◄مصر يحكمها حزب رأس مالى يسعى لتأكيد اقتصاد السوق ولا يجوز للحكومة تملك وسائل الإعلام
◄هناك تياران داخل الحكومة.. الأول يطالب ببيع المؤسسات الصحفية والتخلص من عبئها والثانى يرفض
لا جديد فى إعلان وزير الاستثمار د.محمود محيى الدين أن المؤسسات الصحفية القومية العشر، المملوكة لمجلس الشورى، ليست من بين الوجبة الأخيرة من شركات قطاع الأعمال التى تسعى الحكومة لاستصدار قانون بخصخصتها، بالتنازل عن نصيبها فى ملكيتها إلى المواطنين، على شكل صكوك ملكية قابلة للتداول فى البورصة.. إذ كان واضحا منذ شرعت الحكومة فى تطبيق سياسة تصفية القطاع العام فى الاقتصاد، أن محطة الصحافة والإعلام، ليست من بين المحطات المقرر أن يقف عندها قطار الخصخصة، انطلاقا من رؤية ثابتة ترى أن المؤسسة الإعلامية، هى مؤسسة سيادية، تعمل فى مجال الأمن القومى، وتساهم فى الحفاظ على الاستقرار، لا تجوز خصخصتها، إلا إذا جاز خصخصة المؤسسات التى تشاركها فى القيام بهذا الدور وعلى رأسها القوات المسلحة والشرطة.
والمراجعة السريعة لتصريحات المسئولين خلال السنوات الأربع الأخيرة، التى زاد خلالها قطار الخصخصة من سرعته، تكشف عن أن هناك اتجاهين داخل النظام الحالى بشأن مستقبل الإعلام الحكومى، يطالب أولهما بنقل ملكية محطات الإذاعة وقنوات التليفزيون والصحف القومية إلى القطاع الخاص، ويستند فى ذلك إلى مبررات كثيرة، تبدأ برصد الخسائر المتوالية التى تحققها المؤسسات الصحفية القومية، والتى تقدر بما يقرب من ستة مليارات جنيه، وتنتهى بأن تملك الدولة لوسائل الإعلام يرتبط بالنظم الشمولية، وبأن حرية إصدار الصحف وتملك وسائل الإعلام، هو مبدأ أساسى فى النظم التى تقوم على اقتصاد السوق الحرة، وبأن سيطرة الدولة المصرية على وسائل الإعلام كانت الوجه الآخر لسيطرتها على وسائل الإنتاج، أما وقد انتهت سيطرتها على الاقتصاد، فمن البديهى أن تنتهى سيطرتها على وسائل الإعلام.
ويصر الاتجاه الثانى على احتفاظ الحكومة بما تملكه من مؤسسات إعلامية باعتبارها أداة رئيسية للتوجيه القومى، تشكل اتجاهات الرأى العام، مما يضع فى يد من يتملكها - فى حالة خصخصتها -قوة تأثير بالغة، لا يمكن الاطمئنان إلى أنه لن يستغلها لخدمة مصالح أجنبية، أو
على الأقل لخدمة مصالحه الخاصة، على حساب المصالح الوطنية العامة.
ولايقتصر الخلاف حول مستقبل الصحف ووسائل الإعلام، على أجندة النظام القائم، سواء داخل الحزب الحاكم أو الحكومة، أو المجالس التشريعية، بل هو يمتد إلى المجتمع المدنى والسياسى، الذى ينقسم - كذلك إلى اتجاهين، ربما كان أقواهما صوتا، هو الاتجاه الذى يتمسك بالحفاظ على المؤسسات الصحفية القومية فى إطار الملكية العامة، وهو اتجاه تتبناه نقابة الصحفيين، وتؤكده مقررات المؤتمرات العامة للصحفيين التى عقدت فى أعوام 1991 و1996 و2004.
وينطلق الصحفيون فى دفاعهم عن بقاء هذه المؤسسات فى إطار ملكية الدولة، من موقف نقابى محض، فهى مؤسسات مستقرة، وتضمن الحكومة دفع مرتبات العاملين فيها، حتى لو كانوا يعملون فى مؤسسات خاسرة، تعجز عن تدبير هذه المرتبات، فضلاً عن حقوق وضمانات تكفلها لهم، من حيث الأجور والعلاوات والترقيات والإجازات والعلاج المجانى، ونسبة سنوية من الأرباح، ومكافآت نهاية الخدمة.
وتضم جبهة المدافعين عن بقاء المؤسسات الصحفية القومية فى حوزة الحكومة، فضلا عن أعضاء نقابة الصحفيين، الذين يصل عددهم إلى ما يقرب من خمسة آلاف، يعمل 85 % منهم فى الصحف التى تصدرها تلك المؤسسات آلاف أخرى من الإداريين وعمال الطباعة والعاملين فى المجالات الفنية ذات الصلة بإصدار الصحف، وآلاف ممن يعملون فى شركات التوزيع والإعلان التى أنشأتها هذه المؤسسات، تضمهم نقابة العاملين فى الصحف والإعلام، يدفعهم للحرص على بقاء الأوضاع على ما هى عليه فى جبهة الصحافة القومية، هواجس مشروعة، من أن يحيق بهم، ما حاق بغيرهم من شركات قطاع الأعمال العام، فيفقدون الحصانات التى يتمتعون بها، فى ظل الأوضاع الحالية وعلى رأسها تحصينهم ضد الفصل، وضد الإحالة المبكرة على المعاش، وتتقلص الامتيازات التى يحصلون عليها، فى ظل الملكية الحكومية، التى لا صاحب لها ولا رقيب على أموالها.
وعلى الرغم من أن أحزاب المعارضة، تكاد تتفق جميعها على معارضة جوانب من برنامج الخصخصة التى تتبعها الحكومة، تصل لدى بعضها إلى الاعتراض عليها من حيث المبدأ، كما أنها تكاد تتفق جميعها على أن إطلاق حق إصدار الصحف بمجرد الإخطار، وحق تملك أجندة الإعلام، هو أساس الديمقراطية، وعلى أن الصحف القومية - بأوضاعها الراهنة - تستخدم كمنابر للدعاية للحزب الحاكم وحكوماته، وتدار بطريقة حزبية، إلا أنها لا تكاد تملك رؤية واضحة تجاه مستقبل هذه الصحف، على نحو يمثل دعماً غير معلن للاتجاه الداعى إلى بقاء الوضع على ما هو عليه!.
وتعود قصة المؤسسات الصحفية القومية، إلى أغسطس عام 1952، حين قرر مجلس قيادة الثورة إنشاء مجلة نصف شهرية، تنطق بلسانه وتدافع عن سياساته، وتصدر عن إدارة الشئون العامة بالقوات المسلحة هى مجلة «التحرير».. وفى ديسمبر 1953، قرر المجلس أن يؤسس داراً صحفية باسم «دار التحرير للطبع والنشر» تمتلكها «هيئة التحرير» - وهى التنظيم السياسى الوحيد آنذاك - وتصدر عنها المجلة - التى تحولت إلى أسبوعية وجريدة يومية هى «جريدة الجمهورية» وفيما بعد تعددت الصحف التى تملكها «هيئة التحرير»، وانتقلت ملكيتها إلى «الاتحاد القومى» - الذى حل محلها كتنظيم سياسى وحيد عام 1957- كان من بينها «الشعب» و«المساء» فضلاً عن الصحف المصرية التى تصدر بالإنجليزية والفرنسية، وكانت تصدر عن شركات الإعلانات الشرقية، التى يملكها «آل أبوالفتح» وصودرت بقرار من «محكمة الثورة».
وفى 24 مايو 1960 صدر «قانون تنظيم الصحافة» الأول، الذى نقل ملكية المؤسسات الصحفية الأربع الكبيرة آنذاك - وهى «الأهرام» و«أخبار اليوم» و«دار الهلال» و«دار روزاليوسف» إلى «الاتحاد القومى»، وتتالت بعد ذلك القرارات التى تضيف مؤسسات صحفية أخرى، إلى ما يملكه «الاتحاد الاشتراكى العربى - الذى حل محله «الاتحاد القومى كتنظيم سياسى وحيد - وانتقلت إليه ملكية «دار الشعب» - التى كانت تصدر جريدة بهذا الاسم توقفت عن الصدور - و«وكالة أنباء الشرق الأوسط» - وهى وكالة أنباء حكومية تأسست على صورة شركة تملكها الدولة عام 1957 - و«مؤسسة دار التعاون للطبع والنشر»، التى تأسست فى الخمسينيات كجمعية تعاونية للنشر والطبع تملكها الجمعيات التعاونية للإصلاح الزراعى، وتصدر عنها عدة صحف أسبوعية، ثم «الشركة القومية للتوزيع» وهى إحدى شركات القطاع العام، تحتكر توزيع الصحف والمطبوعات خارج مصر، وأخيراً «مؤسسة أكتوبر دار المعارف» التى تأسست عام 1976، بفصل «دار المعارف» عن مؤسسة «الأهرام»، لكى تصدر عنها مجلة أسبوعية تحمل اسم «أكتوبر» ليكتمل بذلك عدد المؤسسات الصحفية إلى عشر فى عين العدو.
وكان هذا العدد الذى توجه ضده قانون تنظيم الصحافة الأول، عند صدوره عام 1960، تمييزا له عن قانون تنظيم الصحافة الثانى، القائم الآن والذى صدر عام 1996، هو - كما جاء فى المذكرة التفسيرية للقانون - «سيطرة رأس المال على وسائل التوجيه الاجتماعى والسياسى، كما قد يجنح بهذه الوسائل إلى انحرافات قد يكون لها أثرها الخطير على سلامة بناء المجتمع» مما يتطلب - كما قالت المذكرة - «نقل ملكية إدارة التوجيه الأساسية وهى الصحافة إلى ملكية الشعب، لأن ذلك - فضلاً عن أنه العاصم الوحيد ضد الانحرافات - هو الضمان الثابت لحرية الصحافة الحقيقية، بمضمونها الأصيل، وهى حق الشعب فى أن يتابع مجريات الحوادث والأخطار وحقه فى إبداء رأيه فيها وتوجيهها بما يتفق وإرادته».
أما وقد تحددت - كما أضافت المذكرة - «صورة المجتمع المصرى، باعتباره مجتمعا ديمقراطيا اشتراكيا تعاونيا، وقام «اتحاد قومى» يوجه العمل الوطنى الإيجابى إلى بناء المجتمع على أساس من سيادة الشعب، وتحمله بنفسه مسئولية العمل لإقامة هذا البناء، فإن نقل ملكية وسيلة التوجيه الكبرى وهى الصحافة، إلى التنظيم الشعبى، الذى لا يخضع للجهاز الإدارى هو تأكيد لحرية الصحافة.. لأن هذا التنظيم - أى الاتحاد القومى - هو سلطة توجيه ومشاركة فعّالة فى بناء المجتمع شأنها فى ذلك شأن غيرها من السلطات الشعبية، كالمؤتمر العام للاتحاد القومى.. وكمجلس الأمة».
وكان من بين بركات قانون تنظيم الصحافة الأول أنه غير قاعدة إصدار الصحف من «الإخطار» إلى «الترخيص»، وبعد أن كان من حق كل مواطن أن يصدر صحيفة بمجرد إخطار كتابى يرسله إلى المحافظ، ويضمنه البيانات الأساسية، فإذا لم يعترض المحافظ خلال ثلاثين يوما، أصدرها فى اليوم الواحد والثلاثين، فإذا اعترض، بسبب نص أو خطأ فى البيانات، احتكم الطرفان إلى محكمة القضاء الإدارى لتفصل بينهما، جاء القانون الجديد، لينص على عدم جواز إصدار الصحف إلا بـ «ترخيص» من الاتحاد القومى، بل وينص كذلك، على عدم جواز العمل بالصحافة، إلا لمن يحصل على «ترخيص» بذلك من الاتحاد القومى، ويفرض على الصحف التى كانت قائمة وقت صدوره وتجاوز عمر بعضها - كالأهرام - 95 سنة، أن تحصل على «ترخيص» من «الاتحاد القومى» كما فرض على كل الصحفيين الذين كانوا يمارسون المهنة، أن يحصلوا على هذا الترخيص.
وطبقاً لرواية «محمد حسنين هيكل» فإن «عبدالناصر» لم يكن راضيا عن نمط ملكية الصحف الذى كان شائعاً فى مصر عند قيام الثورة، إذ كانت دور الصحف الكبرى ملكا لعائلات أو لأفراد فـ «الأهرام» يملكها «أولاد تقلا» و«أخبار اليوم» يملكها «أولاد أمين» و«المصرى» يملكها «أولاد أبوالفتح» و«دار الهلال» يملكها «أولاد زيدان»، وكان ذلك ما دفعه لتأسيس دور صحفية تنطق بلسان الثورة، وللتفكير منذ وقت مبكر فى تأميم غيرها من الدور، وكان المبرر الذى دفعه للإقدام على هذه الخطوة عام 1960، كما قال لـ «هيكل» أن مصر كانت مقبلة آنذاك على تحولات اجتماعية كبيرة وعميقة، وعلى تنفيذ خطة طموح للتنمية تتطلب سيطرة المجتمع - أو بمعنى أدق الحكومة على وسائل المال وأدوات الإنتاج، وتحتاج إلى تعبئة اجتماعية شاملة، لا يمكن تحقيقها إذا ظلت الصحف تحت سيطرة مجموعة من الأفراد.
وهكذا كانت خطة تأميم الصحافة، جزءا من خطة التأمينات الاقتصادية التى بدأت فى فبراير 1960، قبل ثلاثة شهور من صدور قانون تنظيم الصحافة بتأميم كل من البنك الأهلى وبنك مصر، ثم اتسع نطاقها، بعد ذلك بحوالى عام - بالتأميمات الواسعة التى شملت البنوك وشركات التأمين وعددا كبيرا من الشركات «الصناعية والتجارية» انطلاقا من منطق واضح ومتماسك، يقوم على أن تأميم الصحف، هو الوجه الآخر لتأميم الشركات الاقتصادية، لأن ذلك هو الذى يمكنها من تعبئة الشعب وحشده حول أهداف الثورة، واستثارة حماسه لكى يشارك فى تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وبهذا المعنى كانت المؤسسات الصحفية القومية، أحد الملامح الأساسية لمشروع سياسى للنهضة، لم يقتصر على مصر وحدها، بل تعداها إلى غيرها من دول العالم الثالث التى نالت استقلالها فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، وهو مشروع كان يقوم على عدم الانحياز فى السياسة الخارجية، وعلى سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج فى الاقتصاد، وعلى نظام سياسى ودستورى يكفل هيمنة السلطة التنفيذية على كل السلطات وعلى الدولة والمجتمع، وعلى الحزب الواحد بدلاً من التعددية الحزبية وعلى إعلام التعبئة بدلاً من الإعلام الحرّ.
وكان طبيعيا أن تتعرض المؤسسات الصحفية القومية لما تعرضت له المؤسسات الاقتصادية المملوكة للقطاع العام، فتحقق إنجازات مهمة ومكاسب كبيرة، وتقع فى أخطاء قاتلة تكبدها خسائر فادحة، ليسود الاعتقاد - منذ هزيمة 1967 - بأن الصحافة المصرية، فقدت بإنشاء هذه المؤسسات القومية حريتها واستقلالها، بل فقدت كذلك قدرتها على التطور المهنى.
وظل ملف المؤسسات الصحفية القومية مغلقاً على ما كان يضمه من جروح وقروح وأشكال فساد، إلى أن قرر الرئيس السادات، اتباع سياسات مختلفة عن سياسات سلفه على كل صعيد، بالانفتاح على الغرب دوليا، وعلى عرب النفط إقليميا، وتصفية القطاع العام والعودة إلى الرأسمالية اقتصاديا، وتقرير شكل بدائى من أشكال التعددية الحزبية، بإلغاء الاتحاد الاشتراكى، وتقسيمه إلى ثلاثة أحزاب تأسست عام 1976.
وكانت تلك هى المناسبة التى أعادت فتح ملف المؤسسات الصحفية القومية، باعتبارها بعض ممتلكات الاتحاد الاشتراكى، الذى كان قد تقرر آنذاك توزيع مقراته فى القاهرة والأقاليم على الأحزاب الثلاثة، وفى سلسلة من جلسات الاستماع التى نظمها مجلس نقابة الصحفيين، للاستماع إلى آراء أعضاء النقابة، حول مستقبل الصحف القومية بعد انتقال مالكها إلى رحاب الله، اقترحت توزيع هذه المؤسسات على الأحزاب الثلاثة، بحيث يحصل كل حزب على دار تصدر صحيفة يومية، وأخرى تصدر صحفا أسبوعية، فيحصل «حزب مصر العربى الاشتراكى» - وهو الذى تحول فيما بعد إلى الحزب الوطنى الديمقراطى - على دار «الأهرام» و«دار التعاون» ويحصل حزب «الأحرار» على دار «أخبار اليوم» و«دار الهلال» ويحصل «التجمع» على «دار التحرير» و«دار روزاليوسف»، على أن يعاد تسكين الصحفيين العاملين فى هذه المؤسسات، طبقا لرغباتهم، وعلى أساس ميولهم السياسية وانتماءاتهم الحزبية.
وكان الهدف من الفكرة هو توفير منابر إعلامية قوية للأحزاب الوليدة، بما يمكنها من التواصل مع الرأى العام، والتأثير فيه، ويؤدى إلى تأسيس تعددية حزبية حقيقية تقوم على التكافؤ فى الإمكانيات فى مخاطبة الرأى العام، لكن الفكرة كانت طائرا غير قابل للتحليق لأن الأساس الذى قامت عليه ديمقراطية الرئيس السادات، هو قاعدة «انفتاح فى الاقتصاد بلا حدود، وانفتاح محدود ومحسوب فى السياسة»، وجوهر التعددية الحزبية التى عاد إليها، هى صيغة الحزب الواحد فى قالب تعددى، التى تقوم على افتراض متعسف بأن هناك حزبا يمثل أغلبية المصريين، يرأسه رئيس الجمهورية، ويشكل متن الحياة الحزبية، ويحصل -بالذوق أو بالعافية - على الأغلبية الساحقة من مقاعد البرلمان فى كل الانتخابات، بينما تقبع الأحزاب المعارضة له، على هامش هذا المتن، وتحصل - رضاء أو إكراها - على أقلية المقاعد البرلمانية، أو لا تحصل على شىء منها على الإطلاق.
وهكذا انتهى البحث فى مستقبل المؤسسات الصحفية القومية إلى تشكيل مجلس الشورى، لكى يقوم بمهمة أساسية وربما وحيدة، هى تملك المؤسسات الصحفية القومية، بدلاً من «هيئة التحرير» و«الاتحاد القومى» و«الاتحاد الاشتراكى» ليظل الوضع على ما كان عليه على امتداد ما يقرب من نصف قرن، تراكمت خلاله التعقيدات الإدارية والمالية والمشاكل المهنية، داخل هذه المؤسسات، كان من أبرزها:
◄أن المالك الحقيقى لهذه المؤسسات، الذى يفترض أنه «الشعب» لا صلة له بها من قريب أو بعيد، بل إن الذى ينوب عنه فى ممارسة حقوق الملكية، وهو «مجلس الشورى»، لا صلة له بها ولا سلطة له على إدارتها، إذ هو مجرد واجهة تختفى خلفها الحكومة، لتستصدر منه قرارات تعيين رؤساء مجالس إدارات وتحرير هذه المؤسسات، ثم تترك لهم، السلطة كاملة فى إدارتها، طالما ضمنت ولاءهم لها.. بل وكفت عنهم يد أجهزة الرقابة والمحاسبة حتى أن تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات، عن ميزانيات هذه المؤسسات، كانت ولا تزال ترسل إلى «مجلس الشورى»- باعتباره مالكها - فيحتفظ بها رئيس المجلس فى درج مكتبه ولا ينظر فيها، ولا يحاسب إداراتها على ما ورد فيها من ملاحظات، وترسل إلى مجلس الشعب، فلا تعرض عليه لمناقشتها.
◄تراكم الديون على هذه المؤسسات للبنوك والحكومة والأفراد، حتى وصلت طبقاً لتقدير د. بطرس غالى - وزير المالية - إلى ستة مليارات جنيه؛ بسبب التوسع فى الإنفاق على مشروعات ومطبوعات لا جدوى اقتصادية منها، والتوسع فى الاقتراض من البنوك للإنفاق على إقامة الأبراج، والامتناع عن تسديد مستحقات الحكومة من الضرائب إلى أقساط التأمينات الاجتماعية، ومن فاتورة الكهرباء، إلى فاتورة المياه.
البطالة المقنعة التى تعانى منها هذه المؤسسات، نتيجة لاكتظاظها بعدد من العاملين فى التحرير والإدارة يفوق حاجتها، واتجاه بعضها لاستثمار أموالها فى مشروعات تجارية، لا صلة لها بالصحافة، أو لشراء أصول تفوق قدرتها على استثمارها.
التفاوت فى دخول العاملين بها من الصحفيين بسبب التباين الشديد، بين الأوضاع الاقتصادية للمؤسسات التى يعملون بها.
◄ومع التسليم بأن الإدارات الصحفية التى تولت المسئولية فى عام 2005، قد نجحت فى إيقاف التدهور فى الأوضاع الاقتصادية لبعض هذه المؤسسات، فقد وصل بعضها الآخر، إلى حال أصبح عصيا على الإصلاح.. ثم أن الأوان قد آن لإعادة النظر فى الصيغة ذاتها، من منظور سياسى.. وليس فقط من المنظور الاقتصادى.
◄والأساس الذى ينبغى أن ينطلق منه الجميع، عن البحث فى مستقبل المؤسسات الصحفية القومية، هو الإقرار بالحقيقة التاريخية التى تقول أن هذه المؤسسات كانت أحد ملامح اتجاه سياسى، وجزءا من دور كانت تلعبه الدولة فى الاقتصاد والسياسة، قد يختلف الناس فى تقييمه، ولكن المهم هو أنه قد أصبح الآن فى ذمة التاريخ، فلا مصر الآن بلد اشتراكى يقوم نظامه على تحالف قوى الشعب العاملة، ولا دستورها ينص على أن القطاع العام يقود التنمية، أو يلزم الدولة بأن تضع خططا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولا الحزب الحاكم فيها حزب اشتراكى وغير ذلك من الأمور، التى تطلبت - عام 1960 - الأخذ بصيغة «إعلام التعبئة» وتأميم الصحف، لكى تقوم بدورها فى تعبئة الجماهير وحشدها حول هذه الأهداف!
◄مصر الآن بأكثر العبارات تهذيبا ورقة، بلد رأسمالى، يحكمه حزب رأسمالى تنسحب حكومته بخطى سريعة، وغالبا غير منظمة، من الاقتصاد، وتتخلص من القطاع العام الذى تتملكه، بل وتسعى لبيع الأصول العامة بأبخس الأثمان فلماذا تصر على الاحتفاظ بملكية هذه المؤسسات القومية العشر، مع أنها كبدتها خسائر ربما تفوق بكثير الخسائر التى تذرعت بها لتبيع بعض وحدات القطاع العام، ومع أن كثيرا مما باعته من هذه الوحدات كان يحقق أرباحا.
◄فى كل البلاد الرأسمالية، لا يجوز للحكومة أن تتملك - أو تدير - مؤسسات اقتصادية باستثناء المؤسسات التى تدير الموارد السيادية، أو المرافق العامة والمؤسسات الصحفية القومية ليست - من الناحية الاقتصادية - واحدة من هذه المؤسسات.
◄وفى البلاد الديمقراطية لا يجوز للحكومة أن تتملك أو تصدر الصحف، لأن حرية الصحافة، كحرية تشكيل الأحزاب وحرية الإضراب والاعتصام، هى إحدى الحريات العامة، التى ينبغى أن تكون مكفولة للجميع، كأساس للتوازن الاجتماعى والاستقرار السياسى.
◄وتملك الحكومة لعشر مؤسسات صحفية قومية، فضلا عما تملكه من محطات إذاعية وقنوات تليفزيونية، يجلعها صاحبة التأثير الرئيسى فى الرأى العام، مما يخل بالموازنة الحزبية والسياسية لصالح الحزب الحاكم ويرسخ صيغة الحزب الواحد فى قالب تعددى، ويبقى على معادلة المتن والهوامش قائمة إلى الأبد، وهو ما يدفع إلى اليأس من أى تطور ديمقراطى حقيقى.
◄تلك كلها أسباب لابد أن تدعونا لفتح حوار عام حول مستقبل المؤسسات الصحفية القومية العشر، للتوصل إلى صيغة تكفل بقاء المؤسسات الرئيسية والتاريخية منها، فى إطار الملكية العامة للشعب، على أن تكون ملكا لـ«مصر الوطن» و«مصر الدولة» وليس لـ«مصر الحزب» أو مصر الحكومة، تدار على أسس إدارية ومهنية واقتصادية سليمة، وتكون بوتقة للحوار الوطنى بين كل الأحزاب والتيارات، ويرأس تحريرها صحفيون مهنيون أكفاء، يخلعون أرديتهم الحزبية حين يتولون مناصبهم.
◄أليس ذلك أفضل من بقاء هذه المؤسسات الصحفية القومية العشر على حالتها شوكة فى عين العدو، الذى هو الديمقراطية؟!
◄بلى.. إنه لكذلك.
لمعلوماتك..
◄بلغت ديون مؤسسة الأهرام 3 مليارات و499 مليون جنيه
◄ديون مؤسسة أخبار اليوم مليارا و324 مليون جنيه
◄ديون دار التحرير 255.8 مليون جنيه
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة