باكستان دولةٌ فقيرةٌ مثلنا، لكنها «تُكملُ عشاءَها ديموقراطيةً». هذه الجملة قالها مجدى الجلاد فى مقاله: «مَن يعزلُ الرئيس مبارك؟» بجريدة «المصرى اليوم». والجملة اشتقاقٌ فانتازىٌّ من الحكمة الدارجة المصرية «الفقير بيكمّل عشاه نوم». كان ذلك فى معرض المقارنة بين ديمقراطية باكستان «الحقيقة»، وبين لا ديمقراطيتنا، أو بالأحرى ديمقراطيتنا «الصورية». فالرئيسُ الباكستانى السابق طولبَ بالاستقالة، فاستقال، أما الرئيسُ الجديد فتخلّى طواعيةً عن بعض امتيازاته وطالبَ البرلمانَ بتقليص صلاحياته الدستورية لصالح جهات سيادية أخرى فى البلاد، طامحا، بذلك، فى دخول باكستان عصرًا ديمقراطيا مختلفا، فى حين كل ذلك نجد أن حكام الدول العربية لا يتركون مقاعدهم إلا موتى أو مغتالين، ولا بديلَ ثالثا! كأنما ثمة مادة فى الدساتير العربية تقرُّ بتأبيد هذه «الوظيفة» الحكومية إلى أجلٍ هو: «الأجل».
وأسألُ نفسى: أليس لدينا ديمقراطية حقا؟ وإذن كيف يُتاحُ لنا أن نكتبَ فى الصحف ما نكتب الآن؟ حينما زرتُ سورية لأول مرة قلتُ لأصدقائى: الميزةُ الكبرى من هذه الزيارة هى أننى سأعود إلى بلادى وأنا موقنةٌ أن لدينا قدْرًا من الحرية والديمقراطية مهولا. أما هناك فلا صحفَ معارضة، ولا أنتَ تجرؤ على أن تقول رأيا فى النظام إلا تحت أعلى درجات السريّة. يعنى أن تُسرَّ برأيك لأحد خُلصائك، وأنت وهو تتلفتان يمينا ويسارا. والأضمن دائما أن تقول رأيك لنفسك، يعنى تفكر به فى صمت. إذ لا قانون عربيا، حتى الآن، يمنعُ التفكيرَ الصامت. ليس لأن الأنظمةَ العربية تشجعُ الفكرَ والتفكير، معاذ الله، بل لأنها وحسب لا تقدر أن تقبض على الفكرة فى رأسك. ستقبضُ عليها وعليك فقط حينما تقفز الفكرةُ الملعونةُ من رأسك إلى لسانك، اللى عاوز قطعه لأنه أودى بك للتهلكة! المهم، عدتُ من سورية وأنا فرحة بمصريتى وحريتى وديمقراطيتى! صحيحٌ أننا لا نقدر أن «نخلع» رئيسا، وصحيحٌ أن انتخاباتِنا كوميديةٌ شكلانيةٌ موضوعةُ النتائج سلفا، وصحيحٌ أن المواطنَ ليس له ثمنٌ، وصحيحٌ أن ثرواتِ مصرَ كلها فى جيب نفرٍ أقلَّ من القليل، وبقية الملايين الثمانين تتأرجح فوق وتحت خط الفقر، وصحيحٌ أن أيمن نور معتقلٌ، وصحيحٌ أن الصحافيين يُعتقَلون أو يشترون حريتهم بالفلوس، إلا من رحِمَ ربى، والريّس، لكنك مع ذلك بوسعك، إن كنتَ كاتبا، أن تكتب ما تشاء، إلى حدٍّ ما، ضدّ الحكومة دون أن يوضع جسدُك فى بانيو من حامض الكبريتيك المركز، فلا يبقى منه إلا خصلةُ شعرٍ تجرى مع مياه الصرف. وبوسع كل مواطن أن يُطلق النكات التى تشاكسُ النظام فى المقاهى وعلى شاشات المحمول دون كثير خوف. أما فى بلد مثل سورية فلا تقدر مثلا أن تنطق كلمة «أسد» حتى وإن كنتَ تقصد السبعَ أو الليثَ أو الضرغامَ.
وما أقوله ليس مجازا ولا مزحة، فقد حدث أن كنتُ فى جلسة حميمية مع مجموعة من أقرب أصدقائى السوريين. وكنتُ أخبرهم عن السبب وراء اتهام الحمار، ظلما وبهتانا، بالغباء؛ بينما هو من أذكى الحيوانات. أما السببُ فلأن الحمار يخاف أكثر ما يخاف الأسد، لكنه حين يراه لا يهرب شأن أى كائن حىّ يهرب مما يخاف. بل من هول رعبه يقذفُ بنفسه على الأسد، فيلتهمه الأخير بيسر. فرماه الناس بالغباء. بينما النظرية السيكولوجية تقول إن درجةً عليا من درجات الرُهاب تُفقدُ العقلَ مقدرتَه على التفكير السليم، فيرتكب الكائنُ الحى مثل تلك الحماقات. طبعا لم أصل بحكايتى مع أصدقائى السوريين إلى هذه النقطة الخُلاصة. إذْ ما أن نطق لسانى لفظة «الأسد» حتى قفز بعضهم إلى النافذة يغلقها، وبعضهم إلى فمى يكممه، وبعضهم إلى النور يطفئه. وظننت لوهلة أن زلزالا قد وقع، أو ناقوس حرب قد قُرِع. ولما فهمت مقصدهم قلت لهم: «لا، لا، لا، أنا مش قصدى أسدكم، بل أسدنا كلنا بتاع ربنا!» فقالوا: «ولو! ممنوع لكان خايتو!» فهتفتُ تعيش مصر!
ورغم أن النظام السورى الحالى أكثر انفتاحا من سابقه، لكننى بعد برهة تأمل اكتشفتُ أن بلادا كتلك، لدى شعبها فرصةٌ للانتفاض والثورة جراء الاحتقان والتعبئة التراكميّة، بينما فى مصر فالنظام أكثر دهاءً، إذ يُفرّغ طاقةَ المواطن أولا بأول بالسماح له بأن يقول ما يشاء. ذاك أن حرية «البعبعة» عندنا تريحنا وتطهرنا وتفرّغُنا من حنقنا على قامعينا. مثلما المسرح الأرسطىّ يُطهّر النظّارةَ من خطاياهم وأوجاعهم، فيخرجون أطهارا أنقياء.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة