يسرى فودة

شهيد فوق العادة

الثلاثاء، 20 أكتوبر 2009 07:21 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هذه قصة غير عادية لشهيد غير عادى من أبناء القوات الجوية المصرية حصل باستحقاق لأول مرة فى تاريخ العسكرية المصرية - على نوط الشجاعة من الطبقة الأولى عن عمل غير عادى خارج إطار الحرب.

فى اليوم الأول من سبتمبر 1975 تقلع قاذفتان من قاعدة غرب القاهرة فى مهمة تدريبية عادية بالذخيرة الحية. يقود إحداهما المقدم طيار محمد عبدالوهاب كريدى ومعه مساعدوه النقيب طيار عادل الفقى والرائد ملاح سمير عبدالفتاح والنقيب ملاح المنشاوى.

فجأة يدوى صوت انفجار فى القاذفة. على سبيل الاحتياط يقرر كريدى أنه سيهبط بالقاذفة فى مطار بنى سويف، أقرب المطارات إليه بينما هو لم يبلغ المنيا بعد. لكنّ بنى سويف صارت فجأةً حلماً بعيد المنال بعدما اشتعلت النيران فى المحرك الأيسر.

لم تكن الشجاعة تنقص هذا الطيار؛ ففى يوم 8 يونيو 1967 انفصل بطائرته عن التشكيل (مما بقى فى ترسانة مصر الجوية أيامها) وتابع رتلاً من دبابات العدو فى شمال سيناء حتى دمره عن بكرة أبيه فوق كوبرى الفردان. ولم يكن ينقصه هدوء الأعصاب؛ ففى اللحظات الأولى لحرب أكتوبر 1973 دك بسبعة صواريخ مركز القيادة والسيطرة الإسرائيلى فى بئر العبد ورادار ومحطة تشويش الطاسة.

«نزّل العجَل يا عادل هننزل فى المنيا»، هتف كريدى فى مساعده الذى لا بد أنه تساءل: «أين فى المنيا؟» فى هذه اللحظات تنفجر أسطوانات الأوكسجين فى قمرة القيادة وتتجمد يدا النقيب ملاح المنشاوى إيذاناً بعودة روحه إلى بارئها. تترنح الطائرة بينما تلتهم النيران عجلات الهبوط. يهتف كريدى مرةً أخرى بمساعده النقيب طيار عادل الفقى أن يضغط على زر القفز بالمظلة، فيرفض: «لا يا كابتن، أنا معاك للآخر». يغلّظ من نبرته وهو يوجه له وللرائد ملاح سمير عبدالفتاح أمراً عسكرياً فيستجيبا على مضض ويتبخرا فجأة من الطائرة وهى على وشك الانفجار.

شريط طويل من الذكريات والبطولات يتداخل مع هدف واحد ذى طبيعة مختلفة يسيطر فى هذه اللحظات على عقله وقلبه: ألا يموت أحد من أبناء المنيا وهو فى منزله أو وهو يعبر الشارع بينما هو يمكن أن يفعل شيئاً، أى شىء، للحيلولة دون وقوع ذلك.

لم يعد هناك من بديل آخر فيفوض أمره إلى الله ويجبر عصا القيادة على وضع الغطس فى اتجاه صفحة النيل. سبحان الله؛ نشرب منه ونأكل منه ونحيا به والآن يحترق حتى نعيش. قبيل لحظة الارتطام يقفز البطل من طائرته ويتعلق بالهواء حتى يلتقى هو أيضاً بصفحة النيل بعد قليل.

يقترب أحد الصيادين لانتشاله فيتبين وجهاً مألوفاً رغم الحروق البالغة وقواماً قوى البنية رغم انكسار فى العمود الفقرى. كان كريدى قائده عندما كان هذا مجنداً فى قاعدة بنى سويف الجوية أيام حرب الاستنزاف.

يتمدد الآن على متن الطائرة المروحية التى هرولت لنقله إلى المستشفى ويغمغم بالسؤال: «إحنا فين دلوقتى؟» فيرد قائدها: «إحنا فى الإحداثى كذا مع الإحداثى كذا يافندم». ينظر كريدى إلى ساعته البريتلينج التى كان أهداه إياها الملك حسين بعد حرب أكتوبر ويستنتج: «يعنى فاضل لنا تسع دقايق ونص على المستشفى». يلتفت قائد الطائرة إليه فى احترام: «تمام يافندم، بالثانية».

عند هذه النقطة يدخل فى غيبوبة، لكن عقله كان لا يزال كما اتضح بعد ذلك مشغولاً بما حدث، بينما كان قلبه متعلقاً بأولاده. كان لا يزال فاقد الوعى عندما هرعوا به إلى غرفة العناية المركزة، ولم يفق من غيبوبته إلا حين أحس كفاً على جبينه وصوتاً لا يخطئه صوت زميله وصديق عمره المقدم طيار أحمد مصطفى حسن.

يفيق لوهلة كى يسأل: «أحمد، الطيارة موتت حد؟ ما تكدبش علىّ» فيرد أحمد: «وحياة أولادى وأولادك لأ يا محمد، إنت أنقذتهم». وبينما كانت روحه فى طريقها إلى بارئها لفظ آخر كلماته: «نفسى أشوف أولادى أحمد وعمر دلوقتى، مش عارف ليه».
تحية تقدير وعرفان إلى روح البطل محمد عبدالوهاب كريدى، فاللهم اغفر له وارحمه وارحمنا واملأ بلادنا بأمثاله.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة