حطت بنا الطائرة فى مطار بانكوك قادمة من سنغافورة التى كانت محطتنا الرئيسية فى هذه السفرة، وذلك لحضور مؤتمر روتينى، بعد انتهاء أعمال المؤتمر قررنا - زميلى وأنا - أن نقضى بضعة أيام بالعاصمة التايلاندية قبل عودتنا للقاهرة من أجل الاستجمام ومن أجل التبضع والشراء، حيث إن الأسعار فى سنغافورة كانت «نار».
لم تكن هذه هى زيارتى الأولى للمدينة، فقد حللت بها عدة مرات كان آخرها فى نهاية الثمانينيات من القرن الماضى. من الواضح أن تغيراً كبيراً قد طرأ على البلد، يمكن أن تلمسه ما أن تطأ قدمك صالة المطار، النظافة التى كانت مفتقدة صارت ملمحاً واضحاً، كذلك النظام تطورت مظاهره بشكل ملحوظ. الذى لم يتغير هو الابتسامة التى يلقونك بها فى كل مكان.. لا أدرى لماذا قارنت بين الابتسامة السنغافورية، وبين الابتسامة التايلاندية.. ما يجمع الاثنين هو الأدب الآسيوى الشهير، لكنهم فى سنغافورة يقدمونها بعد أن امتلأت نفوسهم بقدر كبير من الرضا والإحساس بالأمان أما فى تايلاند فالابتسامة هى مقدمة لعقد صفقة.. إما صفقة بيع ملابس أو أى منتجات، أو صفقة تأجير امرأة!
ما إن تخرج من المطار وتصير فى الشارع بجوار موقف التاكسى إلا ويقفز إليك شخص مبتسم يمد يده داخل جيبه، ويستخرج الكتالوج. لا أحد تقريباً يخلو جيبه من الكتالوج.. ليدى سير؟ هل تريد ليدى؟ ثم يبدأ فى إطلاعك على كل الصور لديه. أغرب ما فى الأمر أنهم يسمّون بنات الهوى الحرام «ليدى» !!. تشكره وتركب التاكسى فيفاجئك السائق ويستخرج كتالوجه الخاص، ثم يغمز لك بعينه ويناولك الصور.. هذه تايلاندية وهذه هندية، لدينا فرنسيات وأمريكيات وأفريقيات، كذلك عربيات وإيرانيات وأتراك، وإذا أردت سويدية نحضرها لك.
لم يكن المشهد السابق يثير دهشتى حيث طالعته كثيراً فى زياراتى السابقة. لكن الذى أصابنى بالدهشة، بل قل بالذهول هو رفيقى فى الرحلة سيادة السيناتور، والسيناتور هو اللقب الذى كنت أناديه به، لأنه كان عضواً بمجلس الشعب وقتئذ عن دائرة بوسط الدلتا.
قلب السيناتور يدق ظل السيناتور فاغراً فاه منذ ركبنا التاكسى، وقد أخذ جولة مستفيضة داخل الكتالوج وشعرت بقلبه يدق، وأنفاسه تتهدج ثم قال لى وهو يقطب جبينه ويناولنى الكتالوج: أعوذ بالله من غضب الله!.. نظرت إليه فرأيت عينيه تلمعان بالحماس والحمية!.
قلت له: اوعى يا سيناتور تفكر فى التجربة. قال لي: لا طبعاً أنا فقط آخذ فكرة من باب العلم بالشىء. وصلنا الفندق فى قلب العاصمة، وقد اخترناه صغيراً ونظيفاً، استقبلنا صاحبه بابتسامة، وكان يرتدى عمامة السيخ المعروفة، وقدم لنا مشروب الضيافة، وقفنا نتحدث معه وكانت تجاوره زوجته وطفله الصغير.. قدم لنا نصائحه بخصوص الأماكن التى يتعين زيارتها، وعرض علينا رحلة إلى شاطئ باتايا الشهير، ولم ينس أن يمنحنا الكتالوج الخاص به ويحوى صور الفتيات فى نطاق نفوذه شكرناه وانصرفنا للصعود.
دخلت غرفتى، وبعد قليل فوجئت بالسيناتور يقرع الباب بشدة، فتحت له فاندفع للداخل وهو ممتقع وقال فى انزعاج واضح: غير ممكن، غير معقول.. لا يمكن أن يكون هذا حقيقياً، قلت له: لقد أفزعتنى ما الأمر يا عم السيناتور؟ قال: الرجل صاحب الفندق ذو اللحية والعمامة، قلت: ماله؟ قال: بعد أن دخلت غرفتى طرق الباب وقدم لى عرضاً أخبرنى بأنه لا يقدمه لأحد أبداً، وأخبرنى أن وجهى الطيب وأخلاقى الدمثة هو ما شجعه على أن يعرض علىّ زوجته، مع أنه لا يفعل هذا أبداً! غرقت فى الضحك وقلت له: رويداً يا سيناتور هون على نفسك ولا تنفعل، لقد صدمت مثلك عند زيارتى الأولى، لكننى بعد ذلك فهمت أن الاختلاف الثقافى فيما بيننا وبينهم هو الذى يجعلنا نجفل، ونذعر من هذه العروض بينما هم يقدمونها بمنتهى الهدوء، هم لا ينظرون إلى الجنس نظرتنا إليه، والديانات التى ينتمون إليها لا تحرم الممارسات الجنسية، لكن العامل الأساسى فى انتشار الدعارة هنا هو الفقر المدقع وانتشار الفساد.
حمام تركى
عاد السيناتور إلى غرفته واستسلمت للنوم، وفى الصباح الباكر استيقظت على جرس تليفون منه، قال لى: لم أنم ولا دقيقة واحدة، وظللت أحملق فى السقف حتى طلع النهار.. هيا نخرج، قلت له: ما زال الوقت مبكراً وأريد أن أنام، قال لى: لا أريدك أن تتركنى وحدى، لأن الأفكار السيئة تغزو رأسى، تعال ننزل نفطر ونتفرج على المدينة.
فى آخر الليل، ونحن فى طريقنا للعودة لمحت صديقى السيناتور يتطلع إلى واجهات المحال فى شغف، قلت له: هل تبحث عن شىء، قال: أوصانى أصدقائى قبل السفر بضرورة أخذ حمام تركى، وضرورة عمل مساج، وإلا اعتبرت الزيارة كأن لم تكن، قلت له: يعنى أنت تخشى أن يفوتك ثواب الزيارة إن لم تقم بعمل حمام ومساج؟ قال: الله ينور عليك، قلت له: بسيطة يا عم السيناتور، أنت تقف تماماً أمام محل لهذا الغرض. دخلنا إلى المحل الكبير وخف لاستقبالنا أحد الموظفين.. طلباتكم؟ قال السيناتور: مساج، نريد مساج، دخل بنا الرجل إلى صالة فسيحة، وأضاء النور، فوجدنا عدداً كبيراً من الفتيات ينهضن واقفات، وكن جلوساً قبل أن ندخل، قال لنا الرجل: ليختر كل منكما الفتاة التى يريدها أن تحممه وتعمل له المساج، قلت للسيناتور: اختر يا إكسلانس على راحتك، أما أنا فسأنتظرك فى الكافيتريا لأننى لا أريد مساجاً أو حماماً.
قال: كما تريد لكن على الأقل ساعدنى فى الاختيار. قلت له: وهل هناك فرق انتق أى واحدة وخلاص، ثم أردفت محذرا: خذ بالك يا صاحبى مساج فقط، فى اليوم التالى قمنا بزيارة أحد المعابد البوذية.. أتى معى وهو متضرر، كان يريد أن يصحو من النوم فيعود إلى محل المساج من جديد، كنت حازماً معه ونهرته بشدة لأنى خشيت عليه من نفسه، لكنه غافلنى فى المساء وذهب وحده، وعاد قرب الفجر.
فى الصباح كنت قد حزمت حقائبى، لأن رحلتنا للقاهرة باق على موعدها بضع ساعات، ذهبت إليه فوجدته نائماً، فتح لى الباب وعاد للنوم. قلت أستحثه: يا سيناتور الطائرة ستفوتك، هيا استيقظ، ففتح نصف عين وقال: لن أسافر معك اليوم، لقد قررت أن أمضى أسبوعاً آخر هنا، وسأذهب إلى شاطئ «باتايا» وقد قاموا بعمل الحجز لى، قلت له: من هم الذين قاموا؟ قال: صديقتى فى محل المساج. قلت له: مايك تايسون؟ قال: نعم ثم أردف.. أشوف وشك بخير
وقام فمنحنى حضناً ميكانيكياً سريعاً وعاد للنوم.
عدت لمصر ولم يفارقنى القلق عليه، وكنت أسأل عنه فى عمله فيخبروننى أنه لم يعد بعد.
بعد شهر علمت أنه عاد فاتصلت به فقال لى إنه بخير، لكن صوته لم يكن ينبئ بهذا، طلبت منه أن يخبرنى بما حدث فى رحلته بعد أن تركته، فلم يشأ أن يتحدث فى الأمر. لم تمض بضعة أسابيع حتى قرأت نعيه فى الصحف، وما زلت حتى الآن أجهل سر الشهر الذى قضاه فى تايلاند بعد افتراقى عنه.. رحمه الله.
لمعلوماتك..
◄ تايلاند هى مملكة فى جنوب شرق آسيا، تحدها كل من لاوس وكمبوديا من الشرق، وخليج تايلاند وماليزيا من الجنوب، وبحر أندمان وميانمار من الغرب، تعرف تايلاند باسم «سيام» أيضا، وقد كان اسم البلاد الرسمى حتى تاريخ 11 مايو 1949م، وعاصمتها بانكوك ويبلغ عدد سكانها 6 ملايين و355 ألف نسمة.
◄ 514 ألف كيلو متر مربع المساحة الكلية لتايلاند.
◄ 5% نسبة المسلمين فى تايلاند، ينتشرون فى مناطق الجنوب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة