اليوم .. تمر خمس سنوات على "السقوط الأخير" لبغداد، ولا أعرف فى الحقيقة ما إذا كان من قبيل المصادفة التاريخية أن يكون العراق إما محور التغيير فى المنطقة، أو سببه، أو ميدان معركته، على مدار حقب تاريخية متوالية منذ تأسست الكوفة فى القرن الهجرى الأول وحتى بنى على أطلالها "المنطقة الخضراء" فى القرن الحادى والعشرين الميلادى، وبين الزمنين كثيراً ما تكرر"سقوط بغداد".
ولا أدرك ماهى أهمية احتساب السنوات الخمس، وقد سبقها عقود من الحصاد المر، لا تقل مرارة عن الخمس العجاف، ففى فترة الحصار الاقتصادى التى بدأت فى 6أغسطس 1991 بقرار مجلس الأمن (661) بسبب غزو العراق للكويت، واستمرت حتى 2003 بحجة وجود أسلحة دمار شامل، دمر خلالها 90% من البنية التحتية للعراق، لم يتم إصلاح سوى 10% منها ضمن برنامج إعادة الإعمار الوهمى.
فى نفس الفترة هاجر من العراق نحو 23 ألف باحث وعالم وأستاذ جامعى وطبيب ومهندس كانوا يشكلون تقريباً نصف البنية العلمية للدولة، لم يعود أكثر من خمس هذه النسبة بعد سقوط بغداد، بل هاجر نحو ثلاثة أضعافها بعد السقوط وما زالوا فى المنافى ضمن حصيلة بلغت 4 ملايين و600 ألف فى الخارج ونحو 2 مليون فى الداخل، وخلال نفس الفترة كان معدل التضخم نحو 2400 % سنوياً، لم يقل مؤشره كثيرا حتى الآن ، بل إن تقرير الشفافية الدولية يؤكد أن العراق الذى كان يحقق أعلى معدلات تنمية على رأس الدول الإقليمية والنامية بناتج محلى سنوى لم يقل عن 75 مليار دولار حتى عام 1989أضحى من أعلى دول العالم فساداً مالياً وإدارياً على مدار السنوات الخمس المنقضية، رغم أنه فى حالة النمو الاقتصادى كان ينتج فقط نحو 2.5مليون برميل بترول زادت إلى 2.7 مليون برميل مع تضاعف الأسعار بعوائد قدرت رسمياً العام الماضى وحده بـ 40 مليار دولار لم تنعكس على مستوى الحياة بأى شكل من الأشكال.
وقبل ذلك كانت حرب الثمانى سنوات بدعم أمريكى سعودى لصدام حسين ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كان حصاد الدم العراقى فيها نحو 300ألف عسكرى و 400ألف مصاب وخسائر نحو 250 مليار دولار. ولو فتشنا فى التاريخ قبل هذا الزمن سنجد أن الأمر لم يختلف كثيراً فى عصور الخلافة وما بعدها ودائما ما كان يرتبط بالخارج، ويقول التاريخ نفسه إن الدسائس بين أرباب الحكم والعمالة للخارج هى العامل الرئيسى فى انهيار الحكم الذى غالباً ما كان ديكتاتورياً، ودائما ساهمت بلاد فارس فى إسقاطه.
فى المقابل، الولايات المتحدة وضعت أكبر ميزانية عسكرية لها فى التاريخ بلغت نحو 3 تريليون دولار حتى الآن ستضاف إليها 3 تريليون أخرى بحلول العام 2010 بحسب تقدير الاقتصادى النوبلى جوزيف ستيجر، نصفها ستدفعه واشنطن فى الداخل الأمريكى كتعويض لضحاياها والإنفاق الصحى على المرضى والمعاقين، ونصفها الآخر على الكلفة العسكرية فى الخليج بشكل عام، كما تنفق نحو 400 مليون دولار على أسطوليها الخامس والسادس فى المنطقة، تستفيد البحرين اقتصادياً منها بحوالى 150 مليون دولار سنوياً نظير وجود الأسطول الخامس على سواحلها، ومقابل هذا الإنفاق استفادت الولايات المتحدة فقط دون شركائها الدوليين نحو ثمانية أضعاف تلك الميزانية جراء عقود النفط فقط خلال نفس المدة، وربعها شركات الأدوية والأمن، وعلى غرارها أبرمت عقود تسلح فى المنطقة بلغت نحو 40 مليار دولار خلال العامين الماضيين فقط، كما استفادت استراتيجياً بتأمين مصالحها بشكل مباشر فى منطقة احتياطى الطاقة عالمياً، فضلا عن تحقيق قدر من الأمن لحليفتها إسرائيل التى حققت هى الأخرى أكبر استفادة اقتصادية من الحرب على العراق المعلن منها فقط نحو 100 شركة إسرائيلية لتعمل فى العراق وفى وضح النهار، تعمل فى مجالات الزراعة والأمن والمقاولات.
ما أردت أن أقوله من خلال هذه الأرقام فقط، إن السقوط الأخير لبغداد بدأ مع بداية الحرب العراقية الإيرانية، ويبقى فقط يوم 9 أبريل 2003 هو يوم مشهد السقوط.
أهمية ذلك أن تأثير هذا السقوط كان له عواقبه الوخيمة على واقع "الأمن القومى العربى"، بل كشف بجلاء أنه لم يكن هناك وجود أو مجرد تصور بسيط لـ "أمن إقليمى عربى جماعى"، فبلا أدنى شك أن ايران توحشت إقليمياً فى مقابل اختلال واضح لتوازن القوى الإقليمية، بل تجاوزت الأمر إلى حد إعلان أنها بصدد مشروع أممى يتجاوز المشروع الإقليمى بإمكانها أن تخوض فيه معارك ضد الإمبراطورية الأمريكية، التى أسدت لها خدمتين جليلتين، الأولى أنها أطاحت بالجار المقلق، والثانية أنها جاءت بنفسها إلى ميدان الفوضى، والساحة التى يمكن لإيران من خلالها بعدما كسبت أرضاً أن تتفاوض بعد ذلك على من عليها. الخلل فى ميزان القوى جاء على حساب آخر رابطة عربية خرجت منها سوريا لتنضم إلى إيران، وهو مكسب جديد لإيران يضاف إلى المكاسب السابقة.
فى هذه اللحظات، قبل خمس سنوات، كان تمثال صدام حسين يتهاوى فى ساحة الفردوس فى قلب بغداد، وهو المشهد الذى يعادله اليوم مشهد الثنائى السفير الأمريكى فى العراق ريان كروكر والجنرال ديفيد باتروس وهما يقدمان تقريرهما للجنة العسكرية فى مجلس الشيوخ عن استقرار الحالة الأمنية فى العراق مصحوباً بإبرام اتفاق أمنى يسمح ببقاء القوات الأمريكية فى العراق إلى ما شاء الله، وسبقته أجواء تمهيدية بأوامر أمريكية لتصفية جيش المهدى، وتأسيس أول قاعدة عسكرية فى خور الزبير وهو من أهم الموانى فى العراق غرب البصرة، ضمن 14 قاعدة أخرى سيتم بناؤها خلال السنوات الثلاث المقبلة، وكذب كروكر عندما قال "إن هذا الاتفاق لن يقيم قواعد دائمة فى العراق" وهى كذبة تضاف إلى 935كذبة سابقة على الشعب الأمريكى بصدد الحرب غير المبررة على العراق، وكل هذا يجىء قبل أيام من جلسة الحوار الرابعة بين طهران وواشنطن بعد أن ضمن سماسرة السلطة فى العراق عدم استخدام الأراضى العراقية لضرب طهران، وهو ضمان وهمى بموجبه تنخفض أصوات المدافع مؤقتاً حتى يتم الإطاحة بالحكومة العراقية الحالية عند أول منعطف.
ولا تقل هذه اللحظات مرارة عن الزهو العاجز الذى تتباهى به إيران، وهى تعتبر أن أمن العراق من أمنها وهى التى يحج إليها كل السماسرة من دون استثناء، رغم أنها تدير بإحكام ميليشياتها من البدريين خلفاء الحرس الثورى فى كل أنحاء العراق، ولها مكاتبها ورجالها فى كل الوزارات والهيئات العراقية، وتصدر الأدوية المفعمة بفيروس الإيدز لأطفال العراق، وتسرق آبار نفط الجنوب.
وهى نفس مرارة النصر الرخيص الذى صرح به اليوم الناطق باسم الحكومة العراقية على الدباغ وهو يتفاخر بمشهد" سقوط التمثال بحبل أمريكى الصنع ومجنزرة أمريكية، وعلى زغاريد الملايين من أبناء الشعب العراقى"!، ولا تقل مرارة أيضاً عن اعتراف الكردى مسعود البرزانى وهو يتباهى بالتغيير الديمقراطى فى الوقت الذى يقول فيه "إن طابع الصراع الدائر فى العراق الآن يتميز بالتصفيات الدموية والقتل على الهوية ومظاهر الفساد، والانفلات الأمنى والكنتونات الطائفية وتخريب مؤسسات الدولة وأجهزتها الحساسة". وربما تكون الديمقراطية التى يتباهى بها رعاة "العراق الجديد" "اللادولة" أو وكر "نصف سماسرة نصف ملالى".
ولا تقل مرارة عن لحظات المرارة المقبلة عندما يتكرر نفس اليوم من كل عام، ولن تقل مرارة عن السقوط المتوالى فى الجسد العربى، والرسوب فى اختبار تلو الآخر، لأن مشهد "السقوط الأخير" لن تضيع مرارته من الحلقوم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة