حينما أصدرت بريطانيا الإمبراطورية «وعد بلفور» فى نوفمبر 1917 وهو بيان قصير تعد فيه بتسهيل قيام وطن قومى لليهود فى فلسطين لم تكن كل دفعات يهود أوروبا الذين سبق تنظيم هجرتهم قد حازوا من أراضى فلسطين سوى أقل من اثنين بالمائة من مساحتها الكلية.
ومع الاقتراب من نوفمبر آخر، فى سنة 1947 هذه المرة، سوف تشهد القضية تحولا حاسما آخر مثله صدور قرار من الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود. ومرة أخرى، فرغم كل برامج التهجير التى نظمتها الوكالات اليهودية والصهيونية بهمة ونشاط طوال ثلاثين سنة إلى فلسطين، لم يكن اليهود فى لحظة صدور قرار التقسيم سوى ستمائة ألف مقابل فلسطينيين أكثر من ضعف هذا الرقم. مع فارق جوهرى. فهولاء أصحاب الأرض أبا عن جد وألف جد، بينما اليهود وافدون وغرباء تماما، بل حتى لم يكونوا فى معظمهم يتكلمون بلغة واحدة.
ولأننى أتناول هنا فقط أهم كتاب صدر عن سيرة حياة هارى ترومان الرئيس رقم 33 لأمريكا كتاب من 1120 صفحة وكتبه ديفيد ماكيولو، فإن نقطة البداية هى العقدة المزدوجة التى عانى منها ترومان وستعانى منطقتنا من نتائجها حتى اليوم. العقدة فى جانبها الأول كانت حقيقة أنه أصبح رئيسا لأمريكا بصدفة درامية هى وفاة الرئيس فرانكلين روزفلت بعد أسابيع من انتخابه لولاية رئاسية رابعة. بالتالى أصبح نائبه هارى ترومان هو الرئيس هارى ترومان المستمر فى المنصب لإكمال المدة الرئاسية لروزفلت. ولأنه كان عظيم الجهل بالسياسات الدولية وبالغ التواضع فى قدراته الذهنية -هذا رأى الكتاب- فقد واجه باستمرار مقارنة المواطن العادى له بالراحل روزفلت فيخسر هو فى كل مرة.
من جانب آخر أصبح حلمه الكبير المتضخم يوما بعد يوم هو أن يرشح نفسه فى الانتخابات التالية المقررة فى نوفمبر 1948 فيتحرر من ظلال روزفلت ويصبح هو رئيسا بالأصالة وليس بصدفة من القدر والتاريخ.
ومنذ أسبوعه الأول خلفا لروزفلت أصبح نفوذ القادة الصهيونيين متزايدا عليه باضطراد من خلال علاقات غامضة يكشف الكتاب بعض أسرارها. وأصبح كل هذا ينعكس فى مواقفه وتصريحاته انحيازا للمشروع الصهيونى بإقامة دولة يهودية فى جزء من فلسطين.. خصوصا مع ارتخاء القبضة العسكرية البريطانية فى فلسطين مع نهاية الحرب العالمية الثانية ونجاح يهود فلسطين فى تنظيم ميليشيات مسلحة لهم تزداد قوة وتنظيما يوما بعد يوم.
وحينما اتصل دبلوماسيون أمريكيون كبار بالرئيس ترومان لينبهوه إلى ضرورة أخذ المصالح العربية فى فلسطين فى الاعتبار كان كل تعليقه حسب ما يسجل الكتاب هو: «ليس لدى هنا فى أمريكا عدد كاف من الناخبين العرب» لمساندته انتخابيا.. لأن كل ما كان يتطلع إليه هو انتخابات الرئاسة المقررة فى نوفمبر 1948 وأن يفوز فيها بأى ثمن.
واضطر جيمس فورستال وزير الدفاع فى إدارة ترومان نفسه إلى مصارحته بأن كل أعضاء هيئة أركان الحرب المشتركة يحذرون من النتائج الفادحة لسياساته المحابية للصهيونيين على حساب المصالح الأمريكية نفسها فى الشرق الأوسط.. وأهمها ضمان وضع اليد على البترول العربى سعرا وكمية.. لحساب أمريكا وأيضا لحلفائها. لكن وزير الدفاع لم يكن يحصل من رئيسه ترومان فى كل مرة إلا على المزيد من المراوغة. وشيئا فشيئا بدأ فورستال يرى أمامه رئيسا: «بمثل هذه الرغبة فى الاستسلام أمام المنافع السياسية الرخيصة».
تجلى هذا مثلا فى موقفه بالنسبة لتقسيم فلسطين وإطلاق هجرة يهود أوروبا إليها. فالمنظمات اليهودية والصهيونية فى كل مكان كانوا يدعون ويسعون إلى تقسيم فلسطين ليقيموا مشروع دولتهم فى أكبر مساحة يطالونها، بينما الفلسطينيون ومعهم الدول العربية يعارضون هذه الدعوة بشدة وبريطانيا كسلطة انتداب ترى أن التقسيم حل غير عملى بالمرة.
ومع أن ونستون تشرشل فى ذروة سلطته كرئيس لوزراء بريطانيا طوال سنوات الحرب العالمية الثانية كان مؤيدا لفكرة الوطن القومى اليهودى، بل قال فى سنة 1944 من القاهرة «أنا صهيونى».. لكنه لم يغير من القيود التى فرضتها بريطانيا على الهجرة اليهودية إلى فلسطين منذ سنة 1939 أملا فى تهدئة العرب طوال الحرب. ومع أول انتخابات فى بريطانيا بعد الحرب سقط تشرشل وحزب المحافظين وجاء الناخبون بحزب العمال وحكومة منه برئاسة كليمنت آتلى.
كانت بريطانيا هى من الأصل صاحبة «وعد بلفور» وبفضلها أساسا مضى المشروع الصهيونى فى أرض الواقع بفلسطين فيما بين الحربين العالميتين.. الأولى والثانية. مع ذلك فها هو الرئيس الأمريكى ترومان، بمجرد انتهاء الحرب العالمية الثانية، يضغط علنا مرة بعد مرة على الحكومة البريطانية لكى تفتح أبواب فلسطين أمام يهود أوروبا. وهنا يسجل كاتب سيرته أن الحكومة البريطانية الجديدة برئاسة كليمنت آتلى أصبحت ترى أن الرئيس الأمريكى ترومان هو شخص: «موال للصهيونيين بطريقة تتسم بالطيش واللامبالاة».
هكذا وجدت بريطانيا الإمبراطورية أخيرا من يزايد عليها فى دعم المشروع الصهيونى، ووجدت أيضا أن نفس اليهود الذين ساعدت فى تهجيرهم إلى فلسطين بين الحربين بدأوا يستديرون ضدها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.. بل يحشدون أمريكا للضغط عليها لمجرد أن أمريكا بزغ نجمها لتصبح القوة العالمية الأكبر بعد الحرب.
وطوال سنة 1946 ألح الرئيس الأمريكى هارى ترومان على بريطانيا لكى تفتح أبواب فلسطين أمام هجرة يهود أوروبا، بدءا بدفعة أولى من مائة ألف يهودى. وحينما كرر ترومان طلبه هذا اضطر إيرنست بيفن وزير الخارجية البريطانى إلى السخرية علنا من إلحاح ترومان بقوله: نحن نتفهم تعاطف الرئيس الأمريكى مع اليهود إلى هذا الحد.. ونتفهم أن كل دافعه هو الحصول على أصوات انتخابية (يهودية) فى نيويورك (فى الانتخابات الأمريكية التالية)... فإذا كان الأمر كذلك، لماذا لا يقوم هو بفتح أبواب الولايات المتحدة أمام الهجرة اليهودية؟
كان السؤال بسيطا.. ومنطقيا: لماذا فلسطين؟ وإذا كانت الحجة هى اضطهاد النازية فى ألمانيا لليهود، وقبلها اضطهاد روسيا وأوروبا الشرقية لليهود، فلماذا تعاقب فلسطين العربية بدولة يهودية نيابة عن أوروبا؟
لا الرئيس الأمريكى أجاب.. ولا من سبقه أو خلفه تراجع. بل إن نفس الموال تكرر تاليا مع تفكك الاتحاد السوفييتى بعدها بعقود. فالولايات المتحدة استمرت تضغط على الاتحاد السوفييتى اعتبارا من سنة 1975 لكى يطلق هجرة مواطنيه اليهود. وفى سبيل ذلك صدر تشريع من الكونجرس الأمريكى يربط تحسن العلاقات التجارية الأمريكية مع الاتحاد السوفييتى بإطلاقه هجرة اليهود تحت لافتة «حقوق الإنسان». وحينما فعل السوفييت ذلك فعلا، مع تفكك دولتهم المركزية فى 1991 إلى خمس عشرة دولة، قامت أمريكا بإلغاء الامتيازات التى كانت تكفلها لمن يهاجر إليها من يهود سوفييت حتى ينتهى إغراء توجه مليون يهودى سوفييتى إليها.. وفى نفس الوقت وضعت إسرائيل برامج سريعة وخطوط طيران مباشرة مع جمهوريات الاتحاد السوفييتى السابق حتى يصبح الخيار الوحيد الذى يتم استدراج اليهود السوفييت إليه هو: إسرائيل.وهذا هو ما جرى بالضبط. لكن تلك قصة أخرى أضعها هنا بين قوسين.. لأعود إلى مشوار هارى ترومان مع فلسطين وإسرائيل.. ومعنا.
كان من بين مساعدى ترومان اثنان على وجه الخصوص لعبا دورا بارزا فى الكواليس لحساب المشروع الصهيونى الأساسى حينئذ وهو تقسيم فلسطين بين اليهود والعرب. أما الأول فهو كلارك كليفورد المستشار القانونى للرئيس، والثانى هو ديفيد نيلز، مساعد الرئيس لشئون الأقليات وهو يهودى. وبتعبير الكتاب فإن الاثنين معا كانا يجعلان «الصهيونيين على علم ومعرفة بكل ما يجرى فى واشنطن وداخل البيت الأبيض أولا بأول وعند كل خطوة تتعلق بفلسطين».
فى مقابل ذلك كان كل كبار المسئولين فى وزارة الخارجية الأمريكية يعتبرون أن إقامة دولة يهودية فى جزء من أرض فلسطين هو ظلم فادح للعرب وإضرار بالمصالح الأمريكية ذاتها وفى مقدمتها البترول، خصوصا بعد الدور الحاسم الذى لعبه فى الحرب العالمية الثانية. وفى إحدى المرات تضايق ديفيد نيلز اليهودى المساعد للرئيس ترومان كمستشار للأقليات من حجج مسئول بوزارة الخارجية الأمريكية فرد عليه بانفعال وحدة قائلا: (عليكم فى وزارة الخارجية أن تعرفوا) أنه بالنسبة للولايات المتحدة حاليا فإن الشىء الأكثر أهمية هو أن يفوز الرئيس ترومان فى الانتخابات القادمة.
واستعدادا للتصويت فى الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 29 نوفمبر 1949 على مشروع يقضى بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية تحول البيت الأبيض إلى ما يشبه غرفة عمليات لحشد أصوات أكبر عدد ممكن لصالح المشروع. وكان الرئيس هارى ترومان نفسه يكرس منصبه ومساعديه المباشرين لكى يرغم دولا عديدة على تغيير موقفها المبدئى السابق والتصويت لمصلحة مشروع التقسيم المحابى تماما للصهيونيين. وكان حريصا على السرية فى جزء كبير من اتصالاته بمثل ما فعل حينما استقبل سرا فى البيت الأبيض حاييم وايزمان الزعيم الصهيونى الذى جاء خصيصا من لندن ليجتمع سرا بالرئيس ترومان فى واشنطن.
كان وايزمان فى الرابعة والسبعين من العمر وهو من كبار قيادات الصهيونية العالمية وهو نفسه كان أحد مهندسى «وعد بلفور» الذى أعلنته الحكومة البريطانية فى 1917. وبعدها كرس وايزمان الجزء الأكبر من نشاطاته واتصالاته لتحويل المشروع الصهيونى إلى حقيقة من خلال دعم أمريكى ازدادت أهميته مع خروج أمريكا من الحرب العالمية الثانية قائدة لمعسكر المنتصرين.
وبترتيبات أعدها إدوارد جاكوبسون اليهودى الصهيونى الأمريكى وصديق ترومان الحميم منذ كان شريكا له فى تجارة الملابس، ذهب حاييم وايزمان إلى مقابلة الرئيس ترومان بعد إدخاله إلى البيت الأبيض من باب جانبى حرصا على السرية. وفى المقابلة لم يكن وايزمان يريد فقط ضمان الدعم الكامل من ترومان لمشروع تقسيم فلسطين قبيل التصويت عليه فى الأمم المتحدة.. لكنه يريد أيضا ضمانة شىء آخر.
لقد بسط وايزمان خريطة (للعالم العربى) على مكتب ترومان لكى يرجوه فى مطلب جديد ومهم وخطير وحاسم: أن يتم ضم صحراء النقب إلى الجزء المخصص للدولة اليهودية المقترحة فى فلسطين. وفيما بعد كتب وايزمان انطباعه قائلا: «إننى كنت سعيدا سعادة استثنائية حينما وجدت أن الرئيس قرأ الخريطة وفهمها بسرعة ووضوح».
لكن ما لم يقله وايزمان ولكن سجلته مراجع أخرى تالية فهو أن قادة الحركة الصهيونية كانوا يعلقون أهمية كبرى فى وضع أيديهم على صحراء النقب لأن هذا يضمن نهائيا فصل مصر عن أى اتصال برى بالمشرق العربى.
وبعيدا عن تلك التحركات والاتصالات غير المعلنة كانت كل الأجهزة المختصة داخل الحكومة الأمريكية ما تزال مستمرة فى مطالبة الرئيس ترومان بالتراجع عن تأييد مشروع تقسيم فلسطين قبل أن يصبح الإضرار بالمصالح الأمريكية نهائيا. فمجموعة التخطيط السياسى بوزارة الخارجية، وكان يرأسها جورج كينان الدبلوماسى العريق مبتكر سياسة «الاحتواء« الشهيرة تاليا ضد الاتحاد السوفييتى، قدمت إلى الرئيس ترومان ورقة عمل سرية أوصت فيها بألا تستمر الولايات المتحدة فى دعم مشروع خطة تقسيم فلسطين. كذلك قدمت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الناشئة حديثا تقريرا سريا آخر إلى الرئيس يعارض اقتطاع أى جزء من أراضى فلسطين لإقامة دولة يهودية.
وفى مستوى آخر أعد لوى هندرسون مدير إدارة الشرق الأدنى (الأوسط) بوزارة الخارجية مذكرة جديدة فى ذلك الخريف (1947) باعتبار فلسطين ضمن اختصاصه. وتلك المذكرة تقرر بوضوح: «إن الأغلبية الكاسحة للأمريكيين، من غير اليهود، الذين لهم معرفة وثيقة بالموقف فى الشرق الأدنى... يؤمنون بأنه ليس مما يتمشى مع المصالح القومية للولايات المتحدة أن تؤيد أى نوع من الخطط فى الوقت الحالى من أجل تقسيم فلسطين أو إقامة دولة يهودية فى فلسطين». وضاعف من أهمية مذكرة هندرسون تلك أنها اعتمدت بالدرجة الأولى على تقييم من وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) ويتنبأ بأن إقامة دولة يهودية فى فلسطين سيؤدى إلى غزو من الجيوش العربية وحرب قد لا توجد فرصة بالمعطيات القائمة لكى يكسبها اليهود.
وخلال مشاورات الأمم المتحدة فى نوفمبر (1947) فوجئ جورج مارشال، وزير الخارجية بأن الحركة الصهيونية قد أضافت أيضا إلى مشروعها التقسيمى أن تكون صحراء النقب من نصيب الدولة اليهودية المقترحة. وعارض الوزير مارشال فورا تلك الإضافة الجغرافية المفاجئة دون أن يعلم أن رئيسه ترومان قد أعطى موافقته سرا لحاييم وايزمان. لقد استمر جورج مارشال قاطعا تماما فى رفضه سياسات ترومان الموالية للصهيونيين، معتبرا أن المصالح الإستراتيجية لقوة عظمى كالولايات المتحدة يجب ألا تخضع لطموح رخيص بإعادة انتخاب رئيس.
وحسب تفسير دين راسك، مدير إدارة الأمم المتحدة بوزارة الخارجية وقتها وهو نفسه أصبح وزيرا للخارجية فيما بعد. فإن سلوك البيت الأبيض فى حينها كان يضاعف من صعوبة الموقف، وهو موقف متفجر أصلا ومتزايد العنف فى أرض فلسطين. ويرى راسك أن وزارة الخارجية لم تكن مذنبة فى ذلك بقدر ما كان السبب هو «وجود أهداف متناقضة» فى عقل الرئيس ترومان نفسه و «هذا لم يكن مفهوما لنا فى حينها. فبينما كان مارشال ونحن فى وزارة الخارجية نعمل نحو حل طويل المدى، فإن الصهيونيين كانوا يصنفون أى شخص لا يؤيد القضية الصهيونية بنسبة ألف فى المائة باعتباره مرتكبا لخيانة كبرى فى حق الرئيس» ترومان نفسه.
والرئيس ترومان، من وراء ظهر كل حكومته، كان يدير من البيت الأبيض معركة اتصالات كبرى مع الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة المتأرجحة أو المعارضة لمشروع تقسيم فلسطين الذى أصبح مطروحا فى الجمعية العامة للأمم المتحدة.
لقد استخدم الرئيس ترومان وبيته الأبيض والحركة الصهيونية وسائل شتى من الضغط والتهديد والابتزاز والرشوة والتزوير حسب حالة كل دولة. وإذا كان كاتب سيرة ترومان هنا حريصا فى الكتاب على القفز فوق هذا كله لكن كواليس قرار تقسيم فلسطين تستحق بحد ذاتها أن يتم كشفها بعد أن أصبح ممكنا توثيقها بكل دقة.
لكن إجمالا يكفى هنا أن نأخذ من المؤلف استشهاده باليوميات المكتوبة عن اتصالات إدوارد جاكوبسون غير المعلنة مع الرئيس ترومان على النحو التالى: «6 نوفمبر: واشنطن. الرئيس مايزال يدفع لإنجاح مشروع (تقسيم) فلسطين.... 17 نوفمبر: البيت الأبيض مرة أخرى... الأربعاء 26: تلقيت مكالمة من البيت الأبيض. كل شىء على ما يرام...27 نوفمبر: عيد الشكر. بعثت ببرقية من صفحتين إلى ترومان... الجمعة 28 نوفمبر: تلقيت مكالمة من سكرتيره (مات كونيللى سكرتير الرئيس ترومان). أخبرنى بألا أقلق... 29 نوفمبر: تمت المهمة».
لم تكن تلك «المهمة» بأقل من تمرير مشروع تقسيم فلسطين بين اليهود والعرب من الجمعية العامة للأمم المتحدة. ونتيجة التصويت: 33 دولة لصالح التقسيم مقابل 13 دولة معترضة وامتناع عشر دول عن التصويت.
كان القرار ظلما فادحا للفلسطينيين ولا يتطابق بالمرة مع الواقع أرضا وسكانا. من هنا أصبح تمريره مناسبة كبرى يحتفل بها الصهيونيون فى كل مكان. وآبا إيبان، اليهودى الصهيونى من جنوب إفريقيا وكان حينئذ ضابط اتصال شاب مع الوكالة اليهودية وفيما بعد وزيرا لخارجية إسرائيل، كتب عن ذلك اليوم متذكرا: «لقد كان هناك يهود دامعو الأعين.
والذين قدر لهم أن يعيشوا تلك اللحظة لن تضيع ذكراها مطلقا من قلوبهم»، وفى حشد صهيونى فى نيويورك للاحتفال بتلك المناسبة حاول عشرين ألف شخص كما يسجل المؤلف التزاحم فى قاعة الاجتماعات بشارع 34، وهو حشد يبلغ ثلاثة أمثال عدد المقاعد.
أما فى واشنطن فنتوقف عند واقعتين. فى الواقعة الأولى يذهب إدوارد جاكوبسون الصديق الصهيونى وشريك الأعمال السابق وحلقة الاتصال مع القادة الصهيونيين، إلى البيت الأبيض ليعبر عن أعمق درجات الشكر للرئيس ترومان. بعدها كتب فى يومياته مسجلا: «لقد كان حريصا، يقصد الرئيس ترومان، بعد أن أصبحنا بمفردنا على أن يقول لى إنه بمفرده هو المسئول عن التحول الذى جرى فى تصويت وفود دول عديدة» فى الأمم المتحدة.. من معارضة قرار تقسيم فلسطين إلى تأييده.
أما الواقعة الثانية فتتعلق بجورج مارشال وزير الخارجية. مع أن الرئيس ترومان كان يتفادى مواجهته سابقا ويخفى عنه أفكاره الحقيقية وعلاقاته الغامضة مع الصهيونيين، لكنه أصبح متلهفا لمعرفة رد فعل مارشال بعد تمرير قرار تقسيم فلسطين من الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وفى أول اجتماع لمجلس الأمن القومى برئاسة هارى ترومان لم يبخل جورج مارشال وزير الخارجية على رئيسه بالإفصاح عن رأيه. لقد قال له: «الآن أصبحت الولايات المتحدة تلعب بالنار.. بينما هى لا تملك حتى أى شىء تطفئ به النار».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة