ها هى النخبةُ التى نعوّلُ عليها أيها السادة! ها هى الطليعةُ التى نراهنُ أنْ ستأخذُ بيدِ هذا البلد الحزين الكابى المنكوب التعس، وتنهضُ به من كبوته المستطيلة منذ غادرَنا مصطفى مشرفة وأحمد لطفى السيد وطه حسين.
ها هو أحدُ أرباب البيت. أحدُ المشرفين فى جامعة مصرية. الجامعة! يا لَهَوْل الكلمة، وفداحة خَطَرها! ذلك الصَّرح المهيب الذى به يعلو بلدٌ فى العُلا، أو به ينحطُّ فى الدَرك الأسفل. وأيةُ كلية؟ الآداب! جمعُ لفظة: «أدب». تلك الكلمةُ التى اختارتْ لغتُنا العربية «الذكية» أن تجعلها ملتبسةً أبدا. إذْ تجمعُ، فى جِذرها اللغوىّ، ما بين كلمتى: الأدب: بمعنى التأدّب والتهذّب والخُلُق الرفيع، Politeness- Courtesy- Morals، وبين الأدب: بمعنى الإبداع، وفنون الكتابة، من نثر وشعر Literature- letters- Prose- Poetry, شاءتِ العربيةُ، اللغةُ الفذّة بين الألسن، أن تجعلَ الكلمةَ شاملة جامعةً، وملتبسةً غائمةً متأرجحة أبدا بين المعنييْن، لأنها، اللغةُ، آمنتْ أنهما: الأدبَ والتأدبَ، كلٌّ واحدٌ لا ينفصم.
فمستحيلٌ أن تصدّق أدبَ أديبٍ إذا كان الأديبُ فقيرَ الأدب والخُلق والروح. ذاك أنَّه: «لا يتكلمُ عن الأدب من عَدِمَه!» وهذه الجملةُ الفاتنة الذكية، التى اخترتُها عنوانا للمقال، قد استعرتُها من لسان الشيماء بنت الحارث، من الفيلم الذى حمل اسمها وكتب قصتَه على أحمد باكثير، حينما خاطبتْ الشيماءُ، أختُ الرسول، عكرمةَ بن أبى جهل لمّا حاولَ أن يُحرّضَ زوجَها بجاد على «تأديبها». فرمته بالجَهول، ثم قالت جملتَها: «لا يتكلمُ عن الأدبِ مَن عَدِمَه!».
أطلتِ والله فى مقدمتكِ الغَضبى! نعم، فأنا غضبى! والغضبُ يُفقِرُ غالبا المقالَ والمآلَ والقصدَ، لذا لَزِمَتْ تلك المقدمةُ كى تمتصَّ حِدّة الحُنْق من قلمى، فيصفو للكتابةِ والقول.
تصوروا معى أن يقومَ أحدُ المشرفين بكلية «الآداب» جامعة الزقازيق بتعليق قائمةٍ بأسماء الطُلاب الذين يحصلون على «إعانات» مالية من الجامعة!!! علقوا تلك القائمة السوداءَ «الصفراءَ» الرديئة جوار المدخل الرئيسىّ، مُعلنين فيها عن الدارسين ذوى الظروف المعيشية المتعسّرة ممن يتسلمون من الجامعة مبالغَ نقديةً «تافهة»، لتعينهم على نفقات الدراسة! ولم تكتفِ الجامعةُ «الأديبة المؤدبة» بذلك، بل مهرت كلَّ اسمٍ بإشارةٍ تفسيرية تشرحُ فيها، لبقية الطلاب الموسرين، سببَ استحقاقه المساعدة. فجوار اسم هذا كتبت: «كفيف»، وجوار اسم ذاك: «مُعوّق»، وجوار اسم تلك كتبت: «وفاة»، لا بمعنى أن الطالبةَ متوفاةٌ، طبعا، بل يَقصدُ، الجاهلُ الذى كتبَ القائمةَ الجَهولَ، أن عائلَ تلك الطالبة متوفَّى، ومن ثم استحقتِ المساعدة!
ولا تبرحُنى الدهشةُ أنْ يقومَ على الحركةِ التعليمية و«التأديبية» بمصرَ مثل هؤلاء بشر فقدوا المقدرةَ على التمييز بين ما يليقُ وما لا يليق! فأىَّ جيلٍ من الأصحاء روحا وفكرا ننتظرُ أن يُنتجوا؟ تلك القائمةُ إنما تكرّس لدى الطالب أن الطبقيةَ صنوُ هذا المجتمع. وأن معاركَ طه حسين من أجل مجانية التعليم لم تقمْ من أجل تذويب الفوارق بين موسر وفقير فوق مقعد الدرس، بل إن المالَ سيظلُّ أبدا سيدَّ الموقف وعمادَه، رغم أنف المجانية المزعومة.
قائمةٌ كتلك من شأنها أن تكسرَ أنفَ الطالب المُعوز، وتَحُطَّ من هامته أمام رفقائه الموسرين، وأما رفقاؤه الموسرون، فسوف تصيبهم تلك القائمةُ ذاتُها بالارتباك. فلا يعرفون أيشفقون على زملائهم المعوزين، أم يتعالون عليهم؟ أيصيبهم تأنيبُ ضميرٍ لثراء ذويهم، أم يشكرون «الحظَّ» الذى جعلهم أبناءَ أثرياء، فنجوا من القائمة البغيضة؟
والشاهدُ، كما قالت الصحفُ، أن تلك القائمةَ المُرّةَ لم تُغضبْ الطلابَ الفقراء وحسب، بل أغضبتْ بالأساس زملاءهم الموسرين أيضا. وفى هذا دلالةٌ طيبة أن تلك النبتاتِ الشابةَ الغَضّةَ تمتلكُ وعيا أكثر تطورًا ورُقِيًّا، ولديها ثقافةٌ أكثرُ أصالةً وتحضرًا من القائمين على توعيتهم وتثقيفهم! لمثل أمرٍ كهذا، فى دول متحضرة، تُقالُ وزاراتٌ وتُصحّحُ مساراتُ حكومة.
لمثل هذا يخرجُ الحاكمُ، فى بلد متحضّر، على شعبه ببيان استنكارىّ مُعتذِر! لكننى موقنةٌ أن الأمرَ سيمرُّ، مثل آلاف المهازل التى تُرتَكبُ يوميا فى حقِّ مِصريتنا، وفى حقِّ آدميتنا، دون أن ينتفضَ مسئولٌ، أو يتحركَ ساكنٌ لدى أولئك الكسالى المترهلين الذين، بليْلٍ، اعتلوا كراسى حُكمنا وأحكموا فيها قبضتهم فأراقوا كرامتَنا وآدميتَنا على مرأى ومسمع من العالمين.
ثم، من عجبٍ، نطالبُ البلدان الأخرى أن تحترمَنا، وتحفظَ كرامتنا! أنّى لنا علوّ هامةٍ بين الغرباء، وهاماتُنا مُداسةٌ تحت أقدام بنى جِلدتنا؟ المُهانُ فى بيته، مُهانٌ خارجَه، والمُصانُ من ذويه، يصونُه الآخرون.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة