جدتى فنانة من أصول مغربية، هندية أو أفريقية، هذا على الأقل ما أراه فى تسريحة شعرها الغريبة، بجدائلها الصغيرة المتراصة. تشرب كل يوم قهوة الصباح فى الحديقة المنزلية، تنطلق بعدها لتفتح دكانها الصغير الملاصق لمنزلنا، حاملة معها عدة الثقافة كما نسميها، أتصدقون، تقرأ جان بول سارتر، عبد الرحمن مناف، تشارلز ديكنز، نجيب محفوظ، ألبيرت كامو، جبرا إبراهيم جبرا، وغيرهم الكثير.
لجدتى عينان بنيتان، تتغيران حسب الألوان المحيطة بهما، فمع تواجدها المباشر تحت أشعة الشمس يميل لونهما للأصفر العسلى، كسنابل القمح الذهبية فى آخر الموسم أى وقت قطافها، و إذا تواجدت بجانب محيط أخضر تصير عيناها خضراء فاتحة كما البرقوق قبيل استوائه، أما إذا نظرت إليهما بعمق، فإننى متأكدة بأنه سيصيبك شىء من الخوف أو الدهشة، لأنك سترى فيهما قدرك، وكأنها تتنبأ لك بالمستقبل، ولكنك وحدك ووحدك فقط القادر على قراءته فى عينيها.
بشرتها حنطية معجونة بلون الأرض، وهى من النوع الذى لا تظهر عليه آثار الزمن، فلو رأيتها لن تعرف أنها تعدت السبعين أو ما إلى ذلك.
لجدتى أصدقاء من كل الطوائف، لها صديقة أمريكية كاثوليكية، وأخرى بروتستانت، والثالثة فرانسيسكان، ولاتين، وأخرى روم أرثودوكس، لها صديقة فى العراق سنية، و صديق فى إيران شيعى متزوج من أفغانية سنية، لها صديقة فى فرنسا يهودية متزوجة من رجل لا دين له، و تعرف رجل دين بوذى يعيش فى التيبت، ولها أصدقاء فى أستراليا هاجروا منذ الأزل لا يعرفون لهم وطن ولا دين، تعرف كذلك امرأة أفريقية عشقت رجلاً عربياً مسلماً كان يدرس فى بلادها وتزوجا ليعيشا معاً فى أسبانيا.
أقول لها ما الذى يجمعك مع هؤلاء، تجيبنى بكل استغراب واستنكار أو ليسوا بشراً من لحم ودم؟ أو ليست أصولهم من طين؟
أظل صامتة أمامها، استأذنتنى مرة لاستعمال حاسوبى الشخصى، قالت أيمكن أن تصليه بالشبكة العنكبوتية؟ قلت: ولم؟ ألك بريد إلكترونى؟ استهجنت على سؤالى، وأجابت أنت لا تعرفين شيئاً، فقد ولدت البارحة، أو تظنين لأنك تستخدمين هذا الشىء الذى يأتيك بالأخبار والمعلومات من كل بقاع الأرض، تكونين الأعرف والأدرى؟ أجل لدى بريد إلكترونى، كان هذا سرى، وإلا بعد انتهاء عهد الرسائل، كيف سأتواصل مع كل أصدقائى الذين ذكرتهم فى البداية، لقد أصبح لكل منهم بريده الإلكترونى الخاص، وأنا لدى واحد أيضاً.
قاطعنا شاب جامعى مر من باب الدكان، عندما رأى جدتى منهمكة بعملها بالحاسوب، ألقى عليها التحية، أجابته جدتى ببرود: أهلاً، قال بعدها منسحباً: وداعاً، عرف أنه لم يثر انتباهها هذه المرة، ولكنها أحست بذلك، نادته: سامر، عاد إليها، سألها إذا كانت تريد شيئاً، قالت له: كيف كان امتحانك اليوم؟ قال: جيد، قالت: ما بك يا ولد، كل ما تدرسه هو العلاقات الدولية، تذكر فقط السياسة، المصالح والمال هذه هى العلاقات الدولية بالمختصر قال، صدقت يا جدتى، أراك لاحقاً لنتناقش فى أمور الشيوعية وكيف انهار هذا الاتحاد، قالت: أجل، أذكر أننا فى المرة السابقة وصلنا إلى أسباب انهيار روسيا الشيوعية، وقلنا أننا سنكمل نتائج هذا الانهيار على روسيا نفسها والدول الشيوعية الأخرى والعالم. وأكملت قائلة: لا تنسى أن تحضر معك قصة الغريب لألبيرت كامو، أريد أن نناقش موضوعها أيضا.
سامر: حسناً، أراك لاحقاً،غداً هو آخر امتحان لى، وبعدها أكون متفرغاً للثقافة، أراك، قالت جدتى: لا تطل غيابك عنى، انطلق الشاب فى طريقه، لم أذكر أننى رأيته قبل ذلك، لا أدرى من أين تعرفه جدتى؟.
هى تربكنى أحياناً، فلم أعرف يوماً أنها تعرف كل هذا، ويأتى غريب صدفة يعرف عنها ومنها أكثر مما أعرف أنا. وفى موضوع آخر سألتها يوما: لماذا تزوجت جدى؟ وكيف؟ فهى امرأة واعية مثقفة ذات ملامح وطباع عربية أصيلة وعقل غربى أحيانا، وجدى رجل بسيط شجاع لا يذكر إلا أنه حارب الأعداء فى عدة معارك وهزم فيها كما حصل مع كل العرب، وبذلك بقى عقله وكل حواسه هناك حيث المعارك، الدماء، القتلى، الجرحى والأسرى.
نظرت إلىّ باستغراب وقالت: اليوم فقط عرفت أنك كبرت، لقد عشت طويلاً متمنية اليوم الذى يكبر فيه أحد صغار هذه العائلة، عرفت أننا سنتفاهم، سأخبرك عن السر الذى يربطنى بجدك، هذا السر متعلق بالانتماء، تزوجته بسبب انتمائه الشديد لقضية وشعب، وهذا ما سيربطنى به إلى الأبد، كنت وأهلى نسكن الكويت عندما التقيت به لأول مرة، عرفت حينها أنه رجل محارب لأجل قضية وشعب فلسطين، لم يعنينى وقتها ما القضية ولكن الذى جذبنى إليه هو قوة إيمانه بها وبعدالتها، قاتل لأجل ذلك، حتى أنه ما يزال حتى يومنا هذا فى ساحات الحروب، إذاً فهو لم يتحرر بعد، كما لم تتحرر أرضه، سجن نفسه فى عالم بعيد غامض وما زال ينتظر بصيص أمل يأتى من بعيد.
لجدتى ثلاث حمامات بيضاء جوليا وفاطمة وأديل، سألتها لم هذا التناقض بين هذه الأسماء، قالت أطلقت عليهن هذه الأسماء لأننى أردت أن أجمع فيهن معظم الثقافات (جوليا تمثل الثقافة الأمريكية والبريطانية، فاطمة العربية الإسلامية، وأديل الثقافة الفرنسية التى تنبع من نهر السين)، و أصدقك قولاً بأننى فى فترة من الفترات لم أعرف لأى ثقافة أنتمى.. (أتذكرين لم أعجبت بجدك؟ لأنه عرف من هو ولمن ينتمى، أم أنك نسيت؟)، فأنا مزيج معقد من الثقافات، أحياناً أضيع فى نفسى، أسرح بعيداً لأجدنى بين أهرامات مصر العظيمة وأظن نفسى أميرة فرعونية فى قصر ملئ بالأسرار، وأحياناً أخرى أجد نفسى متسللة إلى أحد قصور السلاطين العثمانيين بدون استأذان، أذهب معهم حيث الأندلس وأحضر حلقة شعرية كان يلقيها أعظم شعراء ذلك العصر، أرى نوافير المياه والحدائق التى تعج بألوان الورود الزاهية، وما إلى ذلك من تلك الحقبة المليئة بالحياة والأسرار العجيبة.
لجدتى ألف تاريخ ميلاد، سألتها يوما فى أى شهر وأى عام ولدت؟ قالت ولم لا تسأليننى متى توفيت؟ ظننتها تستهزئ بى، و إذا بها تكمل ما بدأت، قالت: سأصدقك القول، ولدت اليوم صباحاً، أردت أن أضحك بينى وبين نفسى، أكملت، ولدت البارحة وقبل البارحة واليوم الذى قبله وهكذا دواليك، فأنا يا حبيبتى أولد كل يوم، وإذا أردت أن تعيشى الحياة بطريقة أخرى فعليك أن تولدى وتعيشى كل يوم بيومه.
وأما عن الموت، فأنا أنهى كل يوم بموتى، أموت كل ما وضعت رأسى على وسادتى، لينتهى يوم آخر من الأيام التى عشتها.
جدتى ما عادت معى اليوم، لقد رحلت، بدأت رحلتها الطويلة والتى لا عودة منها أبداً ولن يكون بعدها يوم ولادة جديد، رحلت بعيداً، لست أذكر متى حصل ذلك تماماً، قد يكون اليوم، البارحة، قبل البارحة، منذ ثلاثة أو أربعة أيام، منذ شهر أو سنة، الذى أعرفه تماماً هو أنها رحلت، ولكنها باقية فى ذاكرتى، تركت لى دفتر مذكراتها، كتبها، و أشيائها الخاصة الصغيرة، أعتطنى قبل رحيلها مفتاح الصندوق الذى كانت تخبئ فيه كل أسرارها، كنت سعيدة بهذه الثقة، ومن بعد اليوم سأكتب لكم عن الأشياء التى دونتها جدتى فى دفترها السرى الصغير وما كتبت على هوامش الكتب.
القارئة أسماء الصباح تكتب: جدتى وحماماتها الثلاث
الأحد، 21 ديسمبر 2008 12:20 ص
أسماء صبّاح
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة