امرأةٌ على بيسيكليت، تقبضُ على مِقْوَدها بيمناها، وباليسرى ترفع مظلةً فوق رأسها، وفي السلةِ حقيبةُ يدها. هذا مشهدٌ مألوفٌ في أنحاء أوربا. ويسألني معتز الدمرداش في برنامج «90 دقيقة»: «يعني المرأة في مصر بيتحرشوا بيها وهي ماشية على رجليها، برأيك لو ركبت عَجَلة حيحصلها إيه؟« كنتُ تأخرت عن برنامج الهواء نصف ساعة بسبب الزحام، فبادرني سائلا: «برأيك ما حل أزمة المرور بمصر؟» ولما أجبته أن الحل هو العَجَل أسوةً بالصين وأوربا، فاجأني بالسؤال السابق. وإجاباتي أن كل سلوك إنسانيّ هو ثقافة تراكمية.
الإيجابيّ منه والسلبيّ. نعم، سيسخرُ الناسُ من فكرة ركوب الدرّاجات أول الأمر، لكنْ لو تبناها البعضُ بإصرار ودون خجل ستصبحُ ظاهرةً، وبعد زمن تغدو ثقافةً وعادة. أنا أتسوّق وأتجوّل في الحي الذي أسكنه بالدراجة. في البدء كانت نظراتُ استهجان، امتصصتُها ببرود. تحول الاستهجانُ مع الوقت دهشةً، ثم غدا الأمرُ اعتيادا. والحقُّ أن الدراجات في الرحاب ترقى لأن تكون ثقافةً وظاهرة، نظرا لجغرافيّة المدينة، وانتشار الجاليات الأجنبية، لكن المصريين، سيما النساء، مازلن يخجلن من الأمر. رغم أن نساء مصر حتى الستينيات الماضية كن يركبن دراجات عادي جدا! أيام ما كانت مصر جميلة!
الدراجاتُ ستحلُّ أكثرَ من أزمة تواجهها مصرُ الراهنة الحزينة: تكدّس السيارات في الشوارع، محنة صفِّ السيارة، غلاء البنزين وغلاء المواصلات، حوادث السير، كارثة التلوث، والكلُّ يعلمُ أن القاهرة مُدرجةٌ على رأس قائمة «أكثر المدن تلوثا وازدحاما في العالم.» والأجمل من كل هذا أنها رياضةٌ تحقق الرشاقةَ والصحةَ وتنظمُ عمليةَ التنفس، كذا تتيحُ للإنسان التواصلَ أكثر مع الطبيعة والهواء والشمس على نقيض المترو الخانق والأتوبيس المُهين كرامةَ الإنسان، أو حتى السيارة الخاصة، تلك الشرنقة التي تسجن نفسك بها، ثم تتحول إلى عبء ثقيل حين تصل إلى عملك.
يحنقُ المرءُ على سيارته ويكرهها حين لا يجد مكانا «يركنها» فيه، وربما فكّر في تركها في الشارع والركض بعيدا عنها. أنا مررت بذلك. واقترحتُ في البرنامج أن تُخصصَ حارةٌ ضيقةٌ في كلِّ شارع للدراجات، مثلما في أوروبا. لكن صديقتي، زميلة هندسة عين شمس، تهاتفني الآن وتطالبني أن أتبني فكرة تعميم ثقافة العجل والكتابة عنها من أجل تحريك الرأي العام لمؤازرتها. ثم قدّمتْ اقتراحا أجمل وأيسر وأكثر عملية.
أن تتحول مساراتُ المترو إلى حاراتٍ للدراجات. مترو مصر الجديدة، الذي لم يعد يركبه أحد، يمتدُّ من مساكن شيراتون حتى ميدان التحرير. يعني يغطي معظم القاهرة. حكت لي أيضا أنها رأت سيدة «منقّبة» على دراجة. استوقفتها الشرطةُ واستجوبتها. ولما تأكدوا أنها امرأةٌ وليست إرهابيا مُتخفيا، أطلقوا سراحها ولم تزل نظراتُ الدهشة تغمر وجوهَهم. صافحتْها صديقتي وحيتها على جسارتها.
أما البنوتة الجميلة «ليلى»، فتخجل أن تذهب إلى الكلية على دراجتها. رغم أن المسافةَ من بيتها للأكاديمية البحرية، حيث تدرس، عشرُ دقائق فقط. تقول: «أصحابي بيتريقوا عليّ!». وهنا المحنة!
ليست المحنةُ في سخرية الآخر منّا، المحنةُ في اهتمامنا بتلك السخرية وبناء سلوكنا تبعا لذلك! ما هي حدود تعاملنا مع «الآخر»؟ لَكَمْ نحن شكلانيون جدا! نهتم برأي الآخر في ملبسنا ومظهرنا وشكلنا، ومع هذا لا نعطيه حقوقه الحقّة! «للآخر» علينا حقوقٌ أهمُّ وأعمقُ من ملبسنا ومركبنا! حقُّ «الآخر» عليّ أن أساعده وألا أؤذيه. أن احترمه فلا أزعجه بصريا أو سمعيا أو خُلقيا أو مهنيا. أن أؤدي عملي صح لأن عملي ينعكس على «الآخر» رأسا. إن كنتُ طبيبا أعالج «الآخر» صح، وإن كنتُ مهندسا أبني «للآخر» بيتا لا ينهدم فوق رأسه.
وإن كنتُ تاجرا لا أحتكر السلعّ ولا أستغلُّ «الآخرَ» ولا أسرقه. وهلم جرا. تلك هي حقوق «الآخر» عليّ وواجبي نحوه. ولا شيء آخر. لكن لِمَاذا أستعيرُ عيونَ «الآخر» لأرى نفسي وملبسي وما أركب؟ لماذا أجعلُ «الآخرَ» يحرمني حقوقي ومُتعي البسيطة من ركوب عجل أو باتيناج أو الركض في الشارع أو الجلوس على الرصيف أو حتى تطيير بالونات وطائرات ورقية! عيب؟ العيب هو العيب. هو السرقة والكذب والإهمال والكسل والغش والفساد. قيل إن حريةَ التلويح في الهواء تقف عند أنوف الآخرين. وهذا حق.
نحن، من أسف، نتواطأ مع «الآخر» على أنفسنا ونعذبها هباء. ومع ذلك لا نحترم هذا «الآخر» ولا نعطيه حقه كما أمرنا الله. نشتغل «نُص نُص»، ونستمتع بالحياة نُص نُص، ونعيش نُص نُص. لذلك نتأخر. الغربُ يتقدمون لأنهم عكس ذلك. يعملون بجد، ويعيشون بجد. فقط لأنهم يدركون جيدا حقوق «الآخر» وواجبه.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة