محمود عوض

الكاتب الكبير محمود عوض يكتب: فلسطين فى ظــلام البيت الأبيــض

الجمعة، 20 فبراير 2009 01:31 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
جاء صدور قرار تقسيم فلسطين من الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 29/11/1947 كاشفا عن ثقل البيت الأبيض الأمريكى فى السياسات الدولية الجديدة بشكل غير مسبوق فى تاريخ «الأمم المتحدة» كمنظمة دولية وليدة.

كان القرار ضد الحق والعدل والمنطق والواقع فى فلسطين. مع ذلك نجح هارى ترومان وبيته الأبيض فى الحصول على غطاء من الأمم المتحدة للمشروع الصهيونى فى فلسطين.. وهو ما جعل جورج مارشال وزير الخارجية الأمريكى يصارح رئيسه ترومان بقوله: إن الولايات المتحدة تلعب بالنار.

وفى الجانب الآخر من المحيط الأطلنطى كان هناك من له نفس الرؤية وإن يكن لأسباب مختلفة. ففى مذكرة جرى تصنيفها على أنها «سرى جدا» كان إرنست بيفن وزير خارجية بريطانيا قد أعدها منذ وقت مبكر (14/1/1947) وقدمها لزملائه فى مجلس الوزراء، قرر بيفن أن مصالح بريطانيا هى التى تملى عليها رفض تقسيم فلسطين لأن هذا التقسيم سيغضب العرب بصورة تضع حدا للنفوذ البريطانى فى المناطق الإسلامية الممتدة ما بين اليونان والهند. وأضاف بيفن فى مذكرته «السرية جدا»: إن «قيام دولة يهودية معناه عدم قبول حدود التقسيم باعتبارها نهائية. بل إن هذه الدولة ستسعى إلى توسيع حدودها بالصورة التى تجعلها عاملا للتوتر المستمر فى الشرق الأوسط».

كان هذا التنبؤ المحدد والقاطع متناقضا تماما مع الدور الذى لعبته بريطانيا من البداية فى دعم المشروع الصهيونى فى فلسطين. ففى سياق تمددها الامبراطورى من خلال الحرب العالمية الأولى تجاوبت بريطانيا فى 1917 مع المساعى الصهيونية بإصدار «وعد بلفور» تبشر فيه بتعاطفها مع إقامة «وطن قومى» لليهود فى فلسطين. ولأن بريطانيا أصبحت تحتل فلسطين وحصلت على تفويض من منظمة «عصبة الأمم» بأن تستمر فيها باعتبارها «سلطة انتداب» فقد انفتحت فلسطين على مصراعيها أمام المشروع الصهيونى.

ونظم الصهيونيون أنفسهم فى موجات متتالية من الهجرة تقوم بتمويلها «الوكالة اليهودية»، بينما تتولى المنظمة الصهيونية العالمية العمل فى الساحة الدولية لكسب التأييد للمشروع الصهيونى، خصوصا مع الدول الكبرى ذات الطموح الاستعمارى فى الشرق الأوسط.

وكان طبيعيا أن يعم الغضب أنحاء فلسطين أمام هذه الموجات المتتابعة من يهود أوروبا، خصوصا أنه قد أقام هؤلاء مجتمعات مغلقة تتولى حمايتها تنظيمات مسلحة تزداد قوة مع توسع المشروع الصهيونى فى أرض الواقع بغطاء وتشجيع من سلطة الانتداب البريطانية. وكانت ذروة الغضب الفلسطينى فى هذا السياق هى «الثورة الكبرى» التى اشتعلت فى سنة 1936 لكى تعم فلسطين كلها، وتمتد منها إلى العالم العربى، بما فى ذلك الدول التى تحتلها بريطانيا، مثل مصر والعراق وشرق الأردن.

وفى مواجهة تلك الثورة الكبرى استخدمت بريطانيا أقصى درجات العنف لكى تكتشف فى النهاية أنه لابد من تهدئة المشاعر الفلسطينية والعربية، خصوصا بعد أن لاحت فى أوروبا نذر حرب جديدة فى الأفق تستعد لها ألمانيا النازية. وهكذا أصدرت بريطانيا فى مارس سنة 1939 «الكتاب الأبيض» الذى تضمن نقاطا محددة سترتكز عليها السياسة البريطانية الجديدة. فأولا: عدم تقسيم فلسطين بين العرب واليهود حيث تعلن بريطانيا أنها لا تسعى إلى جعل فلسطين دولة عربية أو يهودية، بل تهدف إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة خلال عشر سنوات، بعلاقات حسنة بين عنصرى السكان ومعاهدة جديدة بين بريطانيا وتلك الدولة. وثانيا: تحديد سقف نهائى للهجرة اليهودية إلى فلسطين بما لا يتجاوز 75 ألفا خلال السنوات الخمس التالية، على ألا يجوز بعد ذلك قبول المهاجرين اليهود إلا بعد موافقة العرب وبعد التأكد من قدرة البلاد الاقتصادية على استيعابهم... إلخ.

ولعل تقييد الهجرة اليهودية هنا هو الذى أعاد الهدوء إلى الشعب الفلسطينى خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. أما اليهود فقد استثمروا تلك الفترة.. محليا باستكمال كيانهم الاقتصادى والتعليمى والسياسى وشبه العسكرى.. وخارجيا بنقل ثقل العمل السياسى الصهيونى من أوروبا إلى أمريكا باعتبارها القوة العالمية البازغة والتى تتطلع هى أيضا إلى أن تكون لها مصالحها المتسعة فى الشرق الأوسط.

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية ضاعفت الوكالة اليهودية من برامج تهجير يهود أوروبا إلى فلسطين، المشروعة منها وغير المشروعة. وحينما حاولت بريطانيا إعادة الالتزام بقيود «الكتاب الأبيض» لم تتردد الميليشيات اليهودية المسلحة فى ممارسة أعمال العنف والإرهاب ضد رموز السلطة البريطانية فى فلسطين، بما دفع سلطة الانتداب البريطانى فى إحدى المراحل إلى الرد على العنف بالعنف، وقامت بحملات تفتيشية على بعض المستعمرات اليهودية التى توجد بها مخازن سلاح، كما اعتقلت عددا من القيادات الصهيونية وأصدرت أوامر بضبط واعتقال الفارين منهم، ومن بينهم مثلا إسحاق شامير (الذى سيصبح فيما بعد رئيسا للوزراء فى الدولة الجديدة).

ولأننى لا أستهدف هنا التأريخ للصراع بمجمله، فإننى أعود إلى السيرة الذاتية لهارى ترومان، الرئيس الأمريكى الذى بغير دوره الشخصى وثقل منصبه لما حصلت الحركة الصهيونية على قرار بتقسيم فلسطين من الأمم المتحدة.

لقد كان طبيعيا تماما أنه بقدر الفرحة التى عمت الحركة الصهيونية فى فلسطين وخارجها، كان الغضب العارم الذى ساد الشعب الفلسطينى والدول العربية، بل حتى الدول الأخرى المتوجسة من المشروع الصهيونى الجديد فى المنطقة. فى نفس الوقت كانت نذر «الحرب الباردة» قد بدأت بين معسكر تقوده الولايات المتحدة وآخر يقوده الاتحاد السوفيتى، وأعلنت أمريكا فى يونيو 1947 «مشروع مارشال» للمساهمة فى إعادة إعمار أوروبا الغربية تحصينا لها من الانجراف أمام التمدد الشيوعى القادم من الشرق.

وفى 17/12/1947، أى بعد صدور قرار تقسيم فلسطين بثمانية عشر يوما فقط أعدت وزارة الخارجية الأمريكية ورقة عمل لتوزيعها على أعضاء مجلس الأمن القومى برئاسة هارى ترومان نفسه، وأشارت فيها إلى استحالة تنفيذ قرار تقسيم فلسطين. ثم قدمت الوزارة ورقة أخرى فى 19/1/1948 من صياغة جورج كينان مدير إدارة التخطيط السياسى بوزارة الخارجية والذى ذاعت شهرته فيما بعد باعتباره العقل المفكر وراء سياسة «الاحتواء» التى بدأتها أمريكا ضد الاتحاد السوفيتى. فى تلك الورقة أيضا تثير وزارة الخارجية شكوكا حقيقية فى جدوى قرار تقسيم فلسطين، بالنظر إلى المعارضة العربية الشاملة ضد القرار منذ صدوره.وأشارت الورقة كذلك إلى خطأ الافتراضات التى قامت على أساسها مساندة قرار التقسيم، ودعت إلى أن تقوم الولايات المتحدة بحثّ الأمم المتحدة على إعادة بحث المسألة للتوصل إلى حل بديل.

وفى 3/2/1948 أعد دين راسك مدير إدارة شئون الأمم المتحدة بوزارة الخارجية مذكرة جديدة مشابهة شاركه فيها لوى هندرسون مدير إدارة الشرق الأدنى بالوزارة والتى تقع متابعة شئون فلسطين فى اختصاصها.فى نفس الوقت تقدم جيمس فورستال وزير الدفاع بمذكرة من جانبه يحذر فيها من التأثيرات المحتملة فى العالم الإسلامى على المصالح الأمريكية غضبا من قرار تقسيم فلسطين. وحينما اجتمع مجلس الأمن القومى فى 12 فبراير أضاف وزير الدفاع حجة جديدة بقوله إن الولايات المتحدة إذا استمرت فى دعم تقسيم فلسطين فلن يكون ذلك ممكنا إلا باستخدام قوات أمريكية مسلحة لصالح اليهود فى فلسطين.

وفى 24 /2/1948 قام وارين أوستن رئيس الوفد الأمريكى فى الأمم المتحدة بمخاطبة أعضاء مجلس الأمن الدولى، قائلا إن ميثاق الأمم المتحدة لا يمنح المجلس صلاحية فرض قرار الجمعية العامة بتقسيم فلسطين فى أرض الواقع. هذا البيان، الذى جرت صياغته بدقة وتبين فيما بعد أن جورج مارشال راجعه مسبقا كلمة كلمة، جرى تفسيره باعتباره أول تراجع أمريكى عن دعم مشروع تقسيم فلسطين.. وإن يكن بشكل غير مباشر. لهذا امتنع «تريجفى لى» السكرتير العام للأمم المتحدة ومساعده رالف بانش عن تقديم مشروع خطة كانا قد أعداها ليبحثها مجلس الأمن وتقضى بتشكيل قوة دولية مهمتها تنفيذ قرار تقسيم فلسطين.

ولم تكن المنظمات الصهيونية مستعدة للتسليم بهذا التراجع الأمريكى الضمنى عن دعم مشروع العمر بالنسبة لها فبادرت بشن حملة دعائية ضخمة تزعم فيها أن أى تراجع عن قرار التقسيم خضوعا للرفض العربى سوف يمس بهيبة الأمم المتحدة ويزعزع الثقة فى قدرتها مستقبلا على تسوية الأزمات الدولية. وخلال أسبوع واحد من شهر فبراير تلقت وزارة الخارجية الأمريكية أكثر من 22 ألف برقية تتعلق بفلسطين. وخلال أسبوعين جرى جمع 35 مليون دولار لدعم مشروعات الوكالة اليهودية فى فلسطين.

أما المثير للتأمل أكثر فهو الدور الذى لعبه الثنائى القريب من الرئيس الأمريكى فى البيت الأبيض: كلارك كليفوردالمستشار القانونى للرئيس، وديفيد نيلز مستشاره لشئون الأقليات.
بالنسبة لكليفورد مثلا تقدم فى 8/3/1948 بمذكرة تصنيفها «سرى جدا» إلى الرئيس ترومان وتطرح عليه خطة تفصيلية لفرض تقسيم فلسطين بالقوة على اعتبار أن عدم تنفيذ الأمم المتحدة لقرار التقسيم قد يؤدى إلى تدخل الاتحاد السوفيتى من طرف واحد بحجة المحافظة على السلام العالمى والدفاع عن ميثاق الأمم المتحدة. ومضى كليفورد فى مذكرته ليزعم أن عدم تنفيذ القرار الذى كانت ضغوط الولايات المتحدة وراء صدوره كفيل بضعضعة الهيبة الأمريكية فى شتى أنحاء العالم، بل ربما انهيار الأمم المتحدة ذاتها.

ثم دعا كليفورد فى مذكرته إلى أن تقوم الولايات المتحدة بمناشدة مجلس الأمن الدولى لكى يفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية ضد الدول العربية باعتبارها معتدية وتهدد السلام العالمى. كما دعت المذكرة إلى رفع الحظر الأمريكى على تصدير الأسلحة إلى الشرق الأوسط، وإلى مناشدة الأمم المتحدة لبريطانيا لكى تتعاون فى تنفيذ التقسيم، وإلى تشكيل قوة طوارئ لفرضه.

فأما بالنسبة لبريطانيا فإنها بعد صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بأيام قليلة أعلنت أنها من جانبها قررت إنهاء انتدابها على فلسطين وسحب كل قواتها وأجهزتها من فلسطين بحلول 14/5/1948 وإعادة المسألة الفلسطينية برمتها إلى الأمم المتحدة. كانت بريطانيا بهذا القرار تضرب عصفورين بحجر واحد. فمن ناحية تظهر للعالم العربى أنها لن تكون طرفا فى تنفيذ قرار تقسيم فلسطين فتحافظ على مصالحها المتسعة عربيا وفى مقدمتها البترول. ومن ناحية أخرى هى ترد ضمنيا على التلهف الأمريكى لاستصدار قرار التقسيم بأن تقول لأمريكا: تفضلى لتنفيذ القرار الذى سعيت إليه.

مع ذلك سوف نكتشف مع الوقت دوافع أخرى إضافية وراء قرار الامبراطورية البريطانية. فلا توجد امبراطورية تنسحب بهذه السهولة من موقع استراتيجى بالغ الأهمية لمصالحها باتساع إقليم بحيوية الشرق الأوسط.

فى أرض فلسطين كان طبيعيا أن يتصاعد العنف، وأن تعجل الوكالة اليهودية بتهريب المزيد من الأسلحة والمهاجرين غير الشرعيين إلى فلسطين وأن يمتد بعض هذا العنف إلى الوجود البريطانى ذاته.

لكن بعنف أو من غير عنف أدركت الحركة الصهيونية أنه بغير عودة أمريكا إلى الدعم الكامل لتقسيم فلسطين.. فلا أمل لها بالمرة فى تنفيذه فى أرض الواقع. لقد حاولت الحملة الدعائية الصهيونية فى البداية تجنب توجيه أى انتقادات إلى الرئيس ترومان أو وزير خارجيته جورج مارشال. وبدلا من ذلك تركز هجوم الحملة كلها على «لوى هندرسون» مدير إدارة الشرق الأدنى بوزارة الخارجية باعتباره رمزا لكل طاقم الوزارة المعارض من البداية لتقسيم فلسطين. وفى الحملة جرى التركيز على ضرورة طرد وفصل هندرسون من منصبه باعتباره «مواليا للعرب».

لكن الأكثر خبثا أن الرئيس ترومان استدعى هندرسون نفسه إلى مكتبه فى البيت الأبيض ليطلب منه تبرير موقفه أمام نيلز وكليفورد الأكثر صهيونية بين كل طاقم البيت الأبيض. وشعر هندرسون بأن كلا الاثنين يتعمدان إذلاله ربما فى رسالة ضمنية إلى وزيره جورج مارشال الذى لم تتم دعوته للحضور، بينما الرئيس ترومان نفسه يجلس صامتا متفرجا على «استجوابه».

وفى ذلك الاجتماع وأمام الرئيس ترومان قال هندرسون للرئيس ومساعديه: «إن جميع الآراء التى عبرت عنها فى شأن فلسطين ليست آراء شخصية لى، لكنها آراء كل وفودنا وممثلينا فى الشرق الأوسط وكل أعضاء وزارة الخارجية المعنيين بتلك المنطقة». ولم ينته «الاستجواب» إلا بوقوف الرئيس ترومان وهو يقول متأففا: أنا منصرف.

بعدها كتب هندرسون عن ذلك الاجتماع فى أوراقه الخاصة: «لقد شعرت بأن الرئيس ترومان كان ممزقا بين هاجسين. فمن ناحية هناك حرصه الشديد على كسب الصوت اليهودى فى سعيه للفوز فى انتخابات الرئاسة القادمة. ومن ناحية أخرى بدا لى أنه قلق من العواقب طويلة المدى بالنسبة للولايات المتحدة إذا استمر هو فى مساندة ودعم السياسات التى يريدها الصهيونيون.. وكما أعتقد فقد بدا لى أن الرئيس كان يأمل بطريقة يائسة فى أن تقدم له وزارة الخارجية ورقة تقول له فيها إن إقامة دولتين فى فلسطين يهودية وعربية -كما تقترح الأمم المتحدة- سيكون من مصلحة الولايات المتحدة. مع ذلك فإن وزارة الخارجية لم تكن تستطيع أن تفعل ذلك أبدا».

وكما هى العادة، لم يتبق أمام القادة الصهيونيين سوى الضغط على سلاحهم الكاسح: الرئيس ترومان. هكذا فإن حاييم وايزمان الزعيم الصهيونى البارز الذى سبق له الاجتماع بترومان غادر لندن إلى نيويورك شاعرا بـ«توتر الأحداث» على حد تعبيره. ومن مقر إقامته فى فندق «الوالدورف استوريا« حاول وايزمان الاتصال بالرئيس ترومان أو الحصول من البيت الأبيض على موعد لمقابلته.. دون جدوى. ثم حدث فى ساعة متأخرة من ليل 20 فبراير(1948).. وبينما يجلس وايزمان فى غرفته بالفندق ومعه فرانك جولدمان رئيس منظمة «البناى بريث» الصهيونية الأمريكية أن قام الأخير بالاتصال تليفونيا بإدوارد جاكوبسون اليهودى الصهيونى حلقة الاتصال المضمونة مع ترومان وشريكه القديم فى «البيزنس».

وفى منزله بكانساس سيتى، وبعد منتصف الليل، استيقظ جاكوبسون من النوم ليستمع إلى توسلات وايزمان وجولدمان بأن يساعد فى تدبير موعد يستقبل فيه ترومان حاييم وايزمان بعد أن فشلت كل المحاولات لتدبير ذلك.

لكن جاكوبسون رد قائلا: ترومان فى الأيام الأخيرة يتهرب من الرد على مكالماتى ولا يستجيب لطلبى المتكرر لمقابلته.. هناك تغيير كبير.. حتى أنا لا أستطيع فهمه.
مع ذلك شدد عليه وايزمان وجولدمان الرجاء بأن يحاول من جديد، فبعد كل ما جرى.. أصبح مشروع الدولة اليهودية يواجه احتمال الانهيار الكامل. لابد من التصرف.. وبسرعة.

فى هذه المرة لجأ جاكوبسون إلى كتابة رسالة للرئيس ترومان يتوسل إليه فيها بأن يقابل وايزمان بأسرع ما يمكن. لكن ترومان رد على الرسالة برسالة تحمل تاريخ 13 مارس 1948 ويقول له فيها إنه ليس هناك شىء جديد يستطيع وايزمان أن يقوله له. وأضاف ترومان فى رده «الموقف كما هو حاليا ليس قابلا للحل» قاصدا بالطبع الموقف بشأن فلسطين.

لكن جاكوبسون والقادة الصهيونيين الآخرين رفضوا التسليم بالهزيمة.ففى يوم السبت 13 مارس 1948 ذهب إدوارد جاكوبسون بنفسه إلى البيت الأبيض، وبغير أى موعد مسبق، وألح على سكرتير الرئيس ترومان بأهمية أن يقابله لأمور ملحة وعاجلة. وبعد تردد قال له السكرتير كونيلى: سوف أدبر لك مقابلته بعد قليل.. لكننى من الآن أحذرك بشدة.. فتحت أى ظرف عليك ألا تذكر مطلقا اسم فلسطين.

وحينما دخل جاكوبسون اختار أن يثرثر مع الرئيس ترومان أولا فى الشئون العائلية، وفى البيزنس القديم بينهما ومدى ازدهاره الآن.. وترومان يتبادل الثرثرة خصوصا وهما يجلسان بمفردهما واليوم هو السبت وجدوله غير مزدحم.

ثم طرح جاكوبسون موضوع فلسطين. وفجأة تجهم وجه ترومان وتوترت مشاعره ورد عليه بأسلوب حاد وجاف كما لم يشهده منه جاكوبسون من قبل مطلقا. وبكلمات جاكوبسون نفسه فيما بعد فإنه «بامتداد كل سنوات صداقتنا لم يحدث أن تحدث هارى معى بمثل تلك الطريقة، ولا حتى بأى طريقة تقترب منها». وفيما بعد قال ترومان نفسه لمستشاره كلارك كليفورد: «إننى لم أكن غاضبا من جاكوبسون بقدر غضبى من الناس الذين يستخدمونه للنفاذ إلـى». أما فى المقابلة نفسها فقد قال ترومان لصديقه وشريكه السابق جاكوبسون إنه غير راغب فى التحدث عن فلسطين أو اليهود أو العرب أو البريطانيين، فهو سيترك هذا كله للأمم المتحدة. لقد تحدث بمرارة عن المعاملة السيئة التى تعرض لها وكيف أن يهودا معينين بدأوا «يعاملونه بعدم احترام وبوضاعة وخسة» على حد تعبيره. وتاليا سجل جاكوبسون «لقد فكرت فجأة، وبحزن، أن صديقى العزيز رئيس الولايات المتحدة كان فى تلك اللحظة أقرب ما يمكن إلى العداء للسامية بقدر ما يستطيع إنسان أن يكون».

لم يذكر لنا كاتب سيرة ترومان لماذا أصبح الصهيونيون «يعاملونه بعدم احترام وبوضاعة وخسة».. ولا جاكوبسون نفسه فسر الأمر. كل ما ذكره هو أنه حاول الرد على ترومان بحجج مضادة. وكما كتب فيما بعد: «إننى الآن فوجئت بنفسى من حيث أن لدى كل هذه الأعصاب». لكن ترومان لم يتأثر. وجاكوبسون يشعر بأنه أصبح مسحوقا، لكنه عاد يستعطفه من جديد قائلا: «أعرف أنك تعتبر الرئيس الراحل أندرو جاكسون البطل الدائم بالنسبة لك.. أنا أيضا لدى بطل لكنه على قيد الحياة وهو فى رأيى أعظم يهودى على الإطلاق. إننى أتحدث عن حاييم وايزمان. هذا رجل مريض جدا وصحته منهارة تقريبا لكنه سافر آلاف الأميال لمجرد أن يراك ويناشدك متوسلا إليك بقضية شعبى. والآن أنت ترفض أن تراه لمجرد أنك تعرضت للإهانات من قادة يهود أمريكيين، بالرغم حتى من أنك تعرف أن وايزمان لا علاقة له قطعيا بتلك الإهانات وسيكون آخر رجل يصبح طرفا فيها. هذا لا يبدو مألوفا منك يا هارى».

وبدأ ترومان ينقر بأصابعه على المكتب ثم استدار بكرسيه معطيا ظهره لجاكوبسون ومتطلعا إلى حديقة البيت الأبيض عبر النافذة. ولفترة بدت لجاكوبسون كما لو كانت قرونا لم يتفوه أى منهما بكلمة. وفجأة استدار ترومان بكرسيه قائلا: «أنت تكسب أيها الأصلع ابن الحرام. سوف أراه».. قاصدا حاييم وايزمان.

ومن البيت الأبيض تمشى جاكوبسون فورا ومباشرة متجها إلى أقرب «بار» رآه. وكما لم يفعل فى أى مرة سابقة طوال حياته بدأ يحتسى كاسات مضاعفة من البوربون.
بعدها بيومين أشار استطلاع جديد للرأى من مركز جالوب إلى أنه بصرف النظر عن ما يفعله أو لا يفعله الرئيس ترومان من الآن فصاعدا فإنه سيخسر انتخابات الرئاسة المقررة فى نوفمبر أمام أى من أربعة مرشحين جرى ذكرهم.

وبعد قليل من حلول الظلام مساء الخميس 18 مارس (1948).. وتفاديا لأن يراه الصحفيون.. جرى اصطحاب حاييم وايزمان فى هدوء إلى البيت الأبيض عبر مدخل جانبى. والرئيس ترومان شدد مسبقا على أن تكون هذه المقابلة سرية، وكذلك شدد على عدم إخطار وزارة الخارجية بها وقتها أو مستقبلا. وظل ذلك الاجتماع الغامض وما جرى فيه بمكتب الرئيس الأمريكى سرا مغلقا على الحكومة الأمريكية كلها لعدة سنوات تالية.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة