب، رفضا الكشف عن هويتهما، أن العديد من المسئولين التنفيذيين كانوا يحاولون التواصل مع فريق الرئيس السابق فى وقت متأخر فى السباق.
وقال أحد المستشارين: لقد أخبرت رؤساء الشركات بالتواصل بأقصى سرعة ممكنة لأن الوقت يمر. ولو كانوا قد أيدوا هاريس، ولم يسمعوا منهم أي حديث حتى يوم الانتخاب فإنهم سيواجهون معركة شاقة. وأضاف أنا الناس يتواصلون عبر قنوات خلفية، وينظرون فى شبكاتهم، ويتحدثون إلى أطراف الضغط ليروا ما بإمكانهم فعله للاتصال بالرئيس وفريقه.
وأيا كان السبب وراء موقف جيف بيزوس، فإنه لم يكن وحده الذى أقدم على مثل هذه الخطوة. فقد استخدم الملياردير باتريك سون شيونج، مالك صحيفة لوس انجلوس تايمز، حق النقض لمنع إعلان هيئة التحرير تأييد كامالا هاريس فى الانتخابات، وهو القرار الذى أسفر عن استقالة رئيسة التحرير مارييل غارزا، التي قالت إن التزام الصمت ليس مجرد لامبالاة ولكنه تواطؤ.
ودافعت نيكا، ابنة باتريك سون سيونج، عن قرار عدم تأييد أي مرشح فى الانتخابات، وأرجعت موقفها والدها من هاريس إلى موقف المرشحة الديمقراطينة من حرب غزة، وقالت إن قرار الصحيفة كان من مجلس التحرير وليس تأييدا لدونالد ترامب، بل رفض لمرشح يشرف على حرب ضد الأطفال.