الثابت عملاً أن أوروبا بقضها وقضيضها تعجز عن مواجهة إسرائيل أو توجيه نقد أو لوم لسياسة الإبادة والاستيطان، والتى تمارس (عياناً جهاراً) ضد الشعب الفلسطينى، ورغم أن هذا العجز محسوب ـ بشكل أو بآخر ـ على أوروبا ويمثل خصماً من مكاسبها، إلا أن السياسة الأوربية حسبما يبدو تميل إلى فكرة أن الخسارة القريبة أفضل كثيراً من المكسب البعيد، لذلك أثرت السلامة وابتعدت عن أن "تماس" مع السياسة الإسرائيلية فى منطقة الشرق الأوسط.. والدليل على ذلك أن مشروع التعاون الأورمتوسطى المعروف بعميلة برشلونة، والذى انطلق فى عام 1995 قد دخل فى حالة غيبوبة منذ سنوات بسبب التعنت الإسرائيلى وإصرار الدولة العربية على بناء المستوطنات وقتل الفلسطينيين إما بالرصاص أو بالتجويع. ولكن نقلت أوروبا من مواجهة إسرائيل الصديقة والغريبة والخليفة لمعظم الدول الأوروبية استحدثت فكرة مسار 5+5، الذى يدير حواراً بين دول خمس مشاطئة للبحر المتوسط شمالاً، مع دول خمس مشاطئة للبحر المتوسط جنوباً.
ولم يكن خافياً أن أوروبا هربت من الاصطدام مع إسرائيل، ولم تكلف نفسها الضغط عليها لتنشيط مسار برشلونة ولذلك رأت أن يبتعد عن بؤرة الصراع فى منطقة الشرق الأوسط لتبحث عن تعويض آخر فى مسار 5+،5 ولأن هذا المسار هو (مسار جزئى) فلم يقف ما كانت نريده أوروبا، ناهيك عن أن صرخة الولايات المتحدة لكى تنافس القارة العجوز فى منطقة المغرب العربى، لذلك لم ير كولن باول وزير خارجية أمريكا آنذاك غضاضة فى أن يهبط فى جولة سريعة إلى الدول المغاربية، التى توقف فيها جميعاً وأجرى مناقشات دشن بها شراكة أمريكية مغاربية، قدت مضاجع الأوروبيين فى ذلك الوقت فتحدثت بروكسيل بلهجة قاسية مع المغاربة، الذين يضحون ـ من وجهة نظرها ـ بمصالحهم مع الاتحاد الأوروبى.
وكان طبيعياً أن يرد مسئول مغربى كبير، ليؤكد أن بلاده تتخذ قراراتها بشكل مستقل وتمليها عليها مصالحها وليس مصالح الأوروبيين.
على أية حال كان طبيعياً فى ظروف سياسية كهذه، تحولت إلى تراشق بالاتهامات بين المغاربة والأوروبيين، أن يتجمع مسار 5+5 هو الآخر ليلحق بمسار عملية برشلونة.
ولأن الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى الذى ينتمى لجيل لم يعايش الحروب العالمية، ومن ثم يمتلك تفكيراً ديمقراطياً يبحث عن المصلحة فقط فلقد تفتق ذهنه حتى قبيل فوزه بمقعد الرئاسة فى قصر الإليزيه عن فكرة أطلق عليها اسم الاتحاد المتوسطى، وهى تجمع بعض الدول الأوربية المشاطئة للمتوسط (شمالاً) مع الدول العربية والشرق أوسطية المطلة على البحر المتوسط (جنوباً)، ولأنه ثانياً يؤمن بجدوى التلاحم بين القارتين الأوربية والأفريقية على أن تكون منطقة حوض البحر المتوسط مركزاً لهذا التعاون، فقد حرص على أن يعطى هذه الفكرة التى يعتبرها بفخر من بنات أفكاره، زخماً قوياً بمجرد أن استتب له الأمر كقائد فى قصر الإليزيه.
لكن الدول الأوربية وقفت لفكرة ساركوزى بالمرصاد واتهمته بشتى الاتهامات مثل اعتباره مبشراً باستعمار فرنسى جديد للعالم الثالث أو برغبته فى الوقوف ضد المد الإسبانى والإيطالى فى منطقة المتوسط. وأمام ضغوط كثيرة ومضايقات شتى تعرضت لها فرنسا، لم تجد إدارة قصر الإليزيه مفراً من الهبوط بطموحاته إلى أسفل، وقبول الطروحات الأوروبية التى حدت كثيراً من الطموح الفرنسى، وكان لابد أن ينصاع ساركوزى وأنفه فى الرغام لهذه الضغوطات الأوروبية فترك عجلة القيادة مشروع الاتحاد المتوسطى فى يد أوروبا التى عدلت المسمى، ليكون عملية برشلونة: الاتحاد من أجل المتوسط. وهو ما يعنى ربط المسارين ببعضهما البعض، لكن ما كان يريد ساركوزى ويهوى.
الغريب أن الدول العربية المتشاطئة للمتوسط جنوباً قد سال لعابها أمام الإغراءات الفرنسية فقبلت مصر ـ أو هكذا يبدوـ أن تقتسم رئاسة مؤتمر الاتحاد من أجل المتوسط المقرر انعقاده فى 13 يوليو المقبل، وانتشت المغرب بعرض فرنسا الخاص بأن تنعقد لها السكرتارية الجنوبية للمشروع، أما تونس فقد فركت أيديها طلباً وسعادة لتلويح فرنسا بأنها ستكون مقراً لهذا الاتحاد.
نخلص من هذه القضية إلى عدة دروس منها أن الخلافات بين فرنسا وباقى الدول الأوروبية قد تفجرت ـ هذا صحيح ـ لكنها سرعان ما اهتدت إلى حلول مرضية للطرفين، ولم يتحدث أحد سواء فى باريس أو بروكسيل عن حرق المعبد على رؤوس أهله، فالخلاف وارد لكن التوافق وارد أيضاً وهذا ما حدث.
الدرس الثانى أن العقل السياسى العربى بات يتعين عليه أن يخرج من سكونيته (أو استاتيكيته) ويكف عن دور المتلقى للأفكار الأوروبية، فالبحر المتوسط كما كان يقول عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، هو بحرنا كما هو بحر الأوروبيين، وليس هناك ما يدعو للخوف منه، ومثلما تتفتق الذهنية الأوروبية عن أفكار خاصة بحوار الضفتين، يتعين على الذهنية العربية "المتوسطية" أن تفرز لنا أفكاراً تحتضن هذا الحوار، الذى لن تحدث نهضة فى حوض البحر المتوسط، ولن يتحول كما هو الطموح إلى بحيرة سلام وجسر اتصال لا انفصال، إلا من خلال طروحات يقدمها الشاطئان وليس شاطئ واحد.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة