وسط جحيم الحرب الوحشية التى شنتها إسرائيل ضد أهالى قطاع غزة جوا وبرا وبحرا، كانت الإدارة الأمريكية تلح على العالم بفكرة أن إسرائيل تقوم بذلك دفاعا عن النفس.بموازاة ذلك، واجه وزراء خارجية سبع دول عربية فى مجلس الأمن الدولى، مراوغات ومساومات وزيرة الخارجية الأمريكية، ومخادعات وزير خارجية فرنسا، وصياغات وزير خارجية بريطانيا. فى النهاية صدر القرار 1860 بصياغة ملتبسة وضعيفة عن قصد، لكن جوهره ظل المطالبة بوقف النيران. مع ذلك وضع الرئيس الأمريكى جورج بوش فى اليوم التالى مباشرة شرطين من عنده لوقف إطلاق النار، فأصبحت الإشارة واضحة لإسرائيل: ولا يهمك من قرار مجلس الأمن.
برغم التعتيم الإسرائيلى المسبق، كان العالم يتابع على مدار الساعة ،صوتا وصورة، استخدام إسرائيل للقنابل الفوسفورية وأسلحة أخرى محرمة دوليا، وهى تفعل ذلك ضد سكان مدنيين . وبين وقت وآخر تستخدم بعض هؤلاء السكان أنفسهم دروعا بشرية، لسحق سكان آخرين من جيرانهم فى أقصى درجات الخسة والجبن التى عرفتها الحروب. رأى العالم أيضا، كيف أصبح مجلس الأمن الدولى ألعوبة والأمم المتحدة نفسها يتم قصف مبانيها ومنشآتها ومدارسها فى غزة، بدل المرة الواحدة مرتين وثلاث مرات. مدن عديدة حول العالم شهدت مظاهرات غاضبة ضد التوحش الإسرائيلى، ودولتان أو ثلاث، طردت السفير الإسرائيلى. من هذا الغليان كله، تحركت مجموعة من دول عدم الانحياز تطلب التصويت العاجل فى الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع قرار من صياغتها، يدين إسرائيل ويكرر دعوتها إلى وقف الحرب.
حسب ميثاق الأمم المتحدة، فإن مجلس الأمن هو السلطة التنفيذية الأعلى، وقراراته ملزمة لجميع الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة. هو يتشكل من 15 دولة، خمسة منها دائمة العضوية، وعشرة تنتخبهم الجمعية العامة كل سنتين. أما الجمعية العامة فهى بمثابة البرلمان المعبر عن ضمير المجتمع الدولى ، وبخلاف مجلس الأمن، فإن الأعضاء متساوون فى الحقوق والالتزامات، كبرت الدولة أو صغرت. لكن قرارات الجمعية العامة هنا ملزمة فقط لمن يصوتون لصالحها، وهى فى النهاية بمثابة توصيات إلى مجلس الأمن. فإذا كان المجلس قد حدد موقفه فعلا فى قرار أصدره برقم 1860، فلماذا تعيد الجمعية العامة بحث نفس الموضوع ؟
كانت فكرة دول عدم الانحياز هنا هى تضييق الخناق على إسرائيل وأمريكا، بعد أن ضربتا بقرار مجلس الأمن عرض الحائط ،والمجزرة البشرية مستمرة فى غزة. الفكرة هى إبراز العزلة الدولية التى تحاصرهما من خلال مشروع قرار جديد. فى النهاية أصدرت الجمعية العامة قرارها فعلا يوم السبت 17 يناير، وهو يدعو إلى »وقف فورى ودائم لإطلاق النار، يؤدى إلى الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية« من غزة.
مع أنه قرار غير ملزم كما أسلفت، إلا أنه كان محققا لغرضه من عدة نواح.فمبدئيا.. كشف التصويت عن العزلة المؤكدة دوليا لأمريكا وإسرائيل.فبرغم كل ضغوط أمريكا وأكاذيب إسرائيل، صوتت 142 دولة لصالح القرار، بينما لم تصوت ضده سوى ثلاث دول هى: أمريكا وإسرائيل و...ناورو. هل توجد دولة فى العالم باسم »ناورو«؟ نعم.هى جزيرة صغيرة فى غرب المحيط الباسفيكى، وسكانها 11 ألفا ومساحتها 21 ميلا مربعا، وحكمها جمهورى، وعملتها الدولار الأسترالى. تقول إنها أقل من سكان ومساحة شارعين فى حى شبرا أو السيدة زينب .. براحتك. إنما هى دولة كاملة العضوية فى الأمم المتحدة. بل يوجد مثلها نحو عشر دول أخرى تستخدمها أمريكا وعصابات المافيا فى لحظات زنقة ،كتدبير جوازات سفر وجنسيات فورية لكبار اللصوص ،أو تصويت من هذا النوع فى الجمعية العامة للأمم المتحدة.تماما كما جرى فى مرة سابقة ،وكانت أمريكا مزنوقة فى صوت معها لصالح إسرائيل، فحصلت على مرادها من دولة اسمها ميكرونيزيا ،التى هى أيضا من جزر غرب المحيط الباسفيكى وسكانها 13 ألفا ومساحتها 271 ميلا مربعا.
إذن تضامنت جمهورية ناورو مع أمريكا وإسرائيل فى معارضة قرار من الجمعية العامة يدين إسرائيل .مقابل 142 دولة مع الإدانة. هذا إيجابى. لكن هناك بعد ذلك جانب سلبى، لم يتوقف عنده أحد من جماعتنا النبهاء الأذكياء.فإذا تذكرنا أن أعضاء الأمم المتحدة 192 دولة فهذا يعنى أن 47 دولة امتنعت عن التصويت أو سجلت غيابها. هذا تراجع ملموس فى التضامن الدولى مع القضية الفلسطينية بالقياس إلى ما اعتدناه حتى عشرين سنة سابقة. ثم هناك الأخطر. ففى سبيل حشد أكبر عدد من الأصوات لصالح مشروع القرار، اضطرت مجموعة دول عدم الانحياز صاحبة المشروع إلى شطب توصيف إسرائيل فى الصياغة المقدمة، بأنها »قوة احتلال »فى غزة. هذا يعنى أن إسرائيل نجحت فى ا لترويج لدى عدد ملموس من دول العالم، أنها لم تعد قوة احتلال فى قطاع غزة، وهى دعاية ينفيها الواقع تماما.
الغريب أن مندوب فلسطين فى الأمم المتحدة (وهو ناطق باسم سلطة محمود عباس فى رام الله، والسلطة موجودة كعضو مراقب، قد تشترك فى المداولات لكن ليس من حقها التصويت) لم يعترض على حذف صفة الاحتلال عن إسرائيل . وكان هذا سببا مباشرا فى امتناع أندونيسيا عن التصويت، لأنها كانت تسعى إلى قرار أكثر تشددا ضد إسرائيل.
قليلون أيضا لفت نظرهم ما قاله حمد بن جاسم، رئيس وزراء قطر فى مؤتمر صحفى(16/1) مفسرا فيه الظروف التى أحاطت بانعقاد مؤتمر بالدوحة، يسبق القمة العربية المقرر انعقادها فى الكويت اليوم التالى. المسئول القطرى قال: إن محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، كان مدعوا لحضور مؤتمر الدوحة ،وعندما تأخر اتصل به حمد بن جاسم سائلا: لماذا لا تحضر؟ أنت ممثل للشعب الفلسطينى، وهذه قضيتك ينعقد الاجتماع لتدعيمها. عندها رد عليه محمود عباس قائلا: حتى لو أردت الحضور فلن يعطينى الإسرائيليون تصريحا.
هنا قال له رئيس وزراء قطر بكل تأكد وثقة: نجيب لك تصريح (من إسرائيل). فإذا كان لرئيس وزراء قطر مثل ذلك النفوذ لدى إسرائيل، فلماذا لم يطلب منها وقف العدوان أصلا؟
المهم.. فى النهاية لم يحضر عباس اجتماع قطر، لكن البعض اندهش :هل سفر رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية من رام الله ـ مقره فى الضفة الغربية ـ إلى الدوحة يستلزم حصوله على تصريح من إسرائيل؟ والإجابة الغائبة هى :نعم. بل حتى لو أراد السفر من رام الله إلى غزة فلا بد له من تصريح إسرائيلى. هكذا الحال الآن ومنذ اتفاق أوسلو فى 1993.
هناك أيضا من فاجأته التصريحات الغاضبة من رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا ضد العدوان الإسرائيلى المتوحش .ففى سياق غضبه كشف لأول مرة ما لمسه هو شخصيا حينما توجه سابقا إلى رام الله للتباحث مع محمود عباس. وحسب المسئول التركى: » هل يعقل ـ وأنا رئيس وزراء دولة صديقة لإسرائيل ـ أن يتم توقيف موكبى واحتجازه لمدة نصف ساعة عند نقطة تفتيش قبل دخول رام الله ؟«. لحظتها تساءل كثيرون : وهل فى رام الله وحولها ـ وهى المنطقة المحدودة للسلطة الفلسطينية فى الضفة الغربية ـ نقاط احتجاز وتفتيش إسرائيلية ؟ والإجابة هى : لإسرائيل هناك ستمائة نقطة احتجاز وتفتيش، وتمارس عملها منذ اتفاق أوسلو وتوابعه.
لم يتذكر أحد هنا واقعة شهيرة، جرت بعد دخول ياسر عرفات وجماعته إلى قطاع غزة تنفيذا لاتفاق أوسلو فى سنة 1993 وتوابعه ترويجا لفكرة أن ثمار اتفاق أوسلو، بدأت تتجسد على الأرض بما فيها وجود سلطة فلسطينية برئاسة عرفات. وقتها كانت بنازير بوتو رئيسة لوزراء باكستان ،وأعلنت ضمن موجة الحماس التى روجها الإعلام الغربى أنها قررت السفر إلى غزة لكى تهنىء الفلسطينيين، بأن أصبحت لهم أخيرا سلطة وطنية تمارس مهامها فى أرض الواقع. بعدها بأيام أعلنت رئيسة وزراء باكستان تراجعها، لأنها اكتشفت أن سفرها إلى غزة يستلزم الحصول أولا على تأشيرة من إسرائيل، تسمح لها بذلك فى الوقت الذى لاتوجد فيه لباكستان علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، لأنها لا تعترف بها. يومها خرج إسحاق رابين ،رئيس وزراء إسرائيل فى حينها، لكى يوبخها علنا بقوله:على رئيسة وزراء باكستان أن تقرأ أولا اتفاق أوسلو وتوابعه. لكن يبدو أنها قبل ذلك تحتاج إلى تعلم القراءة والكتابة.
أقول هنا وأكرر أن نصف بلاوى الفلسطينيين يعود بالضبط إلى اتفاق أوسلو وتوابعه، وهو الاتفاق الذى استمر ياسر عرفات ومحمود عباس وجماعتهما يتفاوضان عليه مع إسرائيل سرا لخمسة أشهر كاملة، قبل أن تتم مفاجأة العالم بذلك الاتفاق/ الصفقة.لقد جرى طرح ذلك الاتفاق فى الإعلام الغربى على أنه عنوان ومدخل إلى التسوية »التاريخية«بين إسرائيل والفلسطينيين،وأنه إعلان مبادىءو يبدأ تنفيذه فى قطاع غزة أولا ،ثم غزة وأريحا (فى الضفة الغربية) تاليا، وبعدها ملاحق ومذكرات تفاهم وبروتوكولات ما أنزل الله بها من سلطان.
حتى مفاجأة اتفاق أوسلوو كانت القضية الفلسطينية مطروحة دوليا على أساس أنه: فى مقابل الاعتراف الفلسطينى النهائى بإسرائيل ،تنسحب إسرائيل بالكامل من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية (المحتلة منذ 1967). اتفاق أوسلو جاء ليقلب المعادلة .
فبينما حصلت إسرائيل على مكافأتها فى المعادلة فورا ونهائيا، يعنى الاعتراف الفلسطينى بها ونبذ أى عنف ضدها، جرى الاتفاق على تأجيل المصير النهائى للأراضى الفلسطينية المحتلة إلى مراحل ومفاوضات لاحقة وممتدة لخمس سنوات. إنما قبل ذلك يكون ياسر عرفات وجماعته، قد حصّلوا حكما ذاتيا محدودا فى شرائح صغيرة من الأرض، بما يكفى لإقامة ما جرى تسميته »السلطة الوطنية الفلسطينية«.. وبمجلس تشريعى للشئون المحلية، لا يتم الترشيح لعضويته إلا بموافقة مسبقة من إسرائيل.أيضا حصل عرفات على مبنى فى رام الله يرفع عليه علم فلسطين، ويقيم هو فيه مستقبلا الزوار أمام الكاميرات ووسط حرس شرف يضرب لهم عرفات تعظيم سلام ذهابا وإيابا.. إلخ. وبينما اندمج عرفات وجماعته فى الدور، مركزين اهتمامهم على مظاهر السلطة وقشورها، كانت إسرائيل تقلب القضية الفلسطينية رأسا على عقب وتعدل موازين القوى لصالحها فى العالم كله.
فأولا :ضاعفت إسرائيل من برنامجها لتهجير مليون مواطن من الاتحاد السوفيتى السابق إليها لتضاعف بهم مستوطناتها فى الضفة الغربية. فإذا حاول عرفات الاحتجاج ـ وهو لم يحاول كثيرا ـ أفحمته إسرائيل بردها :هل أنت اشترطت فى أى مرحلة من مفاوضاتنا وقف الاستيطان؟ لم يحدث.
أهمية ذلك المليون مهاجر سوفيتى تحديدا كانت فى كونهم جميعا متعلمين، ونسبة ملموسة منهم خبراء ومتخصصون بل وعلماء ، وبتلك الصفة فقد أصبحوا إضافة مجانية عاجلة إلى قوة إسرائيل البشرية والاقتصادية والعلمية، فضلا عن أن توطينهم فى الضفة الغربية تحديدا يخلق أمرا واقعا يصعب الارتداد عنه مستقبلا.
وثانيا: تحت غطاء اتفاق أوسلو، نجحت إسرائيل فى إقامة علاقات دبلوماسية لأول مرة مع أكثر من 65 دولة حول العالم، كانت حتى سنة 1993 تقاطع إسرائيل وترفض الاعتراف بها تضامنا مع القضية الفلسطينية. هذا التضامن جرى من قبل أن يسمع العالم بياسر عرفات أو بمنظمة »فتح« أو بكل منظمة التحرير الفلسطينية. لقد كان أساس ذلك التضامن الدولى هو علاقات دولية استثمرتها مصر أساسا لصالح القضية الفلسطينية، بدءا من مؤتمر باندونج فى سنة 1955. لكن مع مفاجأة اتفاق أوسلو، وترويج إسرائيل له عالميا باعتباره عنوان مصالحة تاريخية لها مع الشعب الفلسطينى، انقلبت الآية. فإذا كانت دول العالم المقاطعة لإسرائيل وغير المعترفة بها، بدأت ترى بانتظام على شاشات التليفزيون عناقا متكررا من عرفات لمفاوضيه الإسرائيليين، وخلفه أو فوق رأسه علم فلسطين، وإلى يمينه ويساره حرس شرف، وفرقة تعزف سلاما وطنيا فلسطينيا .. فهل تصبح تلك الدول أكثر فلسطينية من الفلسطينيين؟ هكذا تتابع اعتراف أكثر من 65 دولة بإسرائيل لأول مرة بعد 1993، وفى مقدمتها دول بحجم الصين والهند والبرازيل.
وثالثا: لأن الثابت منذ وقت مبكر، أن أطماع إسرائيل الحقيقية هى فى أراضى الضفة الغربية ، فقد ضاعفت أعداد المستوطنات والمستوطنين هناك بسرعة، حتى تفرض وقائع جديدة تضيفها إلى ما سبق. إسرائيل هنا لم تخف أهدافها بالمرة. فمنذ مؤتمر مدريد فى سنة 1991 هناك تصريح شهير لإسحاق شامير، رئيس وزراء إسرائيل فى حينها، قال فيه »سنغرق الفلسطينيين فى المفاوضات معنا لعشر سنوات على الأقل، نكون خلالها قد استكملنا تهويد الأرض، فلا يبقى فى النهاية أمامهم ما يستحق التفاوض«. وسواء تحدثنا هنا عن شامير أو إسحاق رابين أو شيمون بيريز أو نتنياهو أو شارون .. سواء فى ظل حكم حزب العمل أو الليكود أو كاديما .. فإن إسرائيل استمرت فى برنامجها الاستيطانى بكل همة على مرأى من الجميع.
ورابعا: تحت عنوان اتفاق أوسلو وغطائه، عقدت إسرائيل مع السلطة الفلسطينية ،أو سلطة الحكم الذاتى المحدود تلك ، اتفاقات بعد اتفاقات ، تجعل تلك السلطة عمليا مجرد كاريكاتير فى أرض الواقع. فى سنة 1994 مثلا، انتهت مفاوضات إسرائيلية فلسطينية فى باريس إلى اتفاق من خمسمائة صفحة، يضع الاقتصاد الفلسطينى المحدود فى موقف التبعية الكاملة لإسرائيل. فأى استيراد أو تصدير.. أى إيرادات أو مصروفات.. أى دخول أو خروج.. أى فتح أو إغلاق لمعابر وطرق مواصلات .. لابد فيه أولا من موافقة إسرائيل ورقابتها. حتى الرسوم الجمركية، إسرائيل هى التى تحصل عليها أولا، ثم توردها إلى سلطة رام الله حينما يناسبها ذلك. حتى المعونات الأجنبية إلى الفلسطينيين تدخل أولا إلى ميزانية وبنوك إسرائيل بعملتها الأصلية (الدولار أو اليورو) لكى تصرفها إسرائيل إلى سلطة رام الله بعملتها هى (الشيكل).. وهكذا.
أما فى المستوى الأمنى فإن إسرائيل هى التى تراجع مسبقا أسماء أعضاء الشرطة وأجهزة الأمن الفلسطينية فردا فردا، وهى التى توافق أو ترفض ، وهى التى تحدد لهم مستوى التسليح، ونوع الذخيرة، وأماكن تخزينها وإجراءات التفتيش عليها أولا بأول. فوق هذا كله، فإن أى أجنبى تدعوه السلطة الفلسطينية إليها أو يختار هو الذهاب إليها، يلزمه أولا الحصول على تأشيرة دخول من إسرائيل . حتى أعضاء السلطة الفلسطينية أنفسهم ، من أصغر شرطى إلى ياسر عرفات ،وبعده محمود عباس، إلى أعضاء المجلس التشريعى .. لا أحد منهم ينتقل من مدينة إلى أخرى إلا بتصريح مسبق من سلطات الاحتلال .
بالطبع يجىء فوق هذا كله، التزام السلطة الفلسطينية بالتنسيق أمنيا مع إسرائيل، وهو ما أصبح يعنى عمليا توظيف أجهزة السلطة إسرائيليا لأغراض عديدة. وحينما بادرت منظمة »حماس« بعد سنة من نجاحها الانتخابى إلى تولى السلطة فى قطاع غزة بنفسها، انقلابا على رجال فتح المعينين من محمود عباس ومحمد دحلان، كان هذا رد فعل سريعا على خطة سرية تدفع بها وزارة الخارجية الأمريكية أجهزة محمد دحلان إلى القضاء على حماس عسكريا. تلك الخطة تناولها مؤخرا بالتفصيل والتحليل نورمان أولسن، الدبلوماسى والمستشار السابق للسفارة الأمريكية فى إسرائيل، فى مقال له بجريدة »الكريستيان ساينس مونيتور » الأمريكية. كشف هذا المسئول الأمريكى السابق عن قيام وزارة الخارجية الأمريكية، بتصميم وتمويل حملة ترويجية لصالح محمود عباس ومحمد دحلان بين الفلسطينيين لمواجهة حماس، لكن تلك قصة أخرى. ما يهمنا هنا أن إسرائيل عملت بهمة على تسليط الفلسطينيين بعضهم على بعض .. فحماس ضد فتح.. وفتح ضد حماس، بينما الأرض الفلسطينية تتآكل بانتظام تحت وطأة الاستيطان.
وحينما رأى آرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل فى 2005 ، أن الوقت قد حان لكى تتخفف إسرائيل من العبء الأمنى لقطاع غزة، جرى إخراج الاتفاق فى حينها على أنه انسحاب إسرائيلى من القطاع . لكنه فى التطبيق كان مجرد إعادة انتشار، خصوصا أن إسرائيل تستمر مسيطرة على القطاع برا وجوا وبحرا. وزيادة فى الاحتياط، أبرمت إسرائيل مع سلطة محمود عباس اتفاقا خاصا بالمعابر السبعة من وإلى قطاع غزة .. ستة منها مع إسرائيل، ومعبر واحد مع مصر. محمد دحلان هو الذى فاوض إسرائيل ووقع معها اتفاق المعابر هذا.
وهو يحرر إسرائيل ظاهريا من عبء احتلال قطاع غزة .. لكنه عمليا يكفل لاحتلالها الاستمرار بتكلفة أقل .. ولأسباب تبدو فنية. هذا يعنى أن ذلك الاتفاق الأمنى ،بقدر ما كان كارثيا بالنسبة للفلسطينيين، كان خادما بالثلاثة لمصالح إسرائيل، فقد تخلصت أخيرا من عبء قطاع غزة كثيف السكان ولكنها مستمرة فى ممارسة كل سطوة الاحتلال وسيطرته على القطاع تحت غطاء من الفلسطينيين أنفسهم.
أما التطور الأخطر هنا، فهو فصل مصير قطاع غزة عن الضفة الغربية عمليا، حيث البرنامج الإسرائيلى لتوسيع الاستيطان مستمر بانتظام وهمة.. بينما الفلسطينيون أنفسهم غارقون فى الصراع بين بعضهم البعض .. وأيضا بكل همة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة