من بين ظلام الستينات الدامس تطل علينا مكالمة هاتفية مسجلة أجراها من منزله المحاصَر مَن كان حتى أيام قليلة، خلت يقبع على قمة جهاز المخابرات العامة فى مصر، صلاح نصر، برئيس تحرير الأهرام آنذاك، عقل عبد الناصر الإعلامى، محمد حسنين هيكل، هذا نصها كما ورد على الشريط المسجل، وهذه هى مدرسة «شبّاكنا ستايره حرير».
آلو!.. الأستاذ هيكل موجود؟!
أيوه، مين عاوزه؟
صلاح نصر.
…………
آلو!
أيوه.. أهلاً وسهلاً، سألت عليك الصبح، قالولك واللا لأ؟
أيوه، قالولى.. وانت إزيك وإزاى صحتك دلوقت؟
الحمد لله، بس أنا ليّه عتاب عليك..
بس أنا عايز أقولك حاجة.. أنا عارف إن يمكن يكون لك عليّ عتاب..
أنا عارف إنك رجل حر.. اسمع بس كلامى.. واحد بيكلمك من المعتقل..
لا لا.. أنا عايز أقولك حاجة قبل الكلام، أرجوك تفرّق بين كتابة الخبر وصنع الخبر.. إنت راجل عشت فى الحكم فترة طويلة.
طيب ما أنا عارف.
طيب خلاص، أهو ده، بعد هذه اللحظة أنا ما عنديش حاجة أقولها.
أنا يهمنى الحقيقة، واخد بالك؟! وأنا عارف إنك رجل حر ولا يهمكش إلا الحقيقة، أنا راجل دلوقتى محبوس ومش قادر أتكلم ولا أدافع عن نفسى - طيب يسيبونى أتكلم، وهل اللى نُشر ده كلام رسمى واللا كلام صحافة؟!.
طيب، حاقولك حاجة.. إحنا لما نشرنا.. يعنى.. أنا لما عرفت إنك سألت علىّ رحبت جداً، قلت علشان أحط قدامك الفرق بين إن خبر ينكتب وإن حد ينشر خبر، أقصد فرق بين صنع الخبر ومصدر الخبر بغض النظر عن الحقيقة إيه وده فين وكل ده.. بس بالنسبة للصحافة يعنى محناش.. مش من عندنا الكلام ده.
خلاص حاقول إيه ما دام مش من عندك.. خلاص، هل لى الحق فى أن أرد عليه؟ واللا ما ليش حق؟!.
حاقولك حاجة، إن جيت ترد أنا مستعد أن أنشر الخبر، لكن إن وقفته الرقابة طبعاً حاقولك وقفته.
معلهش، تسمحلى أبعت لك الرد على كل ما نُشر عنى فى الأهرام؟!
بالعكس.. بترجاك.. بالعكس، ريحنى
خلاص حابعته لك ولو رفضوا نشره معلهش.
خلاص.
أشكرك.
العفو.
متشكر قوى
محوران رئيسيان تبسطهما للنقاش هذه المكالمة الهاتفية التى أراها بالغة الأهمية فى مجال دراسة العلاقة بين واقع الصحافة العربية، من ناحية، وواقع السياسة العربية، من ناحية أخرى. فأما على المحور الأول، محور العمل المهنى الصحفى، فإن أشهر صحفى عربى فى تلك الفترة، وربما إلى الآن، يرجونا، فى صورة أشهر رجل مخابراتى، أن «نفرق بين كتابة الخبر وصنع الخبر»، وذلك فى محاولة لتبرئة نفسه وإثبات أنه مغلوب على أمره، ولا يوجد لدينا ما يدعونا إلى الشك فى ذلك، خاصةً فى ظل ما كانت تعتمل به القاهرة فى تلك الأيام السوداء من صراع بين فريق جمال عبد الناصر وفريق عبد الحكيم عامر فى أعقاب ما اخترع له هيكل وصف «نكسة 5 يونيو 1967».
ورغم ما فى هذا الرجاء من تأكيد عملى سافر لما نلاحظه جميعاً ولما يدور فى صدر المواطن العربى من شكوك ويوحى به بعض المنظّرين على استحياء، فإننا نقف أيضاً أمام مجموعة من الاستنتاجات المرتبطة أشد الارتباط بواقعنا الراهن، ومن أهمها أن الذى كان على رأس أقوى مؤسسة صحفية فى العالم العربى يثبت لنا، ولخلفائه فى الأهرام وغيرها من الصحف الرسمية وشبه الرسمية فى العالم العربى، أنك يمكن أن تكون صحفياً »أقل من أمين« وأحياناً «بلا أخلاق»، بحجة أنك مغلوب على أمرك، وتكون فى الوقت نفسه «صحفياً محترماً» يتمتع بلقب «الكاتب الكبير»، وبعبارة أخرى: لا توجد بالضرورة فى العالم العربى علاقة مباشرة بين الإلمام بمهنة الصحافة واحترام قيمها، من ناحية، وصعود نجمك الصحفى، من ناحية أخرى، بل إن العكس، كما يوحى به كلام هيكل، أقرب إلى الواقع.
وأما على المحور الثانى فإننا نفهم ضمناً الأهمية القصوى التى أولاها نظام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر للصحافة، فأدمجها فى صلب أدوات السلطة حتى جعل منها دمية يحركها مساعدوه عبر الهاتف، وهم الذين اجتهدوا كثيراً فى محاولة إيهامنا بأنها «السلطة الرابعة»، وأنها «صاحبة الجلالة»، ورغم صحة ذلك من الناحية النظرية، فإن الواقع الجديد الذى جاء به نظام عبد الناصر رسم للمشتغلين بمهنة الصحافة فى كل أرجاء الوطن العربى، الأسس التى ينبغى من خلالها أن يفكروا فى أنفسهم، وفى السلطة وفى الشعب وفى العلاقات التى تربط بين أضلاع هذا المثلث، هكذا يصبح الحاكم رئيساً لمجلس إدارة المؤسسة الصحفية، ويصبح رجل الاستخبارات رئيساً للتحرير، وهكذا يصبح ظلهما فى المؤسسة ملماً بفنون العمل الصحفى قادراً على التفريق بين «كتابة الخبر، وصناعة الخبر» لكنه فى الوقت نفسه من «الذكاء» بحيث يدرك أن من «مصلحة البلاد» أن تكون أقل من أمين لمهنتك، وأن تكون أحياناً بلا أخلاق وأنت تدرى.
وقبل هذه المكالمة الهاتفية بأسابيع قليلة كان أحمد سعيد يمتشق «صوت العرب» كى يعلن أثناء اكتساح الإسرائيليين أرض سيناء «، أننا حاصرناهم فى المحور الأوسط»، وهو يعلم - أو لا يعلم - أنه يكذب، فتقوم كتيبة من الضباط والجنود المصريين المنسحبين عبر المحور الجنوبى بتغيير مسار انسحابها إلى اتجاه المحور الأوسط، فلا تجد إلا إسرائيليين. استقبلهم هؤلاء على الرحب والسعة فنكلوا بمن نكلوا منهم وأسروا من تبقى، كما يشهد جانب من أسرى مصر الذين التقيت بهم. وبعبارة أخرى: يتحمل صاحب «صوت العرب» المسئولية المباشرة عن وقوع أكثر من مائة ضابط وجندى مصرى، انقطعت سبل اتصالاتهم بالقيادة، فى أيدى الإسرائيليين.
ورغم أن تحقيقاً فى مثل هذه الواقعة، التى تكررت فى تغطية وسائل «الإعلام» لمجريات الأحداث بشكل عام، ربما يثبت فى النهاية أن صاحب «صوت العرب»، كغيره من «كبار الصحفيين»، لم يكن فى الواقع سوى «العبد المأمور»، فإن لأستاذنا المرحوم صبرى سلامة، وهو أحد أعلام الإذاعة الأحرار الذين أعتز بهم، وصفاً طريفاً لفلسفة العمل الإذاعى التى استحدثها نظام عبد الناصر فى صورة «صوت العرب»؛ إذ يسميها «مدرسة شِبّاكْنا ستايره حرير»، وحين ينظر الطالب منا إلى زميله فى دهشة يقوم هو بتقريب ميكروفون مدرج المحاضرة إلى فمه، ثم يقترب منا وينطلق زاعقاً بأعلى صوته كأنه يخوض حرباً: «أيها الأخوة العرب.. فى كل مكان.. من المحيط إلى الخليج.. والآن.. بعد أن استمعنا إلى موجز لأهم الأنباء.. من قلب العروبة النابض.. نقدم لكم المطربة شادية.. فى أغنية.. شِبّااااكْنا ستاااايره حرير».
فى هذا المناخ «الإعلامى» - الذى تراه وقتها صلداً، وتراه الآن هزلاً، وتراه فى كل العصور امتهاناً لكرامة الإنسان - دخل التليفزيون إلى مصر عام 1960، وكان قد سبقها إلى لبنان، ومن ثم إلى بقية الوطن العربى، فلماذا يكون استثناءً؟!.
من سوء حظ العمل الصحفى، مقروءاً ومسموعاً ومرئياً، أن له - بطبيعته البحتة - تأثيراً فى الجماهير، وهذا لب ما تريده السلطة، أى سلطة، سواء للحق أو لغير الحق. ومن حسن حظ العمل الصحفى، مقروءاً ومسموعاً ومرئياً، أن له بطبيعته البحتة تأثيراً فى الجماهير، وهذا لب ما تخشاه السلطة، أى سلطة، سواء عن حق، أو عن غير حق.
لكن الأمر لا يقتصر على مجرد مشيئة السلطة مبرراً كافياً، يمكن له وحده تفسير الواقع الصحفى الذى يعيشه اليوم المواطن العربي، فرغم أن مواطن اليوم أوفر حظاً من مواطن الأمس -، الذى لم يكن لديه طبق يأتى له بالفضائيات، وقبلها لم تكن لديه صحف تخرج أحياناً عن الخط الرسمى، وقبلها لم يكن لديه ترانزستور يأتى له بهيئة الإذاعة البريطانية - فلا يزال قرابة نصف العرب جهلة، أميين، لا يعرفون القراءة والكتابة، وهو أمر يصب مباشرةً فى مصلحة سلطة هدفها الأول والأخير البقاء فى السلطة، ولا تزال الثقافة العربية الشفهية فى أساسها عاجزة عن تطويع مقتنياتها «الجميلة»، أمام مقتضيات عصر عملى علمى فى أساسه، وهو ما يصب مباشرةً فى مصلحة سلطة هدفها الأول والأخير البقاء فى السلطة، ولا يزال عدد الراغبين فى التخلى عن منافعهم الراهنة فى مقابل آمال غير مضمونة، أقل من عدد القادرين على ذلك، وهو ما يصب مباشرةً فى مصلحة سلطة هدفها الأول والأخير البقاء فى السلطة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة