الخوض فى بعض مشاكلنا الكبرى هذه الأيام يحتاج إلى ريشة رسام كاريكاتير بحجم مصطفى حسين، شفاه الله أو إلى مرارة الريشة والكلمة من الراحل صلاح جاهين.. أو إلى كاتب روائى راحل بحجم جورج أورويل الذى أقام البناء الدرامى لإحدى رواياته على فكرة الاسم المناقض لمضمونه.
عندنا الآن مثلا.. الوزارة المكلفة ببيع شركات القطاع العام بالخطوة السريعة اسمها «وزارة الاستثمار»، ووزارة الصناعة هى نفسها التى انتفضت رفضا لفكرة -مجرد فكرة- إقامة مصنع جديد للحديد بأموال عامة لأن هذا لايصح.. لا المال العام ولا المصنع الجديد. أما بصفتها وزارة للتجارة أيضا فهى التى تتنازل عن سلطتها فى استيراد القمح لحساب حفنة مستوردين، لأنه عيب على الحكومة أن تتدخل فى اقتصاد السوق. أما الوزارة التى أصبح اسمها «وزارة التضامن الاجتماعى» فهى تحديدا التى يرى وزيرها أن كل أسرة يكسب عائلها مائة وثلاثين جنيها شهريا لا تعتبر أسرة فقيرة. ثم نصل إلى وزارة الزراعة، فنجدها عبر سنوات ممتدة تمارس بكل همة سياسات أدت فى نتيجتها الأخيرة إلى التراجع غير المسبوق فى الزراعة المصرية.. من القطن إلى القمح.
لو كان الرسامون والروائيون هم المسئولون عن حل الأزمات وتدبير شئون الناس لهان الأمر، لكن الواقع العملى يجعل الحكومات هى المسئولة هنا، ليست مسئولة فقط عن حل الأزمات وإنما مسئوليتها الأولى والأهم هى منع حدوث الأزمات من الأصل. فإذا جاءت الأزمات قضاء وقدرا لا فكاك منه، تصبح مسئولية الحكومة هى معالجتها بسرعة وفعالية وبأقل التكاليف وأعظم النتائج وفى أقصر وقت، أما أن تذهب الحكومة بقدميها لتصنع هى الأزمات ونعانى منها نحن جميعا.. فهذا جديد تماما ويستعصى على مجرد الفهم.
فلنأخذ هنا مثلا أزمة رغيف الخبز التى أصبح كل مواطن يعانى منها.. من أسوان إلى الإسكندرية بمستوى غير مسبوق بالمرة، ففى الشهور الأخيرة لم تستجد علينا فقط طوابير رغيف العيش والتوترات الاجتماعية التى صاحبتها، وإنما استجد أيضا فساد العيش ذات نفسه، شحنات متتالية من القمح جرى السماح لحفنة مستوردين قطاع خاص باستيرادها من أوكرانيا ودول أخرى، وبمواصفات وضعتها لهم وزارة التجارة والصناعة ممثلة فى هيئة السلع التموينية وورطت فيها أطرافا أخرى من وزارات مختلفة. النتيجة الواضحة هى خبز فاسد لا يصلح أصلا للاستخدام الآدمى، من قمح هو فى بلاده يستخدم فقط كعلف حيوانى، وبالتالى من المستحيل استخدامه فى صناعة رغيف العيش.
طوال شهور وملايين الناس فى بلدنا تعانى من المشكلة، وكما هى العادة كان الرد هو الإنكار والمكابرة والتضليل.. حيث الدقيق المسلم للمخابز سليم ومطحون من قمح طبيعى مستورد وأيضا سليم مائة بالمائة. إذن فالحل هو: هاتوا الشرطة لأصحاب المخابز.. و هات يا محاضر وغرامات مالية وأوامر بإغلاق المخابز.
مع استمرار الأزمة اتضح أن أصحاب المخابز أبرياء، والمسئولية كلها هى على ذلك النوع من القمح المستورد، والذى يصبح غير صالح إذا كان الهدف منه صناعة رغيف العيش، وبكل ضمير مستريح أصدرت وزارة الصناعة والتجارة البيانات القاطعة بأن هذا القمح المستورد ليس فاسدا وإنما مطابق للمواصفات فنيا.. هذا صحيح، فذلك القمح المستورد قد يصلح لعشرين غرضا أخرى، إلا أنه لا يصلح تحديدا لإنتاج رغيف الخبز الصالح للاستهلاك الآدمى. مع ذلك استمرت وزارة الصناعة والتجارة على إصرارها بما يعنى استمرار تدفق هذا النوع من القمح إلى البلاد. حتى الآن جرى استيراد 808 آلاف طن منه.
وبحكم التضامن الوزارى المتقطع حسب المناسبة والمصلحة تابعنا بيانات من وزارتى الزراعة والتضامن الاجتماعى تقرر أن هذا النوع المستورد من القمح سليم مائة فى المائة. فقط كل المشكلة هى أنه يفتقر إلى مادة اسمها «الجلوتن» وهى التى تجعل العجين يتماسك فيصبح قابلا لعمل رغيف العيش، وبالتالى صالحا لخبزه وأكله. إذن.. هل الحل هو الكشف عن مستوردين فاسدين جاءوا إلينا بالقمح الأرخص سعرا وإن يكن فاسد الصلاحية؟ أو الحل هو الكشف عن من وضعوا لهم المواصفات ثم سمحوا للمستوردين بإدخاله إلى البلاد؟ لا هذا ولا ذاك. الحل العبقرى هو خلط هذا النوع من القمح الرخيص المستورد بقمح مصرى عالى البروتين والجلوتن.. فنصبح أمام ما يشبه رغيف العيش الذى اعتدناه.
فى كل ما تابعناه لم نتوقف بالمرة أمام السؤال الجوهرى: لماذا لم تظهر هذه المشكلة إلا مؤخرا؟ طوال سنوات وسنوات تستورد مصر من الخارج 78 بالمائة من احتياجاتها من القمح. تلك بحد ذاتها مصيبة كبرى، لكن فلنؤجلها قليلا.. تركيزا على السؤال العاجل: لماذا تواجهنا تلك الأزمة الآن؟ ولماذا بهذا المستوى الخطير غير المسبوق؟
على استحياء بالغ، وبكلمات متقطعة وغير رسمية، اتضح أصل المشكلة. فالأصل الذى اعتادته مصر هو أن سلطة استيراد احتياجات البلاد من القمح مقررة قانونا لهيئة السلع التموينية، وكانت سابقا جزءا من وزارة التموين. وبعد إلغاء الوزارة قبل سنوات قليلة أصبحت هيئة السلع التموينية تابعة لوزارة التجارة والصناعة. والفكر الجديد الذى حكم هذه الوزارة هو أن على الدولة أن تنفض يديها من الاقتصاد تدعيما لحرية التجارة واقتصاد السوق. بالتالى تنازلت وزارة التجارة عن سلطتها فى استيراد القمح لحساب حفنة شركات من القطاع الخاص أقل من عشر وبمواصفات تقررها هيئة السلع التموينية.
وكما تابعنا فى تقارير صحفية منشورة أصبح «السادة الذين وضعوا هذه المواصفات ولجان المعاينة التى تسافر إلى بلدان المنشأ على حساب السادة المستوردين، يعملون لاستيراد 7 ملايين طن قمح بمليارات الجنيهات، على حد تعبير الزميل جمال الشرقاوى فى جريدة الأخبار (7/11/2008). ثم جرى ما هو أغرب، حسب الدكتور نادر نور الدين محمد أستاذ الموارد الزراعية بكلية الزراعة جامعة القاهرة ومستشار وزير التموين الأسبق، فإن هيئة السلع التموينية.. أولا: لم تعد تقوم هى باستيراد القمح.. وثانيا: لم تعد تشترط أن يكون القمح المستورد بضاعة حاضرة داخل البلاد.. وثالثا: أصبحت تعطى للمستوردين فترة تسليم تتراوح ما بين 6 أشهر إلى 12 شهرا.
هذا معناه أن الموردين أصبحوا يستوردون القمح بأموال الحكومة من خلال هيئة السلع التموينية ويحققون أرباحا طائلة. بعبارة أخرى.. أصبحت الحكومة المصرية الذكية تتيح الأموال أولا للمستوردين ومعها ورقة بالمواصفات فيستوردون لها الكميات المطلوبة خلال 6 أشهر أو 12 شهرا. هذا لايعنى فقط إقراض أموال الحكومة مقدما للمستوردين وبلا فوائد، يعنى مجانا. هذا يعنى أيضا أن المستوردين يجيئون بالقمح إلى الموانئ المصرية فتصبح الحكومة أمام أمر واقع، سواء من حيث الكميات أو الأسعار، ويصبح للمستوردين اليد العليا.. وبفلوس الحكومة نفسها. وإذا أخذنا بتصريحات مسئول بميناء الإسكندرية إلى جريدة «البديل» فى 20/11/2008 فإن بعض ممثلى هيئة السلع التموينية كانوا يقومون باستبدال عينات من القمح الأوكرانى الفاسد واستخدام عينات سليمة كبديل لها فى تحليل شحنة القمح بهدف الترخيص بإدخال الشحنة إلى السوق.
هل هذا اقتصاد سوق.. أم فساد وقلة ضمير وانعدام مسئولية؟ لقد اعتادت الحكومة سابقا، من خلال هيئة السلع التموينية، على استيراد القمح بالأصول، وهو ما كان يكفل لها المسئولية الكاملة عن ضمان جودته زائد انخفاض تكلفته. ومن البداية لم يكن واجبا بالمرة أن تتنازل الحكومة عن سلطتها هذه لشركات قطاع خاص، بغير أن يعنى هذا موقفا أيديولوجيا ضد القطاع الخاص. هذا يعنى فقط أن رغيف الخبز هو من الأهمية بما لا يسمح بتعريضه لجشع المستوردين ولا لفساد المراقبين. هذا يعنى أن مصالح الناس هى التى يجب أن تكون على المحك، فإذا كانت مصلحة الناس هى قيام الحكومة باستيراد القمح.. إذن فلتفعل ذلك كما كانت تفعله دائما، سواء اتفق هذا مع شعارات اقتصاد السوق أو لم يتفق.
بالطبع هناك الحل الأفضل، وهو أن نزرع نحن فى أرضنا القمح الذى نحتاجه. هذه لم تكن معجزة فى أى وقت، إنما الغرض.. مرض. الهند مثلا اشتهرت طويلا بأنها بلد الفقر المدقع والمجاعات الموسمية. وفى ظل حكومة وطنية بزعامة أنديرا غاندى فى سنوات الثمانينيات وضعت تحقيق الاكتفاء الذاتى من القمح ضمن الأهداف القومية الملحة. وبموارد محدودة، وبحوث علمية جادة لاستنباط سلالات أفضل من القمح، ومن خلال برنامج زمنى محدد، وقبل هذا كله بإصرار ومتابعة، حققت الهند هدفها هذا خلال أقل من عشر سنوات. ليس باقتصاد السوق، ولكن بالتخطيط السليم المهموم بمصالح الناس.
الهند فعلت ذلك ونجحت فيه. سوريا أيضا فعلته. أما نحن هنا فقد تقلبت سياساتنا الزراعية لنصبح فيما نحن فيه.. بل وتنازلت الحكومة عن دورها مجانا لمصلحة سبعة أو عشرة مستوردين، يستوردون لنا قمحا رديئا فاسدا، وبفلوس الحكومة الرشيدة. وإذا كانت أزمة القمح المستورد تمثل هنا حالة لتراجع الحكومة عن واجباتها ومسئولياتها، فإننى أنتقل إلى حالة عكسية تدخلت فيها الحكومة فيما ليس من واجبها أن تتدخل فيه.
لقد تابعنا مؤخرا الإعلان عن تأسيس اتحاد لأصحاب المعاشات مهمته الأولى الدفاع عن مصالحهم (وهم نحو سبعة ملايين مواطن) ضد قيام الحكومة بوضع يديها على أموال التأمينات الاجتماعية، والنائب السابق البدرى فرغلى رئيس الاتحاد الجديد يقدر تلك الأموال بأكثر من 335 مليار جنيه، وفكرة التأمينات الاجتماعية تقوم من الأصل على أن الموظف فى قطاع عام أو خاص، يدخر حصة من مرتبه يجرى استقطاعها شهريا بالموازاة مع حصة أخرى يسددها رب العمل، مقابل الحصول على معاش مناسب بعد إحالته إلى التقاعد. هذه الفلوس إذن هى بالأساس فلوس الناس وليست فلوس الحكومة، ووزارة التأمينات الاجتماعية اعتادت سابقا أن تباشر رعاية ومتابعة صناديق التأمينات تلك لمصلحة أصحابها.
وحينما انطلقت فى مصر قبل سنوات هوجة تحويل مصر بسرعة إلى اقتصاد السوق فيما يساوى أو لا يساوى زاغت عيون بعض الدعاة الجدد على الأرصدة المتراكمة من أموال التأمينات الاجتماعية، وبكل مسئولية رفضت تلك الوزارة لسنوات استدراجها للموافقة على استخدام تلك الأموال فى البورصة المصرية التى يدعو صندوق النقد الدولى إلى تنشيطها.. ضمن مصالح أخرى.
وحدث قبل سنوات قليلة مثلا أن وقف الدكتور يوسف بطرس غالى وزير المالية يترافع فى البرلمان عن ضم المسئولية عن المعاشات والتأمينات الاجتماعية إلى وزارة المالية، وبفصاحته المشهودة قال الوزير إن ضم المسئولية عن تلك الأموال إلى وزارة المالية هو بمثابة إعطاء العيش إلى خبازه، حيث اعترفت له وزيرة سابقة للتأمينات بأنها شخصيا لا تفهم شيئا بالمرة عن هذه التأمينات.
بعدها تلقى الدكتور فتحى سرور رئيس مجلس الشعب رسالة من السيدة ميرفت التلاوى الوزيرة السابقة للتأمينات الاجتماعية قائلة إن من حقها أن تتلو رسالتها أمام المجلس لتصحيح ما قيل، وحسب الرسالة فقد قررت السيدة ميرفت التلاوى أن المرة الوحيدة التى ناقش فيها الدكتور يوسف بطرس غالى هذا الموضوع معها جرت عندما زارها فى مكتبها وبرفقته مدير بنك أمريكى قادم من نيويورك سعيا إلى الحصول على مدخرات التأمينات الاجتماعية المصرية، أو ما تيسر منها، لكى يستثمرها البنك الأمريكى بشكل أفضل، وفى المقابلة اتضح أن الوزير غالى متحمس تماما لهذا التوجه، وعند ذلك الحد وقفت السيدة ميرفت التلاوى مقررة إنهاء المقابلة فى رفض قاطع للطلب الأمريكى. ما جرى بعد ذلك معروف. ففى التشكيل الحكومى التالى جرى استبعاد السيدة ميرفت التلاوى من الوزارة.. وبعد فترة قصيرة أخرى جرى إلغاء وزارة الشئون الاجتماعية ذاتها، وضم التأمينات الاجتماعية إلى وزارة المالية ووزيرها يوسف بطرس غالى.
لابد من الإشارة هنا إلى أن ذلك البنك الأمريكى المتلهف على مدخرات المصريين لاستثمارها بشكل أفضل كما ادعى هو ذاته أحد الساقطين فى الأزمة المالية الطاحنة الأخيرة التى نشأت فى أمريكا. لابد من الإشارة أيضا إلى أن الملايين من أصحاب المعاشات فى أمريكا ضاعت عليهم النسبة الأكبر من مدخراتهم لأن الصناديق التى كانوا مشتركين فيها لسنوات طويلة قامرت بمدخراتهم فى البورصة وانهارت مع انهيارها.
قصر الكلام: نحن هنا أمام الحالة وعكسها، نحن أمام حالة من التنازل عن الدور الحكومى فأدت إلى أزمة رغيف العيش.. ثم حالة مضادة من تدخل الحكومة فيما يجب أن تبتعد عنه فنشأت المواجهة مع سبعة ملايين مواطن كل ما يريدونه هو عدم العبث بمدخراتهم ومعاشاتهم.
فى الحالتين.. أساس الأزمة هو المواقف الأيديولوجية المسبقة حتى بالتضحية بمصالح الناس. فمن أغراهم صندوق النقد الدولى بسياسات التجارة الحرة واقتصاد السوق، يريدون انكماش الدولة لتصبح مجرد سجان ورجل شرطة، وفى الأزمة المالية الحالية التى تسببت فيها أمريكا وصدرتها إلى العالم اكتشف الجميع -بثمن فادح- أن مصالح الناس أهم كثيرا من سجنها فى شعارات هنا أو رقابة غائبة هناك. وخرج جوردون براون رئيس وزراء بريطانيا معترفا بأنه «علينا أن ندرك أننا لا نعيش بالأسواق وحدها، وبالتالى لابد من تفكير جديد مختلف جذريا» من أجل إعادة الأمور إلى نصابها. أما نيكولا ساركوزى رئيس فرنسا فكان أكثر صراحة فى قوله: «يجب علينا عدم السماح لهؤلاء الذين قادونا إلى ما نحن فيه اليوم بأن يفعلوا بنا ذلك من جديد». هم يتعلمون ويصححون .. فهل نصحح نحن؟ وقبل ذلك .. هل نتعلم؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة