رحلة ملايين المهرجان من الملاخ إلى أبو عوف!

لماذا أصبح مهرجان القاهرة السينمائى «شبه نادى الزمالك»؟

الجمعة، 21 نوفمبر 2008 02:43 ص
لماذا أصبح مهرجان القاهرة السينمائى «شبه نادى الزمالك»؟
بقلم محمد بركة

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كانت نشوة نصر أكتوبر لاتزال باقية مثل قطعة من حلوى «غزل البنات»، ولم تذب على اللسان بعد، حين ظهرت للوجود فكرة هذا المهرجان. حدث هذا عام 1975 حين عاد كمال الملاخ من مهرجان برلين السينمائى، وأصبح مسكوناً بفكرة إنشاء مهرجان يبرز الوجه الحضارى لمصر، واتجه تفكيره إلى الإسكندرية لتصبح مدينة المهرجان، وتقتصر المشاركة فيه على دول حوض البحر المتوسط، وكان النقاد: فوميل لبيب وعبدالمنعم سعد ومارى غضبان يخبئون -هم أيضاً- هذا الحلم الرومانسى تحت وساداتهم حين يأوون للفراش كل ليلة منذ أن عادوا من برلين بصحبة الملاخ الذى طالع بالمصادفة أحد أعداد مجلة «فارايتى» الأمريكية وتوقف أمام خبر حول اعتزام إسرائيل إنشاء مهرجان سينمائى يعوضها ثقافياً عما خسرته عسكرياً!

هنا لم يهدأ بال الكاتب الصحفى المبدع وعرف أن الوقت ليس فى صالح مصر، وظل يطوف بالفكرة النبيلة هنا وهناك، إلى أن تجسدت على أرض الواقع، مع تعديل اقترحه الناقد سمير فريد -وكأنه يقرأ كف المستقبل- يقضى بأن يكون المهرجان فى القاهرة ولكل دول العالم، وهكذا حمل ميلاد مهرجان القاهرة السينمائى تاريخ 15 أغسطس 1976، موعد انطلاق دورته الأولى، وكانت الجهة المنظمة هى جمعية كتاب ونقاد السينما التى أنشأها الملاخ خصيصاً لهذا الغرض وأسند رئاستها إلى يوسف السباعى، اعترف الاتحاد الدولى بالمهرجان ومنحه صفة «الدولية» فى دورته الثانية 1977 ثم سرعان ما سحب الاعتراف بعد الدورة الثالثة 1978 بسبب حدوث فوضى تنظيمية عارمة فضلا عن تدخل الرقابة السافر فى الأفلام الأجنبية وتعثر المهرجان كثيراً، فقد اصطدم خيال الفنان الرحب بالأفق الضيق لحسابات المسئول الكبير، وانتهى الخلاف بين الملاخ ووزير الثقافة -آنذاك- عبدالحميد رضوان بالطلاق البائن، وإسناد مهمة رئاسة المهرجان إلى الرجل القوى فى الثقافة المصرية، سعد الدين وهبة.

وهكذا عانى المهرجان مبكراً من بؤس الدولة ولم يتعامل المسئولون بنضج مع مقتضيات الصفة الدولية للمهرجان، والمدهش أن سمير فريد حين تولى إدارة المهرجان فى دورة 1985 حين كان يرأسه للمرة الأولى سعد الدين وهبة، حقق فائض ربح يعادل 50 ألف جنيه، ولم يكن هذا هو النجاح الوحيد، فالأهم عودة الاعتراف الدولى بالمهرجان. هنا ماذا فعلت الدولة؟ هل التقطت طرف الخيط وساندت الجهود الوليدة؟.. ما حدث كان العكس، فقد اتجهت إلى عدم تقديم أى دعم مادى يذكر، واتفق على لطفى، رئيس الوزراء آنذاك، مع سعد الدين وهبة، على أن ينضم المهرجان لقائمة المشروعات التى تعيش بـ«الجهود الذاتية».

عاش المهرجان سنوات عديدة وفق نظرية «الصيت ولا الغنى»، فالمسئولون يزهون بأنه واحد من أهم 12 مهرجاناً على مستوى العالم وفق تصنيف فيدرالية المهرجانات الدولية، ولم يكن سعر الجنيه المصرى قد تهاوى مقارنة بالدولار، كما لم تكن وزارة الثقافة قد تورطت فى مهرجانات أخرى تقتطع جزءاً كبيراً من ميزانيتها المحدودة أصلاً مثل مهرجان المسرح التجريبى ومهرجان الرواية ومهرجان الشعر، وحاولت إسرائيل مراراً وتكراراً المشاركة فى المهرجان، وكان رفض طلبها يأتى كانتصار إعلامى يتم توظيفه جيداً أمام الكاميرات فى المؤتمرات الصحفية، كما لم يكن الثلاثى المرعب «مهرجانات مراكش ودبى وأبوظبى» قد ظهرت للوجود بطموح وراثة المهرجان المصرى العجوز الذى أصابته الشيخوخة.. وطبعاً دوام الحال من المحال.

بعد وفاة وهبة جاء حسين فهمى تم تدشين مرحلة «الرئيس/النجم» للمهرجان، وكان أول الملفات المزعجة الذى تطرق إليه حسين فهمى مع فاروق حسنى هو الميزانية، واعترف الوزير -ضمنياً- أن المتاح «كلام فارغ» وطالب «الواد التقيل» بالصبر والمرونة ومحاولة التكيف ولو مؤقتاً، مع وعد مؤكد بزيادة الدعم مستقبلاً، ولأنها عادتنا ولن نشتريها، كان علينا أن ننتظر حتى يترك حسين فهمى منصبه غاضباً بعد 4 سنوات لنعرف الحقائق وينكشف المستور، فالميزانية لم تتجاوز فى عهده 200 ألف جنيه، فى حين وصلت الميزانية المبدئية لمهرجان الشرق الأوسط السينمائى فى أبوظبى إلى 20 مليون دولار، وميزانية مهرجان «مراكش» لا تقل عن 6 ملايين دولار، والمغرب ليست أغنى من مصر، ويحكى حسين فهمى واقعة شديدة الدلالة على أن البيروقراطية تهزم حتى الأفكار البسيطة التى تتناسب مع ضعف الميزانية، فقد طلب من إدارة مطار القاهرة تخصيص «كشك» صغير للمهرجان فيه فتاتان تجيدان اللغات الأجنبية لتكونا فى استقبال الضيوف الأجانب وتوضع لافتة على الكشك تحمل اسم المهرجان وشعاره، فلم يجد الرجل استجابة، فانتهز فرصة حصول شركة لأحد «معارفه» على ترخيص من المطار بالتواجد فيه وتعاقد مع هذه الشركة على إقامة «الكشك» لكنه فوجئ بالرفض الصريح.. حتى اللافتة التى وضعناها بجوار المطار للترحيب بالضيوف الأجانب تم تمزيقها!

من الواضح أن حسين فهمى شعر بالخديعة من جانب فاروق حسنى، واتسمت تصريحاته بالحدة والعنف، وتحولت الحقائق التى كشف عنها إلى «نكتة» تحرج المسئولين، ولأن هجومه تركز على «ضعف التمويل» و«الميزانية الهزيلة» لم يكن هناك بد من استقدام رجل أعمال يلعب دور الراعى الرسمى للمهرجان، ويقيل هذا الحدث المهم من عثرته التقليدية، ولم يكن هناك «أنسب» من نجيب ساويرس، الرجل الذى كان قد أقام لتوه احتفالية بمناسبة بلوغ الشاعر المشاغب أحمد فؤاد نجم السبعين، فى خطوة أثارت الجدل والانقسام الحاد فى الرأى بين مؤيد ومعارض، لكنها أكدت طموح ساويرس فى تقديم نفسه على أنه امتداد للوجه الثقافى للرأسمالية الوطنية.

تزامن ذلك مع مجىء شريف الشوباشى ليدخل المهرجان مرحلة «الرئيس الموظف» القادم من قطاع العلاقات الخارجية بوزارة الثقافة، الملتزم باللوائح والقوانين، وبلغت قيمة إسهام مجموعة شركات ساويرس فى رعاية المهرجان أكثر من مليونى جنيه من الدعم العينى والمباشر فى الدورة الواحدة، فضلاً عن التدخل غير المباشر للمساعدة فى استقدام كبار النجوم العالميين، لكن نقطة قوة ساويرس هى نفسها نقطة ضعفه: الشهرة والثراء والطموح، توليفة تخلق حالة من التربص المسبق، تزلفاً أو هجوماً، حقاً أو باطلاً، وبلغ الهجوم على تجربة ساويرس مبلغه، فهو الملياردير الذى باعت له الدولة المهرجان الذى أصبح «مهرجان موبينيل السينمائى الدولى»، وهو الذى يتحكم فى دعوات حفل الافتتاح، وتحتكر قناة otv التى يملكها حق بث الحفل، واعتبر كل صحفى لم يحصل على دعوة أن ما حدث «إهانة» لجموع الصحفيين تستوجب انتفاضة الجماعة الصحفية للثأر، بداية من مانشيتات الشتائم حتى تنظيم الوقفات الاحتجاجية!

وعلى عكس ما ذهب إليه هواة «الكلام الكبير» لم يتم بيع المهرجان ولا خصخصته ولا يحزنون، كل ما فى الأمر أن رجال الأعمال لا يلقون بأموالهم مجانا، لابد من مقابل، والمشكلة فى حالة مهرجان القاهرة السينمائى تكمن فى عدم وجود قانون جامع، مانع يحدد بوضوح متى تبدأ مصالح الرعاة وأين تنتهى.

أصبح مهرجان القاهرة السينمائى يشبه نادى الزمالك على نحو غريب، فكلاهما يعانى من مشاكل مزمنة، ومع كل إدارة جديدة تسمع وعوداً وردية، ومع فشل الإدارة وانسحاب رموزها، تسمع تصريحات غاضبة تتناقض تماماً مع ما سبق وصدر على لسان نفس الشخص، بينما نجوم العالم يهتفون «بيب بيب أبوظبى» ولنأخذ حالة شريف الشوباشى نموذجا لذلك، فقد تولى رئاسة المهرجان تحت ضغط شكاوى حسين فهمى من الميزانية، وعلى الفور أعلن أن «التمويل» لم يعد مشكلة المشاكل، فقد نجح فى حل الأزمة من خلال علاقاته «الداخلية والخارجية». على أى حال، المصريون يعرفون -تاريخياً- أن الكلام ليس عليه جمرك، المشكلة الوحيدة حين طلبت النجمة العالمية شارون ستون 100 ألف دولار نظير قبولها دعوة حضور المهرجان، وأغلق الشوباشى وقتها فى إباء وشمم أن مصر لن تقبل شروطاً جائرة مهما كان النجم الذى يضعها!

المهم أن شريف الشوباشى اختار وقتاً قاتلاً ليعلن انسحابه من رئاسة المهرجان، كان العد التنازلى لانطلاق الدورة الثلاثين قد بدأ، وبرر الرجل استقالته -ولا تندهشوا- بضعف الميزانية التى أكد أنها لم تتجاوز 800 ألف دولار! لم ينتظر حتى ينتهى المهرجان ويقدم استقالته فى هدوء كما فعل سلفه حسين فهمى، وأصبح الوقت ضيقاً أمام فاروق حسنى فى صيف 2006، وكان طوق الإنقاذ فنانا من نجوم الصف الثانى «عبده مشتاق» للظهور استهلك نفسه فى أفلام ضعيفة أو متوسطة القيمة حفاظاً على التواجد لمجرد التواجد، وإن كان يجيد الإنجليزية ومعروف عنه تذوقه للفنون الرفيعة. ومثلما انحدر الهجوم على ساويرس إلى حد اتهامه بالتعصب الطائفى فى اختياره للعملاق نجيب الريحانى لتكريمه، بلغ البعض حداً غير مفهوم فى الهجوم على عزت أبوعوف -الرئيس الجديد للمهرجان- واتهامه بأنه لا يدرى شيئاً عن المهرجان سوى موعده وأنه يديره برسائل SMS على الموبايل! والأنكى أن الهجوم عليه بدأ حتى قبل أن يبدأ ممارسة عمله ولم يعطه أحد فرصته.

ومع الإعلان عن ترحيب رجل الأعمال محمد نصير رئيس مجلس إدارة مجموعة «ألكان القابضة»، برعاية المهرجان، تجدد الغمز واللمز والتشكيك «قبل الهنا بسنة»، فالشركة ستكون الراعى الرسمى والوحيد وستقوم بتحمل نفقات استضافة نجوم السينما العالمية، بالإضافة إلى جميع أنشطة المهرجان، وكان نصير حريصاً على التأكيد على النأى بنفسه بعيداً عن الشئون الفنية أو التنظيمية التى تخص المهرجان فى دورته الثانية والثلاثين، ومع ذلك تساءل أحدهم: وهل تضع «ألكان» اسمها على مطبوعات المهرجان كنوع من الدعاية أم لا؟ وجاء الرد فورياً وحاسماً من سهير عبدالقادر، نائب رئيس المهرجان، والمرأة القوية فى دهاليزه منذ سعد الدين وهبة، لتعترف أن الحكومة لا تريد الإنفاق على المهرجان، وأنه يجب ألا نصادر على الناس وإنما نعطى رجال الأعمال الشرفاء فرصة، وألا نستبق الأحداث ونهاجمهم قبل أن يبدأوا بالفعل.

وفى تطور لافت، أعلن عزت أبوعوف أن ميزانية المهرجان المرصودة من جانب الوزارة بلغت 6 ملايين جنيه، ورغم أن هذا هو نفس الرقم الذى سبق لحسين فهمى أن قال: أعطونى إياه وسترون! فإن أبوعوف سرعان ما استدرك -حتى لا يذهب خيالنا بعيدا- مؤكداً أن معظم هذا المبلغ يذهب إلى تذاكر الطيران وحفلتى الافتتاح والختام!








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة