د.سعيد اللاوندي

"المسكوت عنه" فى الديمقراطيات العربية

الخميس، 03 أبريل 2008 11:49 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى الديمقراطيات الحديثة تتقلص كثيراً "مساحة المعتم "ليصبح كل شئ (أو معظمه) تحت الأضواء الكاشفة، بحيث يراه الناس ويفهمون أسبابه، ويحاطون علماً بكل أبعاده..
واختفت ـ تبعاً لذلك ـ الأسباب الأمنية التى لطالما كانت ستاراً يحجب ممارسات غير منطقية، وضد المصلحة العامة، ولا إنسانية (فى بعض الأحيان).
وهذه الديمقراطيات أعطت للمواطن العادى الحق فى أن يعرف، كاسراً جميع التابوهات (فهو الدولة ، والدولة هو...) وبالتالى فلا شئ غامض لأن مصلحته هى الهدف (والمبتغى) من كل سياسة أو قرار..
وبقدر غياب (مساحة المعتم) تكون هناك شفافية، بحيث تكون السياسات واضحة، ودوافع القرارات مفهومة.. أقول ذلك وفى ذهنى موقف عاشته فرنسا قبل عدة أشهر وكان بطله الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى.. فكلنا يذكر أن الدنيا فى فرنسا (قامت ولم تقعد) اعتراضاً على زيارة العقيد معمر القذافى قائد الثورة الليبية لفرنسا، واتسعت دوائر الاعتراض فشملت الأحزاب والنقابات والاتحادات، ولم يكن المواطن العادى بعيداً عن هذه الدوائر. وغرقت باريس بالأسئلة والاستنكارات، إذ كيف تطأ قدم ممول الإرهاب ـ هكذا قالوا ـ ويقصدون القذافى، أرض باريس، وكيف له أن يستقبل فى قصر الإليزيه ويداه ملطخة بدماء ضحايا طائرة لوكيربى..
ووصلت الاعتراضات عنان السماء وصمت الآذان .. وبدا الأمر (صراعاً) أو ما يشبه ذلك بين الشعب الفرنسى ورئيسه الجديد نيكولا ساركوزى.. خصوصاً بعد أن تبنت الصحف الكبرى القضية، واعتبرتها حقاً ديمقراطياً لا يجب التنازل عنه : فالمواطن الفرنسى يريد أن يعرف مبررات هذه الزيارة .. ولم يعد يقبل ما كان يقال دوماً ـ فى مثل هذه الحالات ـ وهو أن الأمر يدخل فى دائرة الأسرار الوطنية، والأمن القومى ومقتضيات المصلحة العليا .. فالشفافية باتت واجبة ومطلوبة .. والمواطن هنا لا يطلب سوى حقه فى أن يعرف .. هذا الحق الذى تكفله الدساتير الديمقراطية، وتلزم به القادة والرؤساء وأولى الأمر، ولا تقبل فى الإخلال به عذراً أو تبريراً.
وأمام صخب المعارضة فى فرنسا اضطر الرئيس نيكولا ساركوزى أن يترك ضيفه فى قصر الإليزيه ويعقد مؤتمراً صحفياً بشكل مفاجئ، لم ينكر فيه حق الشعب الفرنسى فى أن يعرف دوافع وأسباب دعوته للعقيد القذافى لزيارة فرنسا .. ولم يتذرع بالأمن القومى الفرنسى الذى لا يجب أن يفشى أسراره، ليفصح ـ علانية ـ عن هذه الأسباب .. فذكر مثلاً أن قائد الثورة الليبية قد اعترف بخطئه، وأعلن توبته عن دعم الإرهاب، والدليل على ذلك أنه دفع تعويضات ضخمة لضحايا لوكيربى بلغت نحو عشرة ملايين دولار لكل ضحية .. وكان يتعين ، والكلام مازال للرئيس الفرنسى ـ أن نساعده فى العودة إلى المجتمع الدولى لإدماجه ـ مجدداً ـ داخل دوائر الشرعية الدولية ..
الشئ الثانى الذى ذكره ساركوزى هو أنه سيعقد صفقات مع ليبيا تصل إلى 10 مليارات دولار سوف تساعد كثيراً فى تخفيض البطالة فى فرنسا، عبر المشاريع الكبيرة التى ستقام، والتبادلات التجارية التى ستجرى .. وكلها ستصب ـ فى النهاية ـ فى عروق الاقتصاد الفرنسى الذى سيقوى ويشكل عودة بحيث يصبح قادراً على مواجهة الاهتزازات .
وكلنا تابعنا أن ساركوزى لم يخف شيئاً وتحدث بلغة المصالح، فهدأت ثورة الغضب التى ملأت نفوس الكثيرين وساهمت فى إشعالها إضراب المعارضة الاشتراكية ..
أقول ثانية إن الرئيس ساركوزى لم يغضب دائماً وإنما تحلى بالصبر، ورفع شعار الشفافية، فانسحبت الألسن داخل الأفواه، وسارت الزيارة لما كان مقرراً لها أن تسير ـ دون مضايقات أو إزعاجات...
إن شيئاً كهذا نحتاج إليه فى بلادنا، خصوصاً بعد أن لاحظنا أن (مساحة المعتم أو المظلم) قد اتسعت حتى كادت تمس كل الدوائر الصغيرة والكبيرة، والمهمة والأقل أهمية..) ولست أرى فى ذلك تخويناً لشخص أو لجهة، ولا عدم ثقة أو مصداقية من مصدر أو ناحية، بقدر ما أراه ترجمة فعلية لممارسة ديمقراطية سليمة .. فالديمقراطية لها وجه واحد وليس ألف وجه .. وحق المواطن فى أن يعرف هو حق مطلق وليس نسبياً .. واختلاف الرؤى وارد وليس كفراً فمن حق السلطة ـ أى سلطة ـ أن تقرر ، لكن من حق المواطن أن يعرف أسباب ودوافع هذا القرار..
أقول ذلك وفى ذهنى موقفان، الأول هو الموقف المصرى من إيران ... ففى مرات كثيرة تملاً قصائد الغزل المتبادل كل الساحات، ونتابع أن مسئولين مصريين زاروا طهران وأجروا مباحثات .. وأن وزير الخارجية المصرى التقى نظيره الإيرانى وتبادلا المصافحة والابتسام ... ونسمع مصادر ـ من هنا وهناك ـ أن عودة العلاقات وشيكة (باتت قاب قوسين أو أدنى) ولم يبق سوى تسمية السفير المصرى هناك. ثم فجأة (نسمع) أن مصر قلبت ظهر المحبة لإيران، ونقرأ مانشيتات صحفية تكيل الاتهامات وتتحدث عن محاور وتستعدى الجميع ضد إيران .
وهنا أتساءل فى براءة: أليس من حقنا أن نعرف الأسباب فى الحالتين، الصعود والغزل ، والهبوط والاتهامات .. مع يقيننا بأن السياسة هى لغة المصلحة، وثقتنا فى رؤية القيادة السياسية للصالح .. لكن هذا لا يمنع من ممارسة حقنا فى أن نعرف..
الموقف الثانى الذى امتدت فيه مساحة المعتم هو الموقف من قمة دمشق ... فهبوط تمثيل مصر فى القمة هو أمر وارد، لكن عندما يلاحظ المواطن المصرى أن الدول التى خفضت تمثيلها هى الدول التى يطلق عليها محور الاعتدال ذو الصلة القوية بأمريكا .. وعندما يسمع أن هذا المحور كان يحرص على إفشال قمة دمشق .. وفى ذات الوقت يعرف المواطن المصرى أن مصر لا يمكن أن يملى عليها قرار ، وأنها لا يمكن أن تساهم فى إفشال قمة كانت هى أول دولة تناضل من أجل تكديس دورية انعقادها..
هذه الرؤية ـ والرؤية المضادة ـ تؤدى إلى إحداث حالة من البلبلة فى رأس المواطن المصرى .. وهنا أتساءل : أليس من حقه أن يعرف الصحيح من الزائف والحق من الباطل..؟
لماذا لا نقلد فرنسا التى قطعت قول كل خطيب عندما أذاعت ـ فى مؤتمر صحفى لساركوزى ـ كل البيانات والمعلومات .. أحسب أننا لو فعلنا ذلك ـ أو شيئاً شبيهاً به ـ لاتضحت الرؤية ـ ولكسب أولو الأمر ثقة ومصداقية ـ هم أهل لها ـ ولترجمنا للعالم ولأنفسنا أننا نمارس حقوقنا الديمقراطية فى بلد هو جدير بها ...
وفى اعتقادى أن ذلك ـ فى حالة حدوثه ـ سيكون سابقة يقاس عليها فى شتى السياسات الداخلية والخارجية وستتقلص رويدا رويداً المساحات المعتمة فى حياتنا وتتأكد الصلة بين الحاكم والمحكوم، وهى الصلة التى بدونها تتحول الدول الديمقراطية إلى جمهوريات موز!!






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة