يسرى فودة

قبل أن تضيع فلسطين إلى الأبد

الخميس، 08 يناير 2009 10:52 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
بينما يستعد باراك أوباما لحفل تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية بعد أقل من أسبوعين، تزداد ضغوط اللوبى الصهيونى ومراكز البحث والدراسات التى ترسم عصب النظام السياسى فى أقوى دول العالم.

أنتجت هذه بالفعل عدداً من التقارير والتوصيات فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية، من بينها تقرير فى غاية الخطورة صدر أخيراً عن أحد أبرز مراكز البحث وأكثرها نفوذا،ً ولم يلتفت إليه أحد فى مصر (أدعو الله أن أكون مخطئاً فى ظنى).

رأساً على عقب يقلب التقرير فى بدايته الفلسفة التى بُنيت على أساسها ما توصف بعملية السلام فى الشرق الأوسط فيقول إنها «ركزت تقليدياً على القضايا المتنازع عليها، الصعبة عن حق، وهى الحدود والقدس واللاجئون، واعتبرتها المكونات الرئيسة لأى اتفاق إسرائيلى فلسطينى. نحن نعتقد أن هذا المنظور خاطئ». وبناءً على ذلك يتبنى التقرير صراحةً وجهة نظر إسرائيل بالتركيز على عنصر واحد: الأمن، «الأمن وحده» كما يقترح التقرير «قادر على إحياء الثقة التى يحتاجها الطرفان كى يقدما تنازلات فيما يتعلق بجوهر قضايا الحل النهائى».

لم يكن لأى إسرائيلى أن يحلم بأن يكتب كلاماً أجمل ولا ألذ من هذا يضع العربة أمام الحصان ويضع معها وهماً مهيناً فى أذهاننا بأن من شأن ذلك أن يحرك سكون القافلة. الشىء الوحيد الذى سيتحرك من هذا الوضع المقلوب هو وتيرة إسرائيل فى تغيير ملامح الواقع إلى غير رجعة، بحيث تصبح ما توصف بعملية السلام لهواً يُقصد لذاته لا أملاً فى أن تؤدى يوماً ما إلى ثمرة يرتضيها الطرفان. وهو ما يؤكد ما ذهب إليه ناعوم تشومسكى (الذى يكرهونه لأنه واحد منهم ينطق بالحق) فى تحليله لعبثية مصطلح «عملية السلام» الذى صكه اليهودى الماكر هنرى كيسينجر وزير الخارجية الأمريكى الأسبق.

صدر هذا التقرير فى 28 صفحة عن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، واشترك فى تأليفه ثلاثة يحملون ألقاباً لابد أن تُلقى خوفا وإحراجاً فى قلوب فريق أوباما الناشئ، وهم ج.د. كراوتش الثانى، مساعد الرئيس الأمريكى (بوش الصغير) ونائب مستشار الأمن القومى من 2005 إلى 2007، الذى عمل أيضاً مساعداً لوزير الدفاع لشئون سياسات الأمن الدولى، والجنرال المتقاعد مونتجومرى ميجز، الذى شارك فى العمليات العسكرية فى البوسنة، وفى عاصفة الصحراء كما كان مديراً لما يسمى «الوحدة المشتركة لمكافحة المتفجرات البدائية» فى مكتب وزير الدفاع، ووولتر ب. سلوكومب نائب وزير الدفاع لشئون السياسات فى عهد الرئيس السابق (بل كلينتون) الذى عينه بوش الصغير أحد أعضاء «لجنة القدرات الاستخبارية الأمريكية فى شأن أسلحة الدمار الشامل».

يصل هؤلاء فى نهاية تقريرهم الذى موّله اثنان من أثرياء أعضاء مجلس أمناء المعهد، هما بل وولف وكارولين إدينباوم (لاحظ أسماء العائلة فى الحالتين)، إلى ثلاثة استنتاجات رئيسة:
«فأولاً: لن تنجح عملية السلام إلا إذا قامت السلطة الفلسطينية بنشر قوات أمن راغبة فى، وقادرة على، محاربة الإرهاب بشكل يمنح إسرائيل الثقة الكافية كى تقلل من قواتها فى الضفة الغربية، وثانياً: ينبغى للجهود الأمريكية لترويج السلام بناءً على ذلك أن تتضمن استثماراً ضخماً فى تدريب وتجهيز هذه القوات الفلسطينية، وثالثاً: لن يؤدى نشر أى قوات خارجية، بما فيها قوات حلف شمال الأطلسى (الناتو) إلى إعفاء الفلسطينيين من متطلبات تأمين أراضيهم بأنفسهم»، ومن ثم يخلُص التقرير إلى اقتراح نقل ملف القضية الفلسطينية من وزارة الخارجية الأمريكية إلى وزارة الدفاع (البنتاجون).

وسوى أن هذا المنطق المعكوس يلقى بالعبء على كاهل الفلسطينيين المنهك ويصم مقاومتهم بالإرهاب ويضع فريقاً منهم أمام الآخر ويوفر أسباب استمرار شعلة فتنتهم الداخلية، فيما يخلع الدور الأمريكى من السياسة إلى الأمن ويقصره على شحذ السكين ولا يُلزم الإسرائيليين إلا بالوعود الجوفاء نفسها، مع ميزة جديدة تربط الوفاء بها وفقاً لما نفهمه من هذا التقرير بمدى نجاح فريق من الفلسطينيين على حساب فريق آخر فى الدفاع عن حدود إسرائيل وأمن أبنائها، سوى هذا كله (الذى يمكن له نظرياً أن يبقى حبراً على ورق) فإن ما يثير القلق بصورة جادة هو موقف الإدارة الأمريكية الجديدة منه، ومن منطقة الشرق الأوسط كله بشكل عام، ولنا فى هذا الأمر ملاحظتان.

فأولاً: رغم تكليف غامر من الشعب الأمريكى أتى لأول مرة برجل أسود على أسنة الرومانسية إلى البيت الأبيض، فإن ثمة دائرة انتخابية أخرى غير ظاهرة للعيان سيظل تأثيرها غير المرئى، فى إطار نظام سياسى معقد، سيفاً مسلطاً على رقبة رئيس لا يتمتع بخبرة تُذكر ويتمتع بدلاً من ذلك بخلفية شخصية أعجبت العالم كله لكنها نعمته ونقمته فى الوقت نفسه من حيث إنها، كما نتوقع، ستضعه فى كثير من الأحيان فى موقف الضعيف المضطر إلى تبرير نفسه وتصرفاته أمام تلك الدائرة الانتخابية غير الظاهرة التى تسيطر مصالح إسرائيل واليهود عليها دون شك، ومن ثم يزداد احتمال اضطراره إلى تقديم تنازلات، خاصةً أنه سيتطلع من الآن إلى أمل فترة رئاسية ثانية.

وثانياً: لا تبث اختيارات أوباما لمساعديه كثيراً من الثقة فى النفوس بأن مسألة الشرق الأوسط (وجوهرها القضية الفلسطينية) ستنال ما تستحق من اهتمام، ولا أنها حين تناله ستناله بشكل عادل. وعلى سبيل المثال فإن السيدة التى ستمسك بملف الخارجية، هيلارى كلينتون، أعلنت موقفها صراحةً فى الرابع من يونيو عام 2008 عندما قالت: «علينا أن نتحدث إلى جميع الأطراف، وعلى جميع الأطراف أن تعلم أننا سنقف دائماً إلى جانب إسرائيل فى نضالها من أجل السلام والأمن.. علينا أن نكون واضحين فى إحساسنا تجاه (احتمال) قيام رئيسنا القادم بالتفاوض مباشرة مع حماس. أما إحساسى أنا فهو أنه إلى أن تتبرأ حماس من الإرهاب وتعترف بإسرائيل فإن أمريكا لن تقبل التفاوض معها».

أمام ذلك بعثت الجامعة العربية الشهر الماضى بخطاب إلى الرئيس الأمريكى المنتخب وقعه كل من السيد عمرو موسى، الأمين العام للجامعة، والأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودى، يؤكدان فيه (مرة أخرى) أن الدول العربية على استعداد لإقامة سلام عادل دائم مع إسرائيل طبقاً لمبدأ الأرض مقابل السلام وقرارات الأمم المتحدة ومبادرة السلام العربية.

ورغم أنها رسالة جيدة فى الوقت المناسب فإن الموقف الأقوى جاء من أبرز حلفاء الولايات المتحدة فى صورة تحذير جاد على لسان وزير الخارجية البريطانى، ديفيد ميليباند: «إذا لم يتم إحراز تقدم فى حل الصراع العربى الإسرائيلى فى غضون العام الحالى (2009) فإن أفق حل قائم على أساس دولتين سيتلاشى.. إن أنشطة الاستيطان (الإسرائيلى) قد قوّضت إمكانية إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967».

الجميل فى كلام وزير الخارجية البريطانى أنه لم يأت على سبيل الاستهلاك الإعلامى أثناء مؤتمر صحفى عقب لقائه بمسئول عربى، بل أتى أثناء جلسة استجواب رسمية فى مجلس العموم البريطانى فى عقر داره، وما يحذر منه هو بعينه أحد أهداف هذا التقرير الخطير الصادر عن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى.

من المؤكد أن أحدث مذابح إسرائيل فى غزة قد رفعت قضية الشرق الأوسط درجة أو درجتين على سلم أولويات الرئيس الأمريكى المنتخب، ومن المؤكد أيضاً أن تقريراً مزعجاً كهذا سيوضع أمامه قسراً أو مكراً كأحد أبرز البدائل «الخلاّقة» المتاحة.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة