قناة الجزيرة القطرية لها أغراضها وأهدافها مثل أى وسيلة إعلامية تابعة لدولة لها مصالح وخصومات وخلافات.. ولا يختلف اثنان على أنها قناة موجهة فى قضايا محددة، وحرة فيما يتيسر لها من قضايا أخرى.. ومن الوارد جداً أن تكون موضوعية أحيانا ومغرضة وهدامة فى أحيان أخرى.. لكن فى نفس الوقت لا يخفى على أحد أن قنواتها الرياضية تعرض مادة إعلامية متطورة وعميقة ومكلفة مالياً ويستحيل أن نضعها فى موضع مقارنة مع برامجنا الرياضية فى قنواتنا العامة أو المتخصصة التى لا تتجاوز مادتها الإعلامية حدود الارتباط بنرجسية وسطحية كثير من الأشخاص، وتمتلئ بأسماء برامج متشابهة فى المضمون تحت عناوين أشبه بالإفيهات أو ملتصقة باسم المذيع أو تحمل سلسلة من الأسماء المتكررة..
يعنى من الجائز جداً أن تتحول نكتة أو قفشة إلى برنامج ومن الجائز أن تتغير آراء ومواقف المذيعين فى يوم واحد فقط أو فى نفس البرنامج إذا أبلغوهم أن فلان زعلان وبيقولكم عيب..
وهذا الإعلام الذى دخل الحمام وهو مزنوق فى أحداث مباراة مصر والجزائر وخرج منه لنقول له «شفيتم»، يمكن أن تعجب أحد رموزه كلمة «شفيتم» ويجعلها عنوانا لبرنامج عن القضايا التى تحتاج إلى إخراج ما فى البطن ليحدث الشعور بالارتياح بعدها واعتزال القضية إلى حين يهيج القولون العصبى مرة أخرى فيضغط على اللسان فيهيج هو الآخر، رغم عدم وجود علاقة بين القولون واللسان إلا فقط فى الـ «آه» المعبرة عن الألم..
لم يفرق إعلامنا التليفزيونى المزنوق دايما فى الحمام بين وجوب شن حملة لمعاقبة الخصوم المخطئين وبين شن حملة شرشحة ضد الخصوم.. هناك فارق كبير بين أن تعاقب مخطئا وتهزمه فكرياً واعلامياً وتشعره بالخجل والدونية وبين أن تنزل إلى مستواه وتنافسه فى مزيد من النزول..
الجميع غضبوا من التجاوزات الجزائرية.. ومنا من شرح لماذا وكيف تأتى الكراهية فى غير مكانها ولا زمانها.. ومنا من قال «بلاش كلام فارغ» وهم من مواليد الاتحاد الاشتراكى مصنع الشعارات التى لا تقبل التطبيق.. ومنا من خلع هدومه ونكش شعره وأطال لسانه..
وربما يكون ذلك طبيعيا فى مجتمع متنوع، لكنه غير طبيعى فى مجتمع إعلامى من المفروض أنه قرأ أو عرف شيئاً عن الرسالة الإعلامية المنقولة من مرسل إلى مستقبل وما هى أهدافها وطريقة عرضها وعناصر تأثيرها.. ومن المفارقات المذهلة أننا استيقظنا من النوم فوجدنا كل شىء تغير عن الليلة السابقة.. وجدنا غزلاً مفاجئاً مع الجزائر لا نعرف أسبابه ولا دهاليزه، وكأننا كنا فى «ميتم» ودفنا الميت وتلقينا العزاء وانتقلنا من حالة اللطم على الخدود إلى حالة الاستسلام لإرادة الله فى أن نفقد عزيزاً لدينا هى المرحومة تذكرة التأهل.. وكأنه كان مطلوباً منا أن نتلهى باللطم حتى نكشف لبلدنا العزيز أننا نحبه..
ومن فوائد الفوضى الإعلامية التى صاحبت مباراة مصر والجزائر أنها أجابت عن أسئلة قديمة حول الإعلامى الذى يستحق ممارسة مهنة الإعلام.. هل الافضل أن يكون رياضياً ممارساً لم يمارس الإعلام، أم إعلاميا مؤهلا لم يمارس الرياضة؟.. الإعلام فهموه غلط وألغوا من قاموسه الموهبة والقدرات الذهنية والدراسة وطريقة التفكير، وهى أساسيات العمل الإعلامى الذى لا يعرفه نجم اعتزل كل مؤهلاته أنه «غلباوى» ومثير للمشاكل ومثير أيضاً للشك.. ولو أن العلماء الكبار فى الاقتصاد والطب والزعماء التاريخيين فى العالم سياسياً وعسكرياً يملكون أدوات العمل الإعلامى لما ترددوا فى ممارسته مباشرة ولما اهتموا بالاستعانة بمؤسسات إعلامية ودعائية ومراكز استراتيجية لتحليل الأفكار والسياسات، ولما اقترب الصحفيون الكبار أمثال محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ومصطفى أمين وموسى صبرى وآخرين من المطبخ السياسى بالقدر الذى جعلهم شركاء فى صنع القرار وأقدر على صياغة فكر القادة والزعماء وعرضه بطريقة مثالية للتأثير فى الرأى العام..
والذين يكتبون عن الإعلام الذى يتحدث لنفسه وللناس فى محيطه الضيق ولا ينقلون حديثهم إلى الخارج، لا يتعبون أنفسهم فى البحث عن السبب.. فكيف نخاطب العالم ونحن لا نملك أدوات المخاطبة.. وإذا كان نجيب محفوظ قد حصل على جائزة نوبل فى الأدب فليس لأنه جلس على مقهى فى شارع أوروبى، بل لأنه تميز محليا أولا وامتلك الموهبة وأدوات التميز وعرف كيف ينقل الواقع المحلى ليكون فكرة عالمية.. وفى أبسط الأمثلة التى يتداولها البسطاء فى الإعلام أن الدورى المحلى القوى يؤدى إلى منتخب قوى وبالتبعية يؤدى إلى ظهور دولى قوى.. ونقيس على ذلك أيضاً ببساطة بسطاء الإعلام أن إعلاما محليا قويا يعتمد على الموضوع وليس على الفرد «المسطح» ولا تقوده السذاجة إلى درجة الامتداد ببرنامج من المغرب إلى الفجر يتناول خلافات شخصية يوهم بها الناس على أنها قضايا مهمة..
والإعلام الذى يريد أن يمتد إلى الخارج لا تبلغ به السذاجة أيضا أن يقدم مبادرة لا نظير لها فى التاريخ وهى أن تنضم قنوات متنافسة لكى تتصالح فى بث مشترك تلتقى فيه المتناقضات على فكرة مستهلكة لا خلاف عليها ولا يحتاجها المتلقى لأنها معه أصلاً.. فالوطنية خرجت تلقائية من الشارع.. وكانت فكرة البث المشترك أقرب إلى الاعتراف بالفلس الإعلامى.
إبراهيم ربيع
هل كان مطلوباً منا فقط أن نلطم الخدود على المرحومة تذكرة المونديال حتى نثبت لمصر العزيزة أننا نحبها!
الإعلاميون الفضائيون خرجوا من «الحمام»
الخميس، 17 ديسمبر 2009 11:57 م
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة