نهر النيل أشهر أنهار الدنيا، وقد مثل النيل شاغلا كبيرا للباحثين والمفكرين، وفي سنة 1935 صدر كتاب مهم باللغة الألمانية عنوانه "النيل.. قصة حياة نهر" لـ إيميل لودفيج، وهو كتاب فارق في كل شيء، وقد جاء في مقدمته:
كتبتُ وترجمتُ، وكلما كتبتُ سيرة رجل وترجمت عنه تَمَثَّل لي مجرى نهرٍ ومصيرُه، ولم يبدُ لي وجود نصيب بشري لنهر وصورة إنسان له غيرَ مرةٍ واحدة، فلما أبصرتُ سد أسوان العظيم للمرة الأولى في نهاية سنة 1924 كان للمعنى الرمزيِّ الذي فَرَضَه عليَّ من السلطان الكبير ما ظننتُني معه هنالك، في ذلك المحلِّ الفاصل من المجري، مدركًا لحياة النيل من منبعه إلى مصبِّه، وترى للطبيعة في ذلك المكان قوةً أولية سيطر الإنسان عليها بذكائه فحوَّل الصحراء إلى أرض خصيبة محقِّقًا ما حاوله الدُّهريُّ فاوْست وعده أرفعَ عملٍ للرجل، وما لاح لعينيَّ في أسوان من ذكرى لخاتمة فاوست هذه أوحى إليَّ برغبة في كتابة قصة النيل كما أكتبُ قصة العظماء.
ولكنني قبل أن أقصَّ نبأ مغامراته وأُبدِيَ عميق مخاطراته أرى سَبْر غوره توكيدًا لبصري أو تقويمًا لنظري، وقد عرفت أجزاءَ أفريقية الأخرى منذ زمن، وأفريقية مما أحببتُ، وأفريقية مما جَلب السعادة إليَّ، وفي المنطقة الاستوائية وفي منبع النيل كنت قبل الحرب العظمى، وعليَّ أن أدرس النيل عن كَثَبٍ ليظهر لي أنه أبهرُ الأنهار طُرًّا.
النيل حياة نهر
والنيل أكثر الأنهار طولًا، وليس النيل أغزرَ الأنهار ماءً، وفي هذا سر حياته وحياة ما يُبَلله من بقاع، والنيل يجوب صحارِيَ وفَلَواتٍ، ولا ينال النيل روافد ولا غَيْثًا في شطر من مجراه، ولا يَنْقُص النيل بذلك، ويُوجِدُ أخصبَ الأرَضين في نهاية أمره مع ذلك، وعلى ما يُبَدِّدُه النيل من أدقِّ قُوَاه في فَتَائه على ذلك الوجه تُبْصِره مهولًا في مصبِّه، وعلى ما يدلُّ عليه طولُه من سدس محيط الأرض تراه أبسط الأنهار شكلًا، فهو يجري من الجَنوب إلى الشمال توًّا مُحْدِثًا عطفةً وحداة فقط، وهو لم ينحرف غيرَ أربعمائة كيلومتر من طوله البالغ ستة آلاف كيلومتر، ويقع مصبُّه ومنبعه على درجة واحدة من الطول تقريبًا.
ويشتمل حوض النيل على أعظم بحيرة في نصف الكرة الأرضية الشرقي وعلى أعلى جبال قارَّته وأكبرِ مدنها، ويعمر ضفافَ النيل أكثرُ طيور النصف الشماليِّ من الكرة الأرضية وجميعُ ما في الفردوس من حيوانٍ ونبات يَتَرَجَّح بين نوامي الألب وغياض البلاد الحارة وغِرَاس البطائح والغُدران، وزرع السهوب والفيافي وأغنى ما في الدنيا من الأطيان، ويُطْعِم وادي النيل مئات العروق ويقوت أناسيَّ من الجبال والمناقع ومن العرب والنصارى ومن أَكَلَة لحوم البشر ومن ذوي الطول والقِصَر، وما بين الناس من اصطراعٍ في سبيل الثراء والسلطان وفي سبيل العادات والإيمان وفي سبيل هيمنة اللون يُمكِن تَتَبُّعُه هنا لمدة ستة آلاف سنة خَلَتْ؛ أي لمدةٍ أطوَل مما في أيِّ مكان لتاريخ البشر.
ولكن أَعْجَبَ ما وجدتُ في تلك الظاهرات التي تتجلَّى فيها قدرةُ الطبيعة وعمل مخلوقاتها وجهود الناس والزراعة والنبات والحيوان والأمم وتاريخها هو أنها ما كانت لِتُوجَد لولا النهر، أو كانت تُوجد على خلاف ما هي عليه بغير النهر.
بَدَا النيلُ لي كائنًا حيًّا يَقُوده قَدَرٌ مرهوب نحو استعباد محتوم بعد ظهور نضيرٍ، ولاح النيلُ لي كعظماء الرجال فأردتُ أن أستنبط من طبيعته تسلسلَ حوادث حياته المقدَّر فأبنتُ كيف أن الوليد — وهو يتفلَّت من الغابة البِكر — ينمو مصارعًا ثم تَفتر همَّته ويكاد يَنْفَد ثم يخرج ظافرًا، وكيف أن أخاه القَصِيَّ المقحام يُهرَع إليه ليزلِقا معًا من خلال الصحراء ويصاولا الصخر، والنيلُ في تمام رُجُولته يقاتل الإنسانَ فيُقهَر ويُروَّض ويوجب سعادةَ الآدميين، ولكن النيلَ قَبْلَ ختام جِرْيته يسبِّب من المآسي أكثرَ مما في شبابه الوحيش.
ويكون تأثير البيئات في النيل شديدًا في البُداءة شدةَ تأثُّر الصبا والفَتَاء بالطبيعة والمحيط، فإذا مضى حينٌ عَمِلَتْ مكافحتُه الإنسان عَمَلَها فيه وساقته، ويجاوز النيلُ دورَ البساطة الأولية في الكون إلى دَور النور المعقَّد في التمدن الحديث فيُبصر مبدأ قاهريه الأكبر في خَطَر، ويُتعِبه طمعُ الناس في المال فيقذِف نفسَه في البحر ليجدِّد ببعثٍ خالد.
وفي الغالب تَجِدُ وثائق حياة كلِّ نهر في المؤلَّفات العلمية أو في كتب السياحة حيث يسافر الكاتب مع القارئ، ويتضمَّن الوجهُ الوصفيُّ الجديد الذي هَدَفْتُ إليه طِرازًا آخر في جمع الوقائع، فقد أمسكتُ النهرَ في مراكز مجراه الحيوية الخمسة كما صنعتُ في تراجمي السابقة: أمسكتُ به في بحيرة ألبرت (مَرَّتين) وفي بحيرة نُو وفي الخُرطوم وفي أسوان وفي القاهرة، وقد نويت وصف حياةٍ، لا كتابةَ دليلٍ، فلا أَسِيح مع القارئ على النهر، ولا أقصُّ مغامراتي بل أقص مغامراتِ النيل، والنيلُ سائحًا هو الذي يَفْتِن مصيرُه أفئدتَنا أجمعين.
ومن العبث أن يُبْحَث في هذا السِّفر عن جغرافيةٍ كاملة لبِقاع النيل الأربع أو عن تاريخٍ جامع لها، أو عن مَعْلَمَةٍ٥ للشعوب والحيوان والنبات، وتُبصر في هذا السِّفْر نبذًا تُقَصَّر بلا انقطاع اجتنابًا لِعَوْق النهر عن جَرْيه، وتُبْصِر في هذا السِّفر إعراضًا عن حياةِ كاشفي منبع النيل الروائية مع احتمال بيانها ذاتَ يومٍ على انفراد.
وقد اقتُطع وصف مجرى النيل من منبعه إلى مَصَبِّه بفصولٍ تاريخية تَشغَل ربعَ النصفِ الأول من هذا الكتاب ونصفَ الشَّطر الثاني منه؛ وسبب هذا التفاوت في التوزيع هو عدم وجود تاريخ للنيل الأعلى تقريبًا ووفرةُ معارفنا عن النيل الأدنى.
وكما رأيتُ فُيُولًا وأسودًا على ضفاف النيل الأعلى، وجِمَالًا وحميرًا على ضفاف النيل الأدنى، تَرِدُ للشُّرْب مساءً أبصرتُ موكِبًا متصلًا لأشباح أولئك الذين عاشوا وسيطروا وأَلِمُوا هنالك، وأبصرتُ تنازع الأديان والعروق في صحارى السودان وسهوبه، وفي مصرَ التي هي مصدر الإنسانية في الغرب.
وفي هذا الكتاب — كما في سِيَري الأخرى — لم آلُ جُهدًا في كَتْم المصادر التي رجعتُ إليها تحقيقًا لانطباعاتي وإمعانًا فيها، وذلك لعَدِّي إظهارَ الذي أَرَى في رمزٍ وإظهارَ الرمز في حادث منظور أهمَّ من جمع التواريخ والأسماء التي يُمكِن كلَّ واحدٍ أن يَجِدَها في المراجع الخاصة، وفي هذا السِّفْر، كما في سواه، لم أدَّخر وُسعًا في تلوين ما يُعَبِّر المتخصصُ عنه بالأرقام والجداول، وفي هذا السفر لم أرغب في وصف ما يُحَدَّث عنه في الغالب، بل عملتُ على وصف ما يَقِفُ الأبصارَ ثم على تسميته، وفي الدرجة القُصوى من الفصل الثالث فقط؛ أي في طَوْر الأسداد الجازم من تلك الحياة، اضطُررت إلى ذكر أرقام قليلة ذكرًا مضبوطًا معتذرًا إلى القارئ، وهذا إلى أنني حَوَّلت كسور الأرقام إلى أصفار عند الضرورة، لما في اﻟ «964 كيلومترًا بين بحيرة نُو والخُرطوم» مَثَلًا من وَقفٍ للنظر أقلَّ من اﻟ «1000 كيلومتر بينهما»، وكذلك لم تُسَوَّ كتابةُ الأسماء الأفريقية في اللغات الأوروبية تمامًا.
ولم تُوضَع الطبيعة والتاريخ في النصف الثاني من هذا الكتاب على المستوى الذي اتفق لهما في النصف الأول منه، ولا غَرْوَ، فالنهر في فَتَائه، كالإنسان في شبابه، يُردِّد مؤثِّرات البيئة التي أوجدته، على حين ترى النهر في كهولته يكافح تطاول العالَم الخارجي بسجيَّته، وللإقليم والبلد تأثيرٌ عظيم في رَيْعان الشباب، ثم يبدو تأثيرُ الإنسان، وتقضي الضرورة بتحويل الخطة أكثرَ من قَبل عند تناول نهر يَجُوب في شَبابه من البِقاع ما لا تَرَى له تاريخًا ويَجرِي في مَشِيبه من أقدم بلاد الدنيا تَمَدُّنًا، وتُبصر لمصرَ ستةَ آلاف سنة تاريخًا، ولا تكاد تجد لأُوغندة والسودان من التاريخ قرنًا، وهكذا نُخَصِّص ثلاثةَ أرباع النصف الأول من الكتاب للطبيعة ونُخَصص ربعًا منه للتاريخ، مع أن نصيب الطبيعة هو نصف الشطر الثاني منه، وذلك لِمَا بين أسوان والدِّلتا من اختلافٍ قليل في المنظر والنبات والحيوان.
ومع ذلك تُعَالَج الأقسام التاريخية من نصف الكتاب الخاصِّ بمصر في كلماتٍ جوامعَ ما لم تعارِض موضوع الجميع، والأوصاف تحتلُّ مكانَ الأفكار كما في تراجمي السابقة، والأحوالُ الاجتماعية في هذه الأوصاف تفضُل الحروبَ صدارةً، ومشاعرُ الناس فيها تَفُوق شأنهم أهميةً، وهكذا يُعطَف في النصف السوداني عند الوصف على مشاعر الزنجي أو الفيل أكثر مما على الإنسان الأبيض، وهكذا يحاوَل إبراز التاريخ في مصرَ من حيث مقامُ الفلاح الذي عاش أوثقَ عِشرةً للنيل في كل زمن من عشرة ذوي الحكم، لا كما نَظَرَ إليه الملوكُ والفراعنة والسلاطين؛ وذلك لأن مصرَ هي بلدُ الدنيا الوحيدُ الذي يقضي كل ساكنٍ حياته فيه تَبَعًا للنهر في أيِّ وقت كان؛ وذلك لأن الأُسَر المالكة تأتي وتستغلُّ النهر وتزول، ولكن النهر، ولكن أبا البلد هذا، هو الذي يظلُّ باقيًا، وكان للنيل، كان لمولِّد الماء والحبِّ هذا، من الشأن منذ ستين قرنًا ما له في دور الأسداد والقطن الحاضر، ولم نألُ جُهدًا في وصف الأديان والمعابد والمساجد مُظْهِرين تأثيرها في الفَلَّاحين، ومن الفلاحين يتألف شعبُ النيل الأدنى.
ومما يُلَاحَظ على الخصوص سكوتي عن مواكب الصيد الأكبر التي لم أشترك فيها وامتناعي عن كل حوارٍ إثنوغرافي، ويَربِط العلماء الذين بَحَثُوا عن الشعوب التي استقرَّت بوادي النيل بعروقٍ متباينة مُنَاوَبَةً، وأَجِدُ في هذا ما يزيدني حَذَرًا من جميع النظريات العرقية، وأرى أن ما يَحُوم حول الحاميين والساميين من جَدَلٍ علمي كاشف في كل خمس سنين ﻟ «مراكزَ جديدةٍ للحضارة» أقلُّ وقفًا لنظري من منظر بدويٍّ على ضفة العطبرة أُعْجَب من خلال أعطافه الرائعة بتوالد خمسة عروق أو ستة عروق، وذلك إلى أن مما يُستحبُّ إهمالُه دراسةَ مثل هذا التوالد في كتابٍ يقوم موضوعه على أمر نهرٍ ولو كنا نبلغ بتلك الدراسة طائفةً من الحقائق.
ومن ناحيةٍ أخرى أرى الشعوب المختلفةَ ألوانًا ذات أهميةٍ في زمن تُعَدُّ فيه لتمثيل دورٍ جديد في حياة النوع البشري، والنيل قد أثَّر في جميع هذه الأمور، وجميعُ هذه الأمور قد أثَّرَت في النيل، ويقوم عملي الوحيد على إظهار الرمز الأكبر الذي يُستخلَص مما يَحُفُّ بالنيل من قَدَر.
وقد قُمتُ برحلاتٍ ثلاثٍ متوالية بين سنة 1930 وسنة 1934 فأُتيح لي بها أن أدرُس جميعَ النيل بأوغندة والسودان، وأن أدرُس النيلَ الأزرق في سَفَرٍ بالقسم الغربي من الحَبَشَة حيث بَلَغتُ منابعه، وأن أدرُس في السودان مجراه الأدنى، وقد اكتفيتُ مضطرًّا برسم مجراه الأوسط بين بحيرة طانة وحدود السودان وفق ما رواه من الأنباء ثلاثة سياحٍ أو أربعة سياح رأوا أجزاءً من هذه البقعة التي لم يَقَعْ رِيادُها تقريبًا، وقد استطعت بفضل ما حَبَتْنِي به حكوماتُ بلاد النيل الثلاث من عنايةٍ ووسيلةٍ أن أنتفع كما أودُّ بالخط الحديديِّ والطائرةِ والباخرة والشراع والبغل والحمار، وقد وَضَعَ الملك فؤادٌ باخرةً تحت تصرُّفنا، وسهَّلَت الحكومة الإنكليزية رحلتنا بشتى الوسائل، وأرفقتْنا الحبشة بحرسٍ عسكريٍ من قلابات.
وقد تمَّ القسم الخاصُّ بالحَبَشَة قبل بَدْءِ النزاع في أفريقية الشرقية.
ومن بين ما لا يُحْصِيه عَدٌّ من المؤلفات الخاصة بمصر انتفعتُ في النصف الثاني من هذا الكتاب ﺑ "تاريخ الأمة المصرية" على الخصوص، بهذا الكتاب الرائع الواقع في أربعة أجزاء، والذي نُشر بإشراف غَبْريال هانُوتُو فأهدى الملكُ فؤادٌ نسخةً منه إليَّ، ومما انتفعتُ به كتابُ مِس و. س. بلاكمن المُمتِع عن فلَّاحي مصرَ العليا، ومما انتفعت به مُذَكرةُ الأمير عمر طوسون المصري عن تاريخ النيل.
وأُعرِب عن شكري لذوي الفضل الذين أعانوني بالنُّصْح حين قراءة النسخة الخطية، وهم مدير حديقة الحيوانات بالخرطوم الميجر باركر فيما هو خاصٌّ بالحيوان، والمركيز جنتيل فارينولا بفاراميستا (توسكانة) فيما هو خاص بالحبشة، والدكتور تكس مايرهوف بالقاهرة فيما هو خاصٌّ بالعرب والتاريخ الطبيعي، وسكرتير حكومة السودان السابق وحاكم تنغانيقة سير هارولد مكمايكل فيما هو خاصٌّ بالسودان، ومفتش الري العام في المملكة المصرية مستر توتنهام فيما هو خاصٌّ بالفراعنة واليهود، فهؤلاء الأفاضل المتخصصون صانوني من طائفة من الأغاليط مع عدم مشاطرةٍ تامة لأفكاري.
وما بقي من الخطأ في هذه الزبدة الجامعة فأتركه، مع ذلك، لمن يبحث عنه من ذوي الاختصاص.
ومعظم صور الكتاب الفوتوغرافية هو من تصوير لهنرت ولندروك بالقاهرة، والصور الفوتوغرافية الأخرى هي من تصوير قوة الطيران الملكي البريطاني بلندن وقراقاشيان وإخوانه بالخرطوم .