فى عام 1592.. كتب الإنجليزى القدير.. وليام شكسبير.. مسرحيته الرائعة.. الملك لير.. والتى جاءت فى حوارها هذه العبارة الموجعة والقاسية.. أنت يا لاعب الكرة الحقير.. وبعد أربعمائة وسبع عشرة سنة.. تغيرت الدنيا بكل ما فيها وملامحها وتفاصيلها وقوانينها وأهلها وأيامها.. ولكن لا يزال الكاتب المصرى الكبير صلاح عيسى يصف عشق المصريين الطاغى لكرة القدم بأنه مسخرة تاريخية.. ولا يزال الكاتب المصرى القدير فهمى هويدى يصف انشغال المصريين بمباراة منتخب بلادهم أمام منتخب الجزائر بأنه لوثة فاضحة.. أى أن كل شىء فى حياتنا كان قابلا للتغيير إلا رؤية الكاتبين الكبيرين لكرة القدم ولجماهير وعشاق كرة القدم.. مع أنه لو كان شكسبير لا يزال حيا.. لتقدم باعتذاره عن رؤيته لكرة القدم التى أثبتت الأيام والسنين أنها كانت رؤية خاطئة تماما.
فقد تحولت هذه اللعبة التى رماها أصحاب المناجم الاسكتلندية للفقراء والمعذبين والمجروحين فى المستعمرات البريطانية لتصبح لهوهم وعزاءهم ودنياهم.. أصبحت الكرة بمثابة فرصة جاءت أخيرا لكل هؤلاء بعد طول عذاب وانتظار لينجحوا فى تأميمها لمصلحتهم هم ومشاعرهم.. وتصبح الكرة هى سلاح ووسيلة كل إنسان للتعبير عن كل أحزانه وأزماته وفرحته أيضا.
وكعادة آخرين.. وكثيرين.. فى بلادنا.. لم يتقبل كل من صلاح عيسى وفهمى هويدى فكرة أو مبدأ مراجعة اعتقادهما وأفكارهما بشأن كرة القدم أو بشأن أمور أخرى كثيرة.. فنحن فى مصر لا نحب هذه المراجعة.. فلم يكن صحيحا ولا لائقا أيضا ما كتبه صلاح عيسى وفهمى هويدى صباح السبت الماضى.. فى صحيفتى المصرى اليوم والشروق.. وقبل ساعات من انطلاق مباراة مصر والجزائر.. فلا كان الهوى المصرى بكرة القدم وبهذه المباراة وحلم الفرحة الجماعية بالتأهل لكأس العالم.. مسخرة تاريخية كما أكد صلاح عيسى.. ولا كان لوثة فاضحة كما أشار فهمى هويدى.. ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى تتكرر فيها رؤية الكاتبين الكبيرين لكرة القدم والوقوع فى سحرها وهواها.. وهو ما يعنى أنها رؤية باتت لديهما أشبه بالنصوص المقدسة التى لا تقبل التغيير ولا تحتمل التعديل والحذف والإضافة.. ولا أعرف لماذا كل هذا الإصرار على رؤية خاطئة.. فالاثنان ليسا مجرد كاتبين.. إنما هما اثنان من الأساتذة الذين تعلمنا منهما كثيرا من الدروس أهمها على الإطلاق القدرة على ممارسة الفكر والحب والانتماء.
ولم يكن ليعيب أيا منهما أن يراجع نفسه.. فيدرك صلاح عيسى أن هذا الاهتمام المصرى الجماعى بكرة القدم وبإحدى مبارياتها ليس إدانة للمصريين الذين باتوا فى نظر صلاح عيسى شعبا يستخدم الحذاء بدلا من العقل.. وتشغله مجرد لعبة تافهة عن عظائم الأمور وكبائر القضايا والخطايا الواقعة فى وطنهم.
ويدرك فهمى هويدى أنها ليست خطيئة أو نقيصة أن يهتم المصريون بكرة القدم وأنديتها بهذا الشكل المبالغ فيه ولا يلتفتون إطلاقا لأربعة وعشرين حزبا سياسيا فى مصر.فما لا يعرفه صلاح عيسى وفهمى هويدى حتى الآن أن كرة القدم بالنسبة لمصر الآن.. لم تعد مجرد حذاء وشورت وفانلة وصفارة حكم.. ولا هى هيستيريا جماعية أصابت المصرى فى عدوى أشبه بأنفلونزا الخنازير.. وإنما هى القضية الحقيقية التى رآها وعاشها المصريون فى بلادهم وسط كل هذا الزيف السياسى والاقتصادى والإعلامى والاجتماعى.. كرة القدم على الأقل لم تخدعهم.. لم تخذلهم.. لم تتاجر بهم.. لم تضعهم فى مؤخرة الصورة كمجرد ديكور سياسى أو فكرى.. ولعلى لست مخطئا أو متجاوزا لحدودى كأحد تلاميذ الكاتبين الكبيرين لو قلت إن المصريين.. إن رآهم صلاح عيسى يفكرون بأحذيتهم وليس عقولهم.. فهم فى منتهى الصدق والواقعية والمصالحة مع أنفسهم وأيامهم.. إن عاب عليهم فهمى هويدى أنهم يهتمون بكرة القدم أكثر من اهتمامهم بالأحزاب السياسية فى بلادهم.. فهم يثبتون أنهم أكثر ذكاء ووعيا من كاتب قدير وشهير فى حجم فهمى هويدى.. فأين هو الحزب الحقيقى الآن فى مصر الذى يستحق أن يلتفت المصريون إليه فضلا عن الإصغاء إلى قادته أو أصحابه.
ولا أملك إلا أن أبدى دهشتى من كل هذا الجمود الذى أصاب الكاتبين الكبيرين.. وأقترح على الأستاذ صلاح عيسى أن أهديه مجموعة من الدراسات العالمية عن الدور الثقافى والحضارى والاجتماعى والسياسى لكرة القدم فى عالمنا المعاصر.. لعله يتذكر كتابه القديم الرائع والأسطورى.. مثقفون وعسكر.. فيعود إلى شجن وحنين السنين القديمة ليكتب لنا من جديد.. مثقفون وكرة قدم.. أما أستاذى العزيز والرائع.. فهمى هويدى.. فأنا أدعوه لأن يتلفت حوله بعين متمهلة ومتأملة.. ليتابع بصدق وعن قرب كيف باتت كرة القدم والرياضة كلها عالما حقيقيا ومغايرا وضروريا إلى حد أن تقرر إسرائيل اعتبار الكرة أحد أهم أوراقها السياسية والدبلوماسية.. وأن تقرر إيران أن تصبح كرة القدم هى حاملة الصورة الإيرانية للعالم كله.. وأن يعتمدها الإخوان وسيلة لعبور الحرم الجامعى سواء فى جامعة الأزهر أو غيرها.. وأن يعرف فهمى هويدى أنه قد انقضى تماما ذلك الزمن الذى قرر فيه الملك الإنجليزى إدوارد.
قبل ألف عام.. تحريم كرة القدم لأول مرة فى التاريخ لأن ضوضاءها قد تتسبب فى مجىء الشياطين أعداء الله.. أو ذلك الزمن الذى حرمت فيه طالبان لعب كرة القدم أو مشاهدتها والاستمتاع بها.. لكن المسيحيين الذين لم يصغوا قديما لأمر الملك إدوارد.. بقوا يلعبون الكرة ويقعون فى غرامها.. ولم يقتنع المسلمون بفتوى طالبان ولم يحرموا الكرة أو يتجنبوها.. وفى واقع الأمر.. لم تكن كرة القدم فى أى وقت أو عصر باستثناء هاتين المرتين لعبة ضد الله أو ضد الدين.. ولا يزال واحد من أشهر وأهم مشاهد كرة القدم هو رؤية لاعبى الكرة يصلون أو يسجدون شكرا لله عقب إحراز هدف أو الفوز ببطولة أو مباراة.
ياسر أيوب
لماذا يصر صلاح عيسى وفهمى هويدى على أن كرة القدم شىء تافه وحقير؟
الخميس، 19 نوفمبر 2009 10:09 م