يقول الشيخُ الكفيف عبد البارى: «أنتمْ لا تستحقونَ أيَّ شىء! ربنا عماكم لسواد قلوبكم فسوَّد الدنيا أمامكم». ردّ عليه زميلُه المثقف، الكفيف أيضا، باستنكار: «الله! هو إنت مش معانا برضو واللا إيه يا مولانا، يعنى أعمى زينا برضو؟!»، فهتف الشيخ: «لااااااااا! أنا مؤمن، والمؤمن مُصاب!».
ليس هذا، وحسب، مقتطفا من حوار فى مسرحية «وجهة نظر» الفاتنة، شأن كل أعمالهما المشتركة، محمد صبحى ولينين الرملى، (خسارة فادحة أن انفصلا!)، بل إن هذا القولَ وهذه الرؤية إن هى إلا ثقافةٌ ووعىٌ وطريقةُ نظر إلى العالم. ثقافةُ تفسير الأمر حسب الهوى واللحظة والمِزاج والمصلحة الشخصية. المسرحية، وإن دارت فى الحقل المحدود لفاقدى البصر، إلا أنها تنسحب على شريحة ضخمة من مجتمعنا، من أسف. فاقدُ البصر، بالمعنى الأشمل، ليس من فقد عينيه، بل من فقد المقدرة على رؤية الحقّ والجمال، وإن اتسعت عيناه. فضلا عن المقدرة على إنتاجه، ثم المحافظة عليه. كل ما نحياه الآن من ظواهرَ سالبة حدثت فى اطّراد منتظم مع تدهور الوعى، المطّرد كذلك مع انخفاض قيم الجمال فى مصر، الراهنة، التى كانت واحدة من أعظم وأجمل وأرقى دول العالم، حتى الستينيات الماضية.
كلماتُ المفتتح ليست حوارا بين اثنين من المكفوفين، أحدهما واعٍ مثقف عاقل، والآخر مُغيَّب جاهلٌ ناقل، بل هى تلخيصٌ وافٍ لثقافة أمة وسلوكها فى مواجهة الكوارث. إذا حدث زلزالٌ فى الصين، فهو غضبٌ من الله لأنهم كفرة، وإنْ ضرب إعصارٌ سانت كارولينا فذاك عقابٌ أنزله المولى تعالى على أمريكا الظالمة التى لا تنصرُ العربَ، خيرَ أمّة أُخرجت للناس، على إسرائيل، الحقيرة عدو الله. أما إذا ضرب الزلزالُ ذاته تركيا فهى مجرد «قرصة ودن» لكى تفيق من غِيّها وتطبق الإسلام الصح، يعنى الطالبانى الوهابى الذى شرّعه الله(!)، وليس على النهج الأتاتوركى العلمانى الخليع المودرن.
وأنْ تشتعل الحرائقُ كلَّ يوم فى بقعة من بقاع مصر، مجلس الشورى، المسرح القومى، مصانع ومدارس وعمارات وصخور تندكُّ فوق رؤوس قاطنيها إلخ، فلأننا مؤمنون، والمؤمنُ مُصاب! أو، على أسوأ الفروض، هو إنذار من الله لأن المصريين لم يطبقوا الشعارَ الذى رفعه المدُّ الدينى: الإسلام هو الحل، ولأن النساءَ لسن محجبات كلّهن، (مع أن 90 % من المصريات تحجبن، إما ذاك الحجاب الكوميدى الفاضح الذى نراه فى الجامعة والشارع والنادى، أو ذاك الزىّ الوهابىّ المخيف الذى استوردناه من الخليج بعدما أضحى النموذجُ البترو-دولارى هو الأرقى!)، لكنه ليس غضبا من الله علينا بسبب الرشاوى والفساد وتجويع الناس، والظلم، والسكوت على الظلم، وبطش رجال الشرطة بالمواطنين، وانعدام العمل، وإهدار الوقت، وكراهة النجاح ومحاربته، وقمع الرأى، وذبح الأشجار، وتلويث الطبيعة، وانسحاق قيمة الجمال، وقذارة الماء والطعام والهواء والأدوية والبيئة، وأعمدة الإنارة التى تصعق الأطفال، وبالوعات الصرف التى تبتلعهم، والبنايات التى تنهار فوق رؤوس الخلق، والكبارى التى تسقط، والشوارع المدغدغة رغم جبى الضرائب، وسرقات الأعضاء البشرية فى المستشفيات، إلى آخر ما لو طرحتُه لاحتجتُ سِفرا ضخما لا ينتهى! اللهُ يتربصُ بمن تكشفُ شعرَها، لكنه يسامح زاهقَ ال 99 روحا مادام اعتذر فى الأخير ووعد أنْ لن يكررها!
رموزٌ لا تُحصى سرّبها لينين الرملى فى مسرحيته لفضح الواقع المشوِّه الذى نحياه.
كتاب «حقوق الإنسان» فى يد المكفوف، صادره رئيسُ المؤسسة (يعنى الحكومة)، واعتبره أحدَ الكتب الممنوعة! طبعا! فمِن أخطرِ الأخطريْن على النُظم الحاكمة الفاشية أن يعرف المواطنون حقوقَهم. لو قرأ الكفيفُ هذا الكتابَ لأبصر. ولو عرف المواطنُ حقّه لدى حاكمه لاشتعلت ثورةٌ فى اليوم التالى.
لكن الحكومةَ وفقهاءَ التغييب، يُعبّئون وعىَ الناس بأن كلَّ ما نحياه من مِحنٍ هو قدرٌ مقدور أو امتحانٌ من الله لقياس مدى صبرنا! ثم: «الحمدُ لله أنْ أعمى عيونَنا حتى لا نراهنّ، صدقونى يا إخوان، النسااااءُ فتنة، الأمواااالُ فتنة، الطعاااامُ فتنة»، هكذا يهتفُ الشيخُ عبد البارى، على أنه سيكون الأسرعَ ركضا نحو قاعة الطعام بمجرد سماع جرس الغداء!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة