تعودت، وآليت على نفسى عهدا، أن أنشر مقالاً عن فيروز فى عيد ميلادها فى نوفمبر من كل عام، مقالا محبا بقدر ما منحتنى فيروز من بهجة، وطاقة حب للحياة، وقوة أواجه بها الواقع وعثراته، لم أوفها حقها أبدا، ولن أوفيها، لأن ما منحتنى، وتمنحنى كل نهار أكبر جداً من قدرتى على رد الجميل، وإن حاولت، هذا العام فكرت على نحو مختلف، لن أكتب مقالاً لها، أو عنها، لأن الكثير مما قد يقال فيها يظل قليلاً، لكننى سأكتب عن موسوعة جميلة كتبت حول تجربتها الثرية فى المسرح مع رفيقى رحلتها الأخوين رحبانى.
أما صاحب هذه الموسوعة فأحد المفتونين بالإبداع الرحبانى الفريد، هو مفيد مسوح، كاتب من سوريا وبروفيسور فى الجيولوجيا، قدم للمكتبة العربية سِفرا غنيا عنوانه «جماليات الإبداع الرحبانى» عن دار «بيسان» فى بيروت تناول فيه بالتحليل النقدى الجمالى المفصل أحد دروب منجزهم الإبداعى المتنوع: هو المسرح الرحبانى، بدءا من 1960 وحتى 1977، وقال منصور الرحبانى عن الموسوعة «مع مفيد مسوح أعدت قراءة الأعمال الرحبانية بعينى القارئ لا المؤلف، فإذا بها، على قلم هذا الباحث الأمين، إضافة عالية راقية إلى الرسالة الرحبانية التى كم كنا، عاصى وأنا، نحلم أن تبلغ الناس كما أردناها لهم».
من ملامح ثراء تلك الموسوعة تقديم المؤلف كامل السياق الحضارى، والفلكلورى والبيئى والثقافى الذى أرهص لكتابة هذه المسرحية أو تلك، ففى مسرحية «موسم العز» يرسم لنا صورة قلمية شاملة لطبيعة الضيعة اللبنانية النموذجية التى تحتفى بتضفير «الحب مع العمل» لدى أهلها عبر الزمن معلية من شأن العمل الجماعى المرتبط بالأرض ومواسم الحصاد، موسم العز، أو موسم قطف الحرير الذى تنتجه دودة القز الجميلة، وما يصاحب ذلك من مواسم أعراس لشباب الضيعة وصبياتها، ثم يورد مقولة عاصى فى هذا الشأن: «إن الرائع هو ما كان منسجما مع الطبيعة والحياة».
فى المسرحية الشهيرة «بياع الخواتم»، نتعرف على فكرة «صناعة الخوف»، من أجل حشد أبناء الوطن وطاقتهم على مشروع يجمع شتاتهم ويوحد صفوفهم من أجل مواجهة خطر قادم، مختار الضيعة يخترع شخصية وهمية أسماها «راجح»، وهو شرير جاء لمهاجمة القرية، حتى إنه سيغدو لدى أبنائها «الفزاعة المرعبة»، يهابون بطشه مع أنهم لم يروه أبداً بل يسمعون عن حكاياه المخيفة التى يحكيها المختار دون دليل ملموس على حدوثها، فيصدقونه ويخافون، وحين تتجسد الشخصية أمام عيونهم رجلا حقيقيا يكتشفون أنه ليس إلا بياع الخواتم الذى جاء ليزين معاصم بنات القرية بأساوره وخواتمه، ثم يخطب لابنه غادتهم الجميلة «ريما»، فينقلب الخوف مرحاً وفرحاً وتعلو من جديد قيمة الحب، التى أفرزها الخوف والترقب، رح نحكى قصة ضيعة/ لا القصة صحيحة/ ولا الضيعة موجودة/ بس بليلة/ هوى وضجران/ خرتش إنسان ع ورقة/ صارت القصة/ وعمرت الضيعة، هذا التعميم والتمويه جاء من أجل تأكيد أن هذه الضيعة هى كل ضياع العالم، وأن «صناعة الطاغية» أو صناعة الرمز، إنما هى فكرة إنسانية وسياسية عامة مارسها جميع الزعماء فى كل مراحل الخمول أو الضجر: الأهالى بدن حكاية/ أنا خلقتلّن لحكاية/ تايقولوا إنى بحميهن/ من مجهول عليهن جايى. «هايدى يا ريما مش كذبة/ هايدى شغلة حد الكذبة/ بتوعى فيهن بطولة/ بتقطف من إشيا مجهولة، أو حتى فى لحظات الهزيمة تجتهد الشعوب لخلق رمز أو بطل لتجتمع حوله قلوب الناس، أنا جايى بيع/ هدايا المحبة/ ولون الصبايع/ بموسم هالخطبة/ أنا يا حلواية/ صحبة الرضى/ بياع الفرح.
نحن بصدد جهد رفيع جاد، ولغة راقية، وقراءة عميقة واعية، وإخراج أنيق، يليق بمحتواه، جعل من هذا الكتاب الموسوعى الشامل عملاً فاتنا يليق بكنز عربى عز نظيره، اسمه: التراث الرحبانى.
لمعلوماتك..
◄ ولدت فيروز «نهاد حداد» فى 21 نوفمبر لعام 1935.
◄ غنت لأول مرة فى حفل مدرسى عام 1946 , وسمعها محمد فليفل أستاذ فى المعهد الموسيقى، حيث درست به لأربع سنوات.
◄ أول أغنية لها كانت «تركت قلبى وطاوعت حبك» عام 1950.
◄ أول أغانيها لحنها لها عاصى الرحبانى عام 1951.
◄ بعد نجاح اغنيتها «عتاب» تشكل الثلاثى فيروز وعاصى ومنصور الرحبانى.
◄ وتزوجت عاصى عام 1954.
◄ أول حفلة لها كانت فى صيف عام 1957.
◄ آخر ألبوم لها كان بعنوان «مش كاين هيك تكون» صدر فى العام قبل الماضى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة