شاءت الظروف القاسية أن أرى عن قرب ما يحدث فيما يسمى بالتأمين الصحى، وإن كنت أرى أن التسمية المناسبة هى التأبين الصحى.. ذهبت مجبرا لمتابعة حالة قريب.. قررت فور دخولى المستشفى الأضخم بتلك الهيئة فى مدينة نصر.. وبعد وقت قصير أن أغادر إلى سيارتى..أحبس نفسى بداخلها وصفوف المرضى العجائز تمتد أمام شبابيك التذاكر.. والدواء كل شىء بالطابور.. لا يهم حالتك الصحية أو سنك حتى لو كنت فى سن السبعين.. ومن لا يعرف.. فأغلب محتاجى الرعاية فى التأمين من أصحاب المعاشات والموظفين البسطاء، فلم نسمع يوما أن مسئولا كبيرا ذهب إلى مستشفى للتأمين الصحى، فالكبار لا يذهبون إلى هناك.. هذه المستشفيات مخصصة فقط لصغار الموظفين أو حتى كبارهم من الشرفاء الذين عاشوا واقتربوا من الموت فى التأبين الصحى، ولم تمتد أيديهم إلى جيوب الآخرين.. فكل من تشملهم مظلة التأبين هذا..هم من البسطاء والفقراء الذين عاشوا شرفاء وسيموتون بفعل فاعل هو هذا التأبين.
الطريق الوحيد للنجاة من محرقة التأبين الصحى هى أن تدفع.. فإذا كنت تخشى على قريب لك أجبرتك الظروف على التعامل معهم.. أن تذهب إلى العلاج الخاص داخل التأمين.. تدفع ثمن الغرفة.. التى تصل إلى 150 جنيها يوميا.. وطبعا ليس هذا كافيا.. فعليك الذهاب إلى عيادة الأطباء الخاصة.. لتدفع لهم الفيزيتا حتى يهتموا بمريضك الذى أفنى حياته فى سبيل الوطن.. ليجد نفسه.. تحت حصار الإهمال فى انتظار قضاء الله.. أو أن تبيع أسرته كل ماتملك لتوفير العلاج المناسب له فى مكان آخر أو حتى دولة أخرى.
الغريب أن هيئة التأمين الصحى تعانى تخلفا شديدا فى مجال البحث العلمى.. وبعض الأطباء هناك لا يبالون بدراسات، ليس بسبب ضعف منهم، لكنها إدارة التأمين الصحى التى لا تتيح مجالا، حتى للعمل فى أجواء صحية.
ما لا يعرفه كثيرون أن تأثيث مكاتب الكبار فى هيئة التأبين الصحى تكلفت الملايين.. وتنافس مكاتب رؤساء الشركات المتعددة الجنسيات.. وطبعا كل ذلك من أموال الفقراء من صغار الموظفين.. الذين يتعرضون لعملية نصب كبرى.. والدليل أن الهيئة حققت فائضا كبيرا فى ميزانية العام الماضى يزيد على 300 مليون جنيه.. ولا أحد يعرف أين ذهبت تلك الأموال.. الأجهزة الرقابية نائمة فى العسل على جريمة النصب الكبرى..التى يتعرض لها أكثر من نصف الشعب المصرى.
لكن ما يحدث فى التأبين الصحى هو نموذج لما يحدث فى كل قطاعات مصر..الضمير تم دفنه وتأبينه فى أكبر الهيئات الصحية فى مصر... يا سادة الفساد فى مصر وصل إلى النخاع.. والعلاج الوحيد له هو البتر.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة