لا أشاهدُ التليفزيون أبدا، هذا من فضل ربى، والأمرُ بدأ منذ سنوات طوال مع حرب العراق الأولى، وقتَ تحوَّل القتلى إلى مجرد أرقام فى عَدّاد! فيباغتنا المذيعُ، فى مستهلِّ النشرة الإخبارية، على نحوٍ حيادىّ لا إنسانىّ، والحيادُ من أهم أدوات المذيع دون ريب، بالجملة الشهيرة: «لقى خمسون شخصا على الأقل مصرعهم فى انفجار شهدته العاصمةُ...» (!!!) هذه الجملةُ الضّدُّ- وجودية، على تكرارها شبه اليومىّ، لم أفهمها أبدا! لم يستطع عقلى تصوّرَ القتيلِ رقما! والقتلى عِدادا! كأنما نحصى قطعَ حلوى أو دُمىَ أطفال! كلُّ شهيدٍ من ديارنا، أو حتى كلُّ قتيلٍ من ديار العدو، (ذاك أن صريعَنا شهيدٌ، وصريعَهم قتيل)، هو منظومةُ حياةٍ كاملة. له زوجةٌ وأطفالٌ وبيتٌ وأصهار، له أمٌّ ثكلى وأبٌ مكلومٌ وإخوةٌ وأخواتٌ وأولادُ إخوة، له أصدقاءُ وجيرانٌ ومعارفُ، وله عملٌ، وزملاءُ عملٍ ومدرسةٍ وجامعة. وكانت له مشاريعُ وأحلامٌ وأمانٍ ماتت معه، وله، فوق هذا، حبيبةٌ قديمة تحتفظُ فى دُرجِها السِّرىّ بصورته وبعض خطابات مربوطةٍ بشريطٍ أحمرَ. لكنه، أبدًا، ليس رقما! المهم أن نفورى من التليفزيون بدأ رفضا لفكرة الاختصار فى رقم، ثم أصبح عادةً، ثم غدا نعيما ورغدا. ذاك أننى اكتشفتُ كمَّ الرفاه النفسىّ والروحىّ الذى أحياه بعيدا عن هذا الجهاز مُفرِّغ الروح والعقل، وكمَّ الساعات التى أوفّر، ومن ثم خَلُصَ وقتى للقراءة والموسيقى. على أن الأمر لا يسلم. فقد يتصادف أن أدلفَ غرفةَ الأولاد فألتقطُ فقرةً من هنا أو مشهدًا من هناك.
فإن كنتَ مثلى ممن يشاهدون التليفزيون نادرا، فسوف تكون طاقةُ الملاحظة لديك أقوى، لأنكَ لم تُؤسر بفخِّ الاعتياد. فالاعتيادُ يجعل الغريبَ عاديًّا، والشاذَّ طبيعيا غيرَ ملحوظ. لذا، فمجسّاتُ الملاحظة عندى لم تزل بعنفوانها. فهل من الصدفة، فى مرّات مشاهدتى المعدودة، أن أُصدَم بمذيعين ومذيعات لا يعرفون ولا يعرفن من العربية إلا بقدر ما نعرف من الصينية؟! نجد مذيعةً أفهموها أن الرِّقّة والأنوثةَ والعذوبةَ تتطلبُ أن تقلبَ: الصَّادَ سِينًا، والضَّادَ دالا، والظَّاء زايًا، والقافَ كافًا، والطاءَ تاءً. فتجد عبارات مثل: الكاهرة عاسمةُ مِسْر؛ يعنى: القاهرة عاصمةُ مصر، يَدلُّ التريك؛ يعني: يضلُّ الطريق! وربنا ميرداش بالزُّلم، طبعا يعنى الظلم، ثم تتحوّل اللامُ الشمسيةُ لامًا قمرية، لزوم الأنوثة أيضا، فتجد كلماتٍ مثل: الْشكاوى، الْسَنوات، الْضمير، الْطَبيب الْدُكتور، الْتَنمية؛ بدلا من: الشَّكاوى، السَّنوات، الضَّمير، الطَّبيب الدّكتور، التَّنمية، الخ. وطبعا سيدخل ضمن قائمة الرقة والأنوثة تحويلُ همزاتِ الوصل إلى همزاتِ قطع. فنجد مفردة «الاحترام» قد تحوّلت إلى «الإحترام»، و«الاستقلال» إلى «الإستقلال»، وهلم جرا!! كلُّ ما سبق يخصُّ نطقَ الحرف العربىّ، ومخارج اللفظ وحسب، أما فيما يخصُّ النحوَ والصرفَ فالمهزلة بحق مُبكية.
ولا أدرى، للحق، ما هى المعايير التى يتمُّ على أساسها اختبارُ واختيارُ المذيعين المصريين الآن؟ فيشهدُ المُشاهِدُ المصرىُّ هذا الذبحَ اليومىّ للّغة العربية، فتُطرقُ، اللغةُ، أسفا وحَزَنا من قسوة وجهالة أبنائها؟ ولا يفوتنى، حُكما، أن أستثنى مذيعاتِ ومذيعى الإذاعة المصرية؛ وهم أساتذةُ لغةٍ وبيان. وكذلك معظم مذيعى قناة النيل الثقافية مثل الشاعرين: محمود شرف وهند القاضى، وحسن الشاذلى، وأحمد مرسال، وكذا عزة مصطفى، ومنى الشاذلى، وغيرهم القلّة القليلة التى تحترم لسانَنا العربىّ، وتحترم المشاهِدَ المصرىّ.
أمّا زمانُنا الجميلُ الفائت، حين كانت مصرُ دُرّةَ الشرق بحق، وهى ما تزال هكذا عندى رغم ما يجرى، فقد شهد نماذجَ أقلُّ ما توصف به أنها فاتنةٌ، وهل ننسى اللسانَ العربىَّ السليم الذى لم يلْحنْ ولم يلتوِ لكلٍّ من الفاتنتيْن: سلوى حجازى، رغم ثقافتها الفرنسية، وليلى رستم، رغم أنها خريجة الجامعة الأمريكية؟ وحتى من الجيل الأحدث شهدنا رموزا رفيعةً راقية جمعتْ بين سعة الثقافة وفصاحة اللسان. رموزٌ تربينا على سماعها فاستقامتْ أُذنُنا، وانتظمَ لسانُنا العربىُّ مثل: محمود سلطان، وزينب سويدان، وزينب الحكيم، وهمّت مصطفى، وأحمد سمير، وسواهم من أيقوناتنا الجميلة التى لا تُنسى. أين نحن من هؤلاء؟!.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة