لم أنتبه إلا وهى واقعة أمام سيارتى، أما الناس فقد التفوا فى ثوان وأخذوا يخبطون بعصبية على السيارة وكأننى فى محاولة للهروب، رغم أن السيارة كانت بالفعل توقفت، أما أنا فقد شل جسدى من الفزع وارتعشت لمجرد مشهد الفتاة الواقعة والتى لم أرها حتى تلك اللحظة، ولو لم تكن مشاعرى بالفزع سيطرت علىّ، لكنت تأكدت من الوهلة الأولى أن الفتاة لم تصب بأى أذى لأن السيارة كانت بالكاد تتحرك فى شارع قصر العينى، وما أدراكم ما قصر العينى، نزلت من السيارة مهرولة، دون أى تفكير حملت تلك الفتاة الصغيرة التى لا تتعدى التاسعة عشرة، جسمها ضئيل، محجبة، ترتدى الجينز، كانت منتبهة لىّ تتوجع: آه يا رجلى، مش قادرة أتحرك، حملتها أنا وصديقتها التى كانت معها إلى داخل السيارة متجهة بها إلى طوارئ قصر العينى، متفادية تدخل الجماهير الواقفين الذين تمنيت أن أدهسهم جميعا، من فرط غضبى بمحاولاتهم إشعال الموقف وإلقاء اللوم علىّ على شاكلة «ما تراعوا الناس اللى ماشية، يعنى انتوا علشان راكبين عربيات تموتوا الناس فى الشارع؟، فى الدقائق البسيطة لوصولنا إلى طوارئ قصر العينى كنا قد تعارفنا وهدأنا، بدأت تحرك قدمها، تمكنت من الوقوف عليها بعد وقت بسيط، ألحت على بالمغادرة قائلة: «أنا كويسة»، لكننى صممت على إجراء الأشعة حتى نطمئن، كشف الطبيب، حرك الساق والقدم: كله تمام.. مافيش كسر ولا حتى جزع. أوصلتها إلى كليتها، الخدمة الاجتماعية،.. هديل.. مازالت فى السنة الأولى، ألححت عليها بأن تطلبنى إن احتاجت أى شىء. جاءنى صوت هديل رقيقاً كعادتها، قبل إنهاء المكالمة قالت لى، أقولك خبر حلو: «أنا لبست الإسدال»، قلت لها وصوتى بدت عليه علامات دهشة غير مخفية -يعنى إيه- «لبست البتاع ده ولا اللى يشبه البطريق؟» -اعتذر عن عدم صياغة الجملة بشكل أكثر لياقة- لكننى أحببت مصارحتكم برد فعلى التلقائى، ثم سارعت بسؤالها.. ليه عملت كده يا هديل، ما أنت كنت محجبة وشكلك حلو ومحترم، ليه المبالغة دى؟ أجابتنى: من وقت الحادثة.. حسيت إن ربنا بيدينى إنذار، وقلت لازم ألتزم وأتقرب من ربنا أكتر ما حدش ضامن عمره.
بسذاجة سألتها: حادثة إيه يا بنتى.. دى العربية لمستك مش خبطتك؟ ثم إنك صغيرة جداً على الكلام ده؟ وبعدين هو أنت فاكرة إننا بنتقرب لربنا باللبس، فين عملك؟، فين علاقتك الطيبة بالناس، وبدأت فى الاستفاضة فى ذلك الحديث أو ربما تلك المحاضرة الثقيلة على قلب الفتاة.. إلى أن قاطعتنى هديل: ممكن أسألك حاجة: «هو انت مسلمة ولا مسيحية؟». هنا فقط أدركت أننى أغضبتها لدرجة «أن تسألنى عن العقيدة». أجبتها: تفتكرى أنا لو كنت مسيحية كنت ح أقدر أقولك الكلام ده. أغلب ظنى أن هديل لم تفهم معنى جملتى.. فقالت لىّ: معلهش.. الكارت بتاعى ح يخلص.. ح أكلمك تانى.. لم تتصل هديل بى منذ ذلك اليوم.. منذ أكثر من عام. أشعر بالذنب لأننى لم أجد الحوار مع الفتاة، هاجمتها بدلاً من أن أستوعبها، أحبطت فرحتها بالإسدال لأنانيتى فى التعبير عن موقفى الفكرى، تحدثت إليها بدلاً من أن أسمعها.. ارتكبت حماقة الترهيب بدلاً من الترغيب، للأسف استخدمت نفس منطق من أنتقدهم. من يدرينا: ربما تكون هديل قد ارتدت النقاب هذه المرة.. بسببى أيضاً. الحادثتان.. بسببى.. ولتسامحنى هديل!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة