حينما يرتكبُ مواطنُهم مخالفةً مروريةً «هناك»، يستوقفه الضابطُ لدفع الغرامة، فيهتفُ المواطنُ: «أنا سعودى يا خوى، الله يرحم والديك!» فيدعه الضابطُ يمرّ لأنه ابنُ البلد، وصاحبُ المقام العالى فى وطنه. يعنى ليس وافدًا، أو حتى يمنيًّا ممن تَدرَّجَ بهم السلفُ هناك فغدوا مواطنين، لكنْ من الدرجة الثانية، وإذا ارتكبَ مواطنُهم، سالفُ الذكر، مخالفةً «هنا»، فى وطننا، أو حماقةً، خُلُقيةً أو إنسانيةً أو عنصرية، مما لا يُحصى من مخالفاتٍ تشهدها مصرُ على أرضِها كلَّ يوم، فإنهم، أيضًا، يمرّرون الأمرَ. لأنه ضيفٌ، ومصر تُكرمُ ضيوفَها ولا تُهينهم. أما مواطنُنا، كريمُ العُنصريْن، حقًّا لا شِعارا، فمهضومُ الحقِّ «هنا»، و«هناك»، رخيصٌ على حكومته هنا، ورخيصٌ على حكومتهم هناك!
لم ينسَ السعودى يوما أن مصرَ كانت تهبُ دولتَه، الفقيرةَ آنذاك، المالَ والطعامَ وتولمُ له الولائمَ وتفتحُ التِّكيّةَ للحجيج. ولم ينسَ أن مَلِكَ مصر كان يُسيّرُ المَحْملَ الأنيقَ يحمل كسوةَ الكعبة الشريفة هديةً من مصر كلَّ عام. ولم يقدر أبدا أن ينسى أن المصرى هو صانعُ حضارتهم منذ بداية القرن الماضى وحتى الآن. المدرسُ مصرىٌ. المهندسُ مصرىٌ. الطبيبُ والصيدلىّ وأستاذُ الجامعة والمحامى والمحاسبُ والعالِمُ، كلهم مصريون. أقول «لم ينس»، لا بالمعنى الطيب للعرفان بالجميل والامتنان للأيادى البيضاء التى مُدّت، بل «لم ينسها» بالمعنى السلبى. يعنى أسرها فى نفسه، مرارةً فى فمه، وغُصّةً فى حلقه، وصفدا فى عنقه، ودَيْنا أبديًّا لا يعرفُ كيف الفكاك منه، لأن هذا الدَينَ يظلُّ يؤرّقُ الصورةَ الجديدة التى رسمها له النفطُ والثراءُ المفاجئ. شىءٌ ما يشبه مسرحية «الزيارة» للسويسرى فريدريش دورنمات، حينما عادتِ السيدةُ العجوزُ الفقيرةُ إلى قريتها بعدما أصابها ثراءٌ فادح لتنتقم من فقراء بلدتها.. ورغم أن مصرَ أبدا لم تعاملِ السيدةَ العجوزَ كما عاملها أهلُ القرية أيام فقرها، فإن الأخيرةَ ترغبُ اليومَ فى الانتقام منها، بل وجَلْدِها!!
طيب، ألا يتحمل المصريون جزءًا من مسؤولية تلك المحنة؟ نعم بكل تأكيد، فسائقُ التاكسى المصرىُ الذى يقفُ للعُقال والشماغ، ويتجاهلُ مصريةً حُبلى منهكة، أو عجوزا لا تحمله قدماه، مُدانٌ مثلما حكومتنا مُدانةٌ. هذا السائقُ يتكرر فى صورٍ شتى ومواقعَ متباينة، هل نسى المصرى منبتَه الرفيع وجذورَه الحضارية الراقية التى عزَّ نظيرُها فى الكون، حتى يتهافتَ ويقلل من قدره ومكانته تحت زعم الفقر والعوز؟! يا ويح قلبى..
قبل شهر كنتُ فى طريقى للمشاركة فى مهرجان «عكاظ» الشعرى بالسعودية، فى طابور الجوازات بمطار القاهرة فوجئتُ بسيدة وأسرتها التى لا يقل عددُها عن عشرة أفراد، يقتحمون الطابورَ، فى غير دورهم! لم يعترض الموظف، لكننى اعترضت، فجاءنى ضابطٌ وهمس فى أذنى إنها سعودية، «ومعلش مفيهاش حاجة إلخ». فقلتُ بل فيها ألف حاجة لأنها لم تحترمِ النظام، ونظرتُ إلى بقية المصريين أستحثهم على الرفض والثورة، لكنهم أطرقوا ولم يعترض معى إلا شابٌ «مِسْتَبْيَع» مثلى، سارع الضابطُ حين عرف أننى صحفية، بأخذ باسبورى ليختمه، لكننى رفضتُ وظللت أعبئ الناسَ وأحرّضهم على الرفض، ولا من مجيب.ألا تعرفون كيف يتعاملون معنا فى مطاراتهم؟ ثمة طابور خاص لرعايا مجلس التعاون الخليجى، وطابور للأجانب الغربيين ذوى البشرة البيضاء والياقات العالية، ثم طابور آخر، طويل مثل الدهر، لبقية البشر «الوقيع» من مصريين وسوريين وعراقيين وهنود وبنجاليين وفلبينيين... إلخ. العمالةُ الوافدة التى تصنعُ بلادهم، ولا محل لها من الإعراب فى سلم الارتقاء البشرى، هل تعرفون أن كلمة «مصرى» يستخدمها السعوديون كـ«سُبّة»؟ كيف سمحنا بذلك؟ وما مدى مسئولية حكومتنا السعيدة عما وصلنا إليه؟ وإلى متى سنترك مصرَ المطرقةَ الحزينةَ، مطرقةً وحزينةً؟
لو أن موقفا مثل الذى يتعرض له أطباؤنا الآن هناك حدث لأوروبى أو أمريكى، معاذ الله، وهذا مستحيل طبعا، لقامت الدنيا، ولسُحب السفراءُ، ولاستعادتِ الدولُ كلَّ عمالتها فورا، فينهارُ كيانُ البلد التى تجلدُ أبناءنا، لكن مصرَ العظيمة الجميلةَ الفاتحةَ ذارعيها، على فقرِها، للعالمين، ضاقت بأبنائها فلفظتهم، ولا عزاءَ لمصطفى كامل الذى مات على شريعة: «لو لم أكن مصريا»
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة