لقد وهبت الطبيعة أرض مصر تربة خصبة، وجوًّا صالحًا، وجبالًا زاخرة بالأحجار والمعادن، ونهرًا فياضًا يعم أرضها كل عام، وحيوانًا انتشر في أرجائها، وطيورًا اختلفت أنواعها، كل ذلك هيأ لأهل البلاد أن ينشئوا مدينة منذ أقدم العهود لم تضارعها مدنية في الشرق، ولا في الغرب في تلك الأزمان السحيقة.
وكان أول ما وجه إليه المصري همه زراعة الأرض، وتربية الماشية، ثم إقامة المباني لسكنه، واستثمار الأحجار الصلبة، والمعادن في صناعاته، وحرفه المختلفة التي كانت نتيجة طبيعية لتدرجه نحو الحضارة والعيشة الهنيئة، وفيما يخص الزراعة سيكون محور سلسلتنا إذ هي في الواقع الأساس الأول لحياة سكان وادي النيل.
ولمعرفة الزراعة عند قدماء المصريين، يجب أولًا أن نعرف أنواع الأشجار والنباتات التي كانت تنمو في تربة البلاد، وكذلك النباتات والأشجار التي كان يجلبها المصري من الخارج وينتفع بها في بلاده، بحسب ما قاله عالم المصريات الكبير الدكتور سليم حسن فى موسوعته مصر القديمة.
ومن بين الأشجار التى كان يزرعها الإنسان المصري القديم هى الأشجار الكبيرة، إذ كان المصري منذ أقدم العهود يستعمل خشب الأشجار العظيم في إقامة مبانيه وفي صناعاته، فكان منذ فجر التاريخ وما قبله يصنع سقف مقبرته من الخشب، كما يشاهد ذلك في سقارة، وفي نجع الدير، وكذلك كان يستعمله في بناء السفن، وفي الأدوات المنزلية، غير أن مصر طوال تاريخها لم يكن لديها الخشب الكافي لسد حاجاتها، لذلك لجأت منذ الأزمان السحيقة إلى جلب الأخشاب اللازمة لها من البلاد المجاورة وبخاصة من بلاد سوريا وما جاورها.
وأكثر الأشجار التي وجدناها مرسومة على جدران المعابد المصرية والمقابر لم يتسن تعرفها وتمييزها بصفة قاطعة في كثير من الأحيان. وذلك لأنها كانت ترسم دائمًا بصورة مختصرة. وأهم ما عرف منها على وجه التأكيد ما يأتي:
"السنط" ، فعثر على أجزاء منه في عصور ما قبل التاريخ، وبخاصة في البداري، وفي العصر التاريخي من عهد الأسرة الثالثة، والأسرة الخامسة، ثم في الأسرة السادسة، وكان يجلب من «حتنوب»، وقد عثر على رسم شجرة سنط في عهد الأسرة الثانية عشرة في مقابر بني حسن، وكان خشبه يستعمل في بناء السفن الحربية، والقوارب، كما يستعمل الآن في مصر لهذا الغرض، وكان يجلب كذلك من بلاد «وولت» بالنوبة. كما كان زهر السنط يدخل ضمن صناعة أكاليل الموتى، وثماره المعروفة بالقرض كانت تستخدم في الطب، وبعض الصناعات الأخرى كالدباغة.
و"النخيل"، فقد عثر على بقايا من جذوع النخل في مصر منذ العصر الحجري القديم العلوي في الواحة الخارجة، والواقع أنه كان يزرع في مصر منذ أقدم العهود، وكانت تستعمل جذوعه في السقف، وقد عثر على سقف مقبرة من فلوق النخل في سقارة، يرجع عهدها إلى الأسرة الثانية، أو الثالثة، وكذلك عثر على سقف من الحجر مقلدة عليه جذوع النخل في حفائر الجامعة بمنطقة الأهرام بالجيزة في مقبرة «رع ور» من الأسرة الخامسة، وفي مقبرة من الأسرة الرابعة، وفي مقبرة «فتاح حتب» بسقارة.