يبدو السؤال صعبا ويحمل قدرا لا بأس به من العمومية، ولكن وقت طرحه قد حان، بعد ما أصبح واضحا للجميع أن محاولات مداواة الفتنة تزيدها اشتعالا بدلا من أن تخمدها.
السؤال الصعب يقول: هل الصحافة المصرية مسئولة عن الفتنة؟ أو بشكل آخر هل يمكننا وصف الصحافة المصرية بصحافة الفتنة؟.
يبدو السؤال قاسيا ولكنه منطقى، وبقدر قسوته ومنطقه، لا يمكنك أن تجد له إجابة قاطعة، فهو نوع من الأسئلة الرمادية التى لا ينفعها إجابات الـ«نعم» والـ«لا»، والسبب بسيط لأن الفصل بين ما تقرأه على صفحات الجرائد وما يحدث فى الشارع، صعب جدا فى ظل مجتمع تتشابك خيوطه بشكل عنكبوتى كثيرا ما تتوه بداخلها الحقائق.
غير أن واحدة من تلك الحقائق التى لا يمكن أن تتوه، هى أن الدولة التى تتبع سياسة دفن المعلومات فى الرمال، والتعتيم، وتخاف مواجهة مشاكلها، وترفع راية كل شىء جميل كل شىء تمام، حرمت الصحفى ومعه المواطن من متعة الشفافية،فأحالت الصحفى إلى لص يسرق المعلومات، أو مزور يتلاعب فى القليل مما يحصل عليه، فيشوهه متعمدا، حتى يحصل على قصة تحقق لجريدته رواجا على الأرصفة بغض النظرعن النتائج، مثلما حدث فى قضية «وفاء قسطنطين» حينما تعمدت الدولة تغييب الحقائق، فتاهت بعض الصحف، وتعمدت صحف أخرى أن تصنع قصصا خيالية تأخذها نحو أرقام توزيع أكبر فى وطن يعلم الجميع مدى سيطرة العاطفة على تفكير بسطائه.
لحظة من التوقف هنا لنستوضح فيها أمرا مهما، ليس دفاعا عن الصحافة أن نشير إلى مسئولية الدولة المباشرة عن «الفتنة»، فحينما لا تجد الصحافة من يفتح لها الطرق المشروعة نحو المعلومة الصحيحة، ولا تجد من يحاسبها إذا لجأت إلى الطرق غير المشروعة سواء بالتلفيق أو التزوير أو الإثارة، فنحن أمام سياسة جديدة تحكم الأمر اسمها سياسية المولد، لا يمكنك خلالها أن تلقى باللوم على شخص بعينه لأن الكل يترنح مرة يمينا ومرة يسارا.
وللإنصاف لابد أن نعترف أن بعض الصحف تترنح متعمدة، تلتقط أصغر حادثة قد تتخيلها وتصنع منها حربا بمانشيتات ساخنة، بشرط أن يكون الطرف الأول مسلما، والطرف الثانى مسيحيا، خلطة جديدة ابتكرتها بعض الصحف إما رغبة منها فى الهروب من مواجهة سياسية مع الحكومة،أو يقينها بأن التجارة بالدين على الصفحات الأولى ذات مردود مادى أفضل.
الصحافة إذن تصنع الفتنة، هذه قد تبدو إجابة عن السؤال ولكنها غير مكتملة، إذا لم نشر إلى أن صحافة الفتنة نوعان.. الأول غير متعمد يسقط فى فخ غياب المعلومة، وتضارب التصريحات، وقلة وعى وتدريب قياداته وصحفييه، والثانى يفعلها مع سبق الإصرار والترصد، سعيا خلف عنوان ساخن ورواج أكثر سخونة، خاصة أن أقل ما توصف به العلاقة بين المسلمين والمسيحيين فى مصر أنها علاقة «رذلة» لا رأس لها من قدم ،تخضع لقوانين غير تلك القوانين التى تحكمنا أو التى آمنا بها، فى الكتاب السماوى لكل منهما المزيد والمزيد من آيات وكلمات الحكمة والسماحة والغفران.. ومع ذلك تحمل الممارسات اليومية والحياتية بينهما أعنف أنواع سوء التفاهم، وأقسى أنواع الكره والغضب، علاقة لا تعترف الدولة برذالتها وخطورتها وتنساق الصحافة خلف تفاصيلها دون أن تعى الأزمة المعترف بها من قبل ميكروفونات المساجد، التى تعلو أصوات الخاطبين فيها بالدعاء على النصارى وتكفير غير المسلمين، مع أن الداعى يعلم يقينا أن بالشقة التى تعلو المسجد أسرة مسيحية تسكن، أزمة تسجلها تلك العظات التى تتضمن المزيد من الغمز واللمز فى حق المسلمين، كما تتضمن نفس عبارات التكفير لهم.
نحن إذن، أمام حالتين من التزوير، وكل يفعلها على طريقته، الدولة تزور فى صورة تمتلئ بملامح مشوهة لتجميلها حتى تقول للناس إنها مسيطرة، والصحافة تزور فى الصورة بإضافة المزيد من التشويه على الملامح المشوهة أصلا، حتى تصنع الإثارة وبالتالى الانتشار، وفى نفس الوقت تنتقم من الدولة التى تعاملها معاملة اللصوص عن طريق إظهار ضعفها وكذبها للناس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة