سيتفقد أصدقاء يوسف أبورية رائحة الريف وطيبة «نوع» من الأقارب، سيفتقدون ملامحه الخام، ونظارته السبعينية وصوته الخفيض (والذى لا تعرف من أين يأتى؟!) وضحكته التى تجر جسده خلفها، وسيفتقد محبو أدبه «عالم المدن الإقليمية» الذى جلس إليه لكى لا تطغى المدنية على الخرافات والعلاقات البسيطة ولكى لا تكبل تقاليد القرى «الجديدة» خطوات المدن فى طريقها إلى الحداثة، ولن يغفر التاريخ لوزير المالية «المملوكى» التواطؤ مع الموت ضد واحد من الذين يصنعون ذاكرة غير مستعارة لبلدهم، الذى ينص دستوره على أن الدولة مسئولة عن علاج مواطنيها، ومع هذا يموت مواطنوها بأمراض مكتوب عليها «صنع فى مصر»، مات يوسف وقبله بأيام الشاعر الرائع محمد الحسينى «مكبودين»، ولم يطالب أحد وزير الصحة «ربنا يوسع عليه» بمليم، ولم يذهب وفد إلى رئيس الوزراء فى قريته الذكية لكى يقول له اتق الله فى كتاب ومبدعى ومثقفى مصر، الذين يشكلون معا جهاز المناعة المتبقى لهذا البلد، ويطالبوه بتنفيذ برنامج الرئيس الانتخابى، ولكن الحكومة (الحكومات المتعاقبة) وظيفتها أن تعمل ضد الموهبة.
أمير الشارقة يعرف أهمية مبدعى مصر أكثر من أمير الثقافة فاروق حسنى، وأمير الفؤاد حاتم الجبلى، وأمير القرية الذكية والوزير المملوكى، تبرع الرجل المحب بعشرين مليون جنيه لاتحاد الكتاب كوديعة يخصص ريعها لعلاج الأدباء «المصريين»، ولكن بطرس الوزير ضم المنحة لميزانية وزارة الثقافة (المجلس الأعلى للثقافة) ورفض الإفراج عنها بناء على نصيحة موظفيه (خشداشية المماليك)، فى حين أن المستشار حسن مهران، الفقيه القانونى ونائب رئيس محكمة النقض الأسبق، قال فى مذكرة لدى اتحاد الكتاب: «لا يجوز للسيد وزير المالية أن يتدخل فى أمر هبة غير ممنوحة له فى الأساس، وقد تم قبولها عبر السياق القانونى السليم، حينما أخطر رئيس اتحاد كتاب مصر وزير الثقافة بهذه المنحة، وقام الأخير باستصدار قرار من رئيس مجلس الوزراء بقبولها، إذن استوفت المنحة شكلها القانونى، وأصبحت الجهة الوحيدة التى تملك أمرها هى اتحاد الكتاب فقط».. موقف وزير المالية الذى لم يدفع من جيبه.. هو موقف السلطة من الأدباء.
فبدلا من تسيير الأمور وبدلا من «الكسوف والخجل» لأن الذى يعالج أدباء مصر غير مصرى، يتعنت بطرس الوزير، وأثناء تعنته يضيع منا كاتبان رائعان وصديقان لا يتاجران فى الحديد ولا يسقعان الأراضى ولا «يلعبان» فى الإعلام ويجدر الذكر هنا أنه منذ بداية التسعينيات تم تجييش قطاع كبير من المثقفين للوقوف مع النظام فى «خناقاته» وأحدثوا انقساما حادا فى مجتمعهم، الذين غرروا بالناس حصدوا المناصب والجوائز وإذا مرض أحدهم سافر إلى الخارج، أما الذين أخلصوا لقضايا المثقفين والوطن، وهى محاربة التطبيع مع العدو الصهيونى ومحاربة التطرف الدينى ومحاربة الفساد وإشاعة المناخ الإبداعى والحفاظ على كرامة الأمة، فمات منهم من مات، وعالج غير المصريين من أخذ الله بيدهم، فالشاعر الكبير محمد أبودومة عالجه السعوديون، والمثقف والمترجم الكبير خليل كلفت عالجه الإيطاليون، وبقى فاروق حسنى وزيرا للثقافة وفلان الفلانى «مش عارف إيه».. ولم نلحظ وجود دولة معنية بالموضوع.. مات يوسف أبورية فى موسم حصد الأرواح فى غزة، مات بمرضين لا شفاء لهما، الكبد الذى يرفض الحياة مع ملايين المصريين والحسرة والعجز أمام ما يفعله الصهاينة بأهلنا فى فلسطين المحتلة، ومما زاد الألم رحيل أستاذين عظيمين فى الأسبوع الماضى كانا معا «عنوانا» لمصر الناهضة الحرة، محمود أمين العالم الماركسى المتصوف صاحب الابتسامة العريضة التى هى أكبر من وجهه، والذى أسعدنى الحظ بالاقتراب إليه والاختلاف معه أيضا، ورفيق دربه الراهب الماركسى الشريف عبدالعظيم أنيس عالم الرياضيات الفذ الذى كان يحلم بمصر العفية ولم يقدم تنازلا ينال من كرامته ولا أفكاره، وظل عنوانا «للطهارة «الثورية» فى مواجهة رموز الزمن الجديد.. فى أيام الموت والدمار هذه، أشعر أن يدا خفية لا تريد أن يظل فى مصر حالمون عظام من أمثال يوسف أبورية ومحمد الحسينى ومحمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس.