نحن غاضبون!
ذاكرة الغضب هذه المرة ليست مؤقتة ولا للبيع، لن تسقط بمرور سبعة أيام عليها كالعادة فتصبح مجرد ذكرى لا نملك سوى تفاصيلها البعيدة!
بعد الحادث المروع فى حوارى السودان دخلت العروبة نفقها الأخير، معلنة موتا تأخر الاعتراف به سنوات طويلة، ثلاثون عاما وأكثر، والجسد البارد فى ثلاجة الموتى، نرفض أن نصدق أو نتكلم أو نفتح سيرة الموت حتى نعيش على الذكريات ولو كانت كاذبة، نكتم السر لعل المسرحية بكل طولها وفصولها المملة تكتمل، نصمت فى براءة مصطنعة حتى يأكل المنتفعون من العروبة «عيش وملح»!
العروبة الكبيرة، عبارة صنعناها لنختبئ فيها من الحقيقة، والحقيقة أنه لم تعد هناك عروبة مطلقة، فى زمن انفتح فيه العالم على العالم، فأصبحت المصلحة -وليس الدم الواحد واللسان الواحد- هى التى تحرك البشر كما تتمم الأحداث!
لا نريد أن نصدق، فننفخ فى كل الصدور المقطوعة لعل قبلة الحياة تعيد الحياة إلى جسد ميت، وهو ميت بكل اللهجات العربية وبكل الاحتمالات العربية والتوقعات العربية والأمنيات العربية، ميت.. بالأدلة القاطعة وبتقارير كل الأطباء الذين كشفوا ووقعوا وطافوا حول الجسد فى كونسولتو سياسى اقتصادى لم يثمر شيئا!
العربى للعربى.. أوبريت لذيذ يتكاتف فيه الفنان بالفنان، يطلقون عبارات منمقة مدفوعة مسبقا ليس فيها حياة أو حياء، العربى للعربى.. يوم مفتوح على الفضائيات فى مناسبات غزو غزة أو تحليق العدو فوق الجنوب اللبنانى، العربى للعربى.. فى رسائل التهنئة بعيد الأضحى وفى حفلات هيفاء وهبى وتامر حسنى، العربى للعربى.. على روتانا سينما وفنادق ماريوت وهيلتون وشيراتون!
والعربى ليس للعربى فى غربة البرد فى لندن ونيويورك ومونتريال، ولا فى البزنس، البزنس فى جدة أو دبى أو بيروت!
ثروات العرب فى غير أماكنها المتوقعة، وجهود العرب ليست فى محلها المطلوب، وعلماء العرب وعلمهم متفرق دمه فى بلاد تعيش على عقولنا وقلوبنا ونفطنا!
يتوحد العرب بقوة على شريط الرسائل القصيرة التى تمشى بسرعة على قنوات مزيكا وميلودى، وحدة على واحدة.. أو وحدة على واحدة ونص.. أو وحدة على واحد يمزقون آخر ماتبقى له من ورقة توت!
العربى مع العربى.. جدع فى سهرة، فى جلسة، فى عزومة غداء، فى مرض، فى حالات إنسانية أحيانا.. لكنها متفرقة، لاتصنع وحدة أو عروبة أو عالما أو مجتمعا أو اتحادا قويا وحقيقيا، وعشنا ومازلنا على أمل وآمال أن الأخوة أكبر من المصلحة.. والدم أهم من العلاقات العامة.. والخريطة التى تجمعنا لونا وروحا ورائحة وقضاء وقدرا أقوى من أمريكا!
العروبة، كلمة صنعتها ظروف الاستعمار والفقر والاحتلال والقهر والذل والاحتياج إلى مدن تتساند فى يأس على كتف مدن، وتقسم اللقمة والدمعة والبرد والغضب والبارود وطلقة الرصاص، فنام الجميع على كتف مصر فى وداعة أطفال يشربون حليبها ويحتمون بقوتها ويختبئون فى دفئها الحنون، العروبة كلمة صاغتها الأيام الصعبة والأحلام الكبيرة بوطن من المحيط إلى الخليج، فإذا به ينصهر ويختصر فيصبح من قناة الجزيرة القطرية إلى شواطئ مارابيلا فى إسبانيا!
كانت العروبة سهرة الخميس فى صوت العرب مع أم كلثوم، صرخة من ميدان المنشية مع جمال عبد الناصر، ثورة فى اليمن، انقلابا فى العراق، وحدة فى سوريا، مذابح فى الجزائر.. وهكذا!
كانت العروبة، مائدة كبيرة يجلس عليها العرب ليتفقوا على من يختلف أولا، يغضبون فى طفولة لاتليق بشوارب الرجال، ويخبطون أقدامهم فى الأرض فى محاولة لأن يلفت صاحب الصخب الأكبر.. الاهتمام الأكثر!
العروبة، يجب أن تصبح عصرية.. لاعاطفية لا منطقية لا رمزية!
يجب أن نعيد تفسيرها، وأن نخرجها من المتحف إلى الحياة، ومن نشرات الأخبار إلى الحقيقة، ومن عبارات المثقفين إلى تفاصيل الشارع والناس والمصلحة.
العروبة ليست حروفا نتداولها أمام الكاميرات على هامش المؤتمرات العربية حين لانجد عبارات جديدة نؤلفها ونقولها، ولا هى تفريغ العقد النفسية فى وجه مصر على اعتبار أنها الأخت الكبيرة التى أرضعت واعتنت ومنحت من عمرها للجميع!
ولنتذكر: إن كل عربى وأى عربى يضع قرشا أو درهما فى مشروع بمصر فهو يعرف تماما أنه لا يضعه هنا باسم العروبة والدم والعواطف والشفقة.. لكنه أمام كل قرش يكسب ألفا، وكل درهم يربح مليونا!، وكل عربى يعمل فى مشروعاته مواطن مصرى يعرف أن كل ريال أو دينار يحصل عليه هو تعبه وهو شقاه وهو يوفر له إنتاجا جيدا مقابل أجر زهيد.
نحن لا نعمل مع أحد بعقد اسمه العروبة.. لكن بصفقة مربحة وشهية اسمها المصلحة!
ولو أرادت مصر بمواردها أن تصبح أغنى الدول العربية.. لاكتفت، لكن كثيرا من الدول باسم العروبة أيضا لا تريد لها ذلك!
أنا غاضب مماحدث فى السودان وماحدث من قبل وماسوف يحدث من بعد.. وأرجو أن يطول الغضب ولاننسى، هذه المرة يجب ألا ننسى، يجب ألا ننسى أننا بطيبة قلب كبيرة، بكلمة عفى عليها الزمن، بسذاجة لم يعد لها وجود إلا فى عيوننا ومن عيوبنا، هذه هى التى تورطنا بها فى حوادث السودان، أفرطنا فى مشاعرنا فبدت أجسادنا باهتة ضعيفة هزيلة هينة طرية.. وتلك الغلطة الأولى، والثانية والأكثر حزنا هى هذا الإفراط الذى خرجنا به أعلاما وفنانين وصحفيين فى القنوات الفضائية نصف بالتفصيل المريح كيف ضربنا وتمت إهانتنا!
هل هذا عقل؟ هل هذا إعلام؟ هل هؤلاء استراحوا بعد أن جعلونا باعترافاتنا وبأنفسنا وبشهادتنا.. فئرانا مذعورة!
نحن نتكلم مع أنفسنا، نتكلم فى غرف مغلقة، وأحواض زجاجية اسمها الحركى شاشات تليفزيونية مصرية، نعلق ونندد ونقرر ونحكم ونحسم ونختلف ونشكك ونتخانق، ومتى إذن نصبح معا كيانا واحدا!
متى نصبح مصريين من أجل مصر، يجمعنا بلد واحد بشعب واحد؟
متى تصبح القضايا التى نناقشها تفضح كل من يكرهون هذا الوطن الذى لا نملك سواه؟
متى نلعب لعبة جماعية مفيدة نحقق بها خطوات إلى المستقبل؟
متى نقتنع أن دور الشقيقة الكبرى لم يعد دور البطولة وأنه يسبب حساسية مفرطة تجعل الآخريين يضعون الأشواك فى طريقنا ولو ابتسموا فى وجوهنا؟
القوة.. أهم من شجرة العيلة!
والمصلحة بين الدول.. أكبر من الجينات الوراثية!
لقد كبر الأطفال وأصبح همهم الأول هو كيف يتخلصون من عقدة احترام الأخت الكبيرة التى أكلوا من طبقها وشربوا من خيرها وتكلموا على طريقتها واحتموا فى بيوتها!
غاضب من حالنا واحتلالنا بالخوف باليأس بالصمت بالعجز!
يا رب، اجعل ذاكرة الغضب تطول.. تتحرك.. تصرخ.. تنفخ فى القمر فيذهب الليل وتسطع الشمس..
صباح الخير يا عرب!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة